اليوم الخامس عشر: إنّ الله مع الصابرين
لعلّ الناس يفهمون الابتلاء بلغطٍ واضحٍ، وحقيقة ذلك منبعه من عدم درايتهم بالمسألة من وجهها المشروع، فيظّنون أن المرء يؤجر علىٰ الابتلاء، ويتناسون أن الأجر لا يكمل إلَّا بصبرهم علىٰ ذلك. ولو وعوا هذا الطرح لاستقامت لهم نفوسهم وفق المعنىٰ الذي نعرفه عن الصبر.
ولا أدري كيف تصبر بعض النفوس علىٰ عدم صبرها، أعني ما رأيتُ الجزع يغني عن المرء شيئاً، ولو كان الدموع تعيد ما تأسّىٰ عليه الإنسان، لما عاش في الأرض سعيد. فيحضرني مشهدٌ لأعظم الخلق، يوم وقف سعيداً وقد رُزِق بولدٍ بعد أن شارف علىٰ نهاية المسير، نظر وهو في الستين من عمره إلىٰ ولده ابراهيم، وفي عينه نظرة الأب لابنٍ له يراه بعد سنين من آخر واحدٍ قد توفي صغيراً، فلكأنّي أراه مستبشراّ ومهلّلاً، يبشّر أصحابه بولده، ويذبح له عقيقته. والنَّاس في فرحاً وسرور لنبيهم إذا رُزِق ولده الوحيد في آخر عمره. ثم ما إن مضت أشهرٌ معدودة، حتَّىٰ جاء الخبر الَّذي ساد الحزن فيه المدينة، وخشعت أصوات السرور لحضرة الموت، فيلتقط عظيمنا ابنه، ويراه يحتضر، وليس له من حيلته شيء، وعيونه تذرف الدموع التي كانت قد مُلِئت فرحاً من قبل، ثم يقبله ويقول صابراً متصبّراً: «والله إنّ العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنّا علىٰ فراقك يا ابراهيم لمحزونون». ثم ما إن يضع ليواريه التراب، حتَّىٰ يُشاع بين الناس وقد انكسفت الشمس، أنّها ما انكسف إلَّا لموت ابن رسول الله، فيترك عنه ما فيه من الحزن إلىٰ ما فيه من خير أمته، وخوفه عليهم أن تعود الجاهلية فيهم دائرتها الأولىٰ، فيقول: «إنّ الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يُخسفان لموت أحدٍ ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك؛ فافزعوا إلىٰ ذكر الله».
لم أجدني يوماً حين أتحدث عن الصبر لأبصر أروع من ذلك المشهد، ولو كان حِلّاً تجسيد الأنبياء لوددتُ لو رأيتُ هذا المشهد، علىٰ أنّ التمثيل يُذهب من عظمته. فأترك المشهد لفضاء مخيّلتي لتطير إلىٰ عالم من التأمل في رموز هذه الحكاية، لأراه قد تمثّل أمامي، أو كأنّني رحتُ بنفسي إلىٰ هنالك. ومن ذلك بأقل درجةٍ، حين قدم عروة بن الزبير -رضي الله عنه وعن أبيه- إلىٰ الشام، وقد قالت له الأطباء أن لابد من لزوم قطع قدمك لداء عرض بها، فقال لهم اتركوني أسجد، فإن سجدتُ غشيتني الطمأنينة، فيخفّ وقع الألم علي، ففعلوا، فقطعوها وهو صابرٌ محتسبٌ، لكأنّ الإيمان قد سرىٰ في جسده، فأوقف خلايا الإحساس بالألم، إذ لا يُعقل أن يُنشر اللحم والعظم بالجلد ثم يصمد المرء عادةً، لكنّ في طمأنينة الصبر والتسليم، واليقين بعون الله الذي لا ينفد جعّله صابراً، وأوضعوها بالزيت ليلتحم اللحم، فأُغمي عليه. فأفاق إلىٰ خبر أوقع في النفس من فقدان رجلٍ، أتاه نعي ابنه. فما هو إلَّا أن نطق يقول: الحمد لله، أخذ عضوٌ وأبقىٰ ثلاث، وأخذ ابناً وأبقىٰ ثلاث.
فأيننا من ذلك صبراً؟! لعلّي أرواح نفسي تقذيعاً حين أقرأ مثل هذا، فتأنّ نفسي من بعض المشاكل التي هي كقياس اللمم للعظائم، ثم أراني لا أصبر علىٰ بعض مضاضات الحياة، ولا أحتمل بعض المرارات والمآسي، ونحن بنو البشر لكأنّنا غفلنا عن كلام ربنا إذ قال: ﴿لقَدْ خَلَقْنا الإنْسانَ في كَبَد﴾. فنظنّ بقصور عقولنا أنّ الأصل في الحياة الرفاهية، وأنّنا أتينا لنستريح لا لنجهد ونسعىٰ لحياةٍ باقية. وترىٰ الإنسان غفولٌ ظلوم ﴿وإذا أنْعَمْنا علىٰ الإنسانِ أعرَضَ ونأىٰ بجانبِه وإذا مسَّهُ الشَّرُّ فذو دعاءٍ عَريض﴾.
ولو تأمّلت في آي القرآن، لوجدت معاني الصبر قد توارد، وأن الأمر بالصبر قد تتابع، وكانت دائماً عاقبة الصابرين خيراً، ولا يضيع صبرهم حتماً، وأن الصبر صراط المتقين: ﴿إنَّه من يتقِ ويصبرْ، فإنَّ اللهَ لا يُضيعُ أجرَ المحسنين﴾، ﴿فاصبرْ كما صبرَ أُولُو العزمِ من الرُّسل﴾، ﴿ولنبلونّكم حتّى نعلمَ المجاهدين منكم، والصابرين﴾، ﴿إلّا الذين صبروا وعملوا الصالحاتِ، أولئك لهم مغفرةٌ وأجرٌ كبيرٌ﴾، ﴿واستعينوا بالصَّبرِ والصَّلاةِ إنَّها لكَبيرةٌ إلّا على الخاشعين﴾، ﴿يا أيُّها الذين آمنوا استعينوا بالصَّبرِ والصَّلاةِ إنَّ اللهَ مع الصابرين﴾، ﴿ولنبلونكم بشيءٍ من الخَوفِ والجوعِ ونقصٍ من الأموالِ والأنفُسِ والثمراتِ، وبشّرِ الصابرين﴾، ﴿فصَبرٌ جميلٌ، واللهُ المستعانُ على ما تصِفون﴾، ﴿واللهُ يُحبُّ الصابرين﴾، ﴿يا أيُّها الذين آمنوا اصبروا وصابروا ورابطوا، واتقوا اللهَ لعلّكم تُفلحون﴾، ﴿فصبرٌ جميلٌ، عسى اللهُ أن يأتيني بهم جميعًا، إنَّه هو العليمُ الحكيم﴾، ﴿واصبر، وما صبرُك إلّا باللهِ، ولا تحزنْ عليهم، ولا تكُ في ضيقٍ ممّا يمكرون﴾، ﴿إنّما يُوفّى الصابرون أجرَهم بغيرِ حساب﴾، ﴿والذين صبروا ابتغاءَ وجهِ ربّهم، وأقاموا الصلاةَ، وأنفقوا ممّا رزقناهم سرًّا وعلانيةً، ويدرؤون بالحسنةِ السيئةَ، أولئك لهم عُقبى الدار﴾، ﴿واصبر، فإنَّ اللهَ لا يُضيعُ أجرَ المحسنين﴾، ﴿فاصبر، إنَّ وعدَ اللهِ حقٌّ، ولا يستخفَّنّك الذين لا يُوقِنون﴾، ﴿ولنُجزينّ الذين صبروا أجرَهم بأحسنِ ما كانوا يعملون﴾، ﴿وأمرْ أهلَكَ بالصَّلاة، واصطبرْ عليها، لا نسألكَ رزقًا، نحنُ نرزقُكَ، والعاقبةُ للتقوى﴾، ﴿واصبرْ لحُكمِ ربِّكَ، فإنَّكَ بأعيُنِنا، وسبّح بحمدِ ربِّكَ حين تقوم﴾، ﴿إنّي جزيتُهم اليومَ بما صبروا، أنَّهُم همُ الفائزون﴾، ﴿وتواصَوا بالصَّبرِ﴾، ﴿ولنصبرنّ على ما آذيتمونا، وعلى اللهِ فليتوكلِ المتوكلون﴾، ﴿فصبرٌ جميلٌ، واللهُ المستعانُ على ما تصفون﴾، ﴿وجعلنا منهم أئمّةً يهدون بأمرِنا لمّا صبروا، وكانوا بآياتِنا يُوقنون﴾
ولأضلّ الناس من أنعم الله عليه دهراً، فإذا ما ابتلاه ليعلم صلاحه من طلاحه -وهو يعلم ما في السرائر- انقلب علىٰ عقبيه يتذمر ويكفر بأنعم الله، ويتناسىٰ فضل الله، وهذا الجحود الَّذي إذا خُصّل فيه الإنسان وطُبِع عليه كان هلاكه.
تعليقات
إرسال تعليق