شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ
نعم، أجدُ في كثيرٍ من أحايني مشاعراً لا أجد لها معنىًٰ علىٰ وجه الحقيقة، أو دعني أقل لا أجد لهٰذه المشاعر حدوداً واضحةً، أو شكلاً جليَّاً، إنَّما هي مشاعرٌ باطنةٌ في نفسي، مستفردةٌ في ذاتي، أجدني أنكرها حيناً، وأنفثها حيناً، غير أنَّ هٰذا لا يكفي، يُسعفني في تنحيتها عن حالي الآني، أن أصرف وقتي إلىٰ صحبةٍ تُنسيني بعضها، أو تقلَّل منها قدر المُستطاع.
لرُبَّما كان ذٰلك، دعني أقل لك أنَّ الفراغ هو العلَّة بذاتها، ولا أعني هاهنا فراغ الوقت، بل فراغ الفكر، ومع فراغ الفكر رُبَّما أضيف إليها تراكم الأفكار، وكذلك.. الملل من الفكر، وحتَّىٰ اليأس من الفكر. نعم هي كما قلت، أربعٌ في واحد، أزودُ من النسكافيه، وأحرُّ ما علىٰ الذِّهن فيها هي تناقض الأمور الأربع هٰذه مع بعضها: فراغ الفكر، تراكم الأفكار، والملل من الفكر، واليأس من الفكر.
فأمَّا فراغ الفكر ذاك أنِّي وقد أجدُ حين أفكِّرُ بما أحرزتهُ من القراءة والمطالعة، أجدها لكأنَّها ذهبت هباءً، لا أجد لا جذوراً، أقول هل كانت مئات الكتب الَّتي قرأتها، وآلاف المقالات الَّتي أمعنتها، وعشرات الصُّحُف الَّتي طالعتها ذهب كثيرٌ منها من ذاكرتي، فلا أرىٰ علاماتها وأماراتها علىٰ فلتات لساني ولا نبضات قلبي مع دمائه. فكأنَّني بنفسي أضرب كفَّاً لا علىٰ كفٍّ بل علىٰ خدٍّ، أتحسَّرُ فيها علىٰ تلكم الساعات والأيَّام، وقد وجدتُ نفسي لو تعلم جرماً صغيراً بحق، أدركتُ أنَّني أقصَرُ من أن أغيِّر نفسي فكيف بعالمٍ! ثم حين أجد من يُحسن فيَّ الظُّنون، ويرىٰ فيَّ نبراساً لأجيالي، ومثالاً لأقراني؛ فأخجل من نفسي، وأستحي منه، وأقول: لستُ بذلك أهلاً، إذ أرىٰ كلَّ تلكم الأفكار قد أُعدمت من ذاكرتي، فباتت فراغاً. ليس هٰذا من باب التَّواضع بقدر ما هو من باب الحقيقة والواقع.
وتراكم الأفكار، هٰذا شيءٌ آخر أعظم، أُحسُّني وكأنَّ الأفكار هي سحائب غيمٍ، غير أنَّها مُلِئت ماءً، فتتراكم علىٰ رأسي، وتحرجمت علىٰ نَفَسي، فأشعر أنها تخنقني، لا أسطيع دفع بعضها فكيف بجلِّها أو كلِّها. وعلىٰ عظم بعض هٰذه الأفكار، فلا أقدر علىٰ ترتيبها، ولا تنظيمها، أو حتَّىٰ كتابة بعضها عوضاً عن ضياعها، فالغيم وإن بقي هنيهةً في موضعٍ، فهو لاشكُّ راحلةً بعد سويعةٍ، تقذفه الرِّيح بعيداً، إلَّا أن تجدَ ما يمنع الرِّيح من إضاعته. وإن كان المرقم هو حلٌّ لهٰذه المعضلة، ومخرجٌ لهٰذا العسرة؛ فأين بي وقد وجدتُ قلمي حُبِسَ عن حبره أن يُسال علىٰ قماطرٍ يحفظ للفكر وعاءه، وللعلم مكانه! أن تعاني بتراكم الأفكار مع حبسة القلم، بعد فراغ الفكر؛ لادري أي خطبٍ قد يحلُّ بي أعظمُ من هٰذا.
والمللُ من الفكر.. هٰذا أمرٌ آخر أعتىٰ أن يُحكىٰ عنه، وقد جعل فيَّ مضرَّاتٍ لا أحتملها، ومساوي لا أقدرُ أن أواريها. أن يرىٰ المرءُ نفسهُ قد بلغ من ضعف السَّعي والهمَّة، فقُصَر عن بلوغ المرام والشآوىٰ، لما واتاه من شهوات النَّفس أن تُثنيه عن مطامح الرِّجال، تقول له تثبيطاً: لو جلستَ في خبائك، وانزويتَ بمطامعك الدَّنيَّة من مأكلٍ ومشربٍ وملهىًٰ وتكاثر وهو السَّهلُ الَّذي لا يوازيه آخر، عن أن تفوز بمطامعكِ العَليَّة من تفرُّدٍ وترفِّعٍ وتكليل نصرٍ ومكانة وهي الصَّعب العسير؛ أمَا يكون هٰذا خيراً؟ نعم، هو الصَّعب، الَّذي إذا ما جُوبِهَ بحقيقته ملَّت النَّفس السَّعي، وأنفته أن تجهد فيما لا طائل منه، فقعدتْ عن العزم، وانكفأت عن الحزم، وارتضت الخنوع، فملَّت التغيير، وسأمت التَّعديل، وليس لها مع الواقع إلَّا الرُّضوخ.
وأمَّا اليأسُ من الفكر، فهٰذا فيه شبهٌ ولونٌ من علَّة الملل، ذاك أنَّك ترىٰ صغركَ في هٰذا العالم، وفي حين لا ترىٰ صاحباً أو أخاً، أو أمَّاً أو أباً يسمع لك قولك، ويأبهُ لفكرك حتَّىٰ.. تقول حينها: ما لي وللفكر أجهد فيه، وأكتبه وأُمليه، وأجهر به وأحكيه، وفي نهاية مطافي، وخاتمة سعي، لا أقدر به علىٰ التَّأثير، ولا إعماله خارج الصَّحائف والقماطر، فخيرٌ لي أن أقعد مع القاعدين، وأترك ما بي إلىٰ قدر الله، إن شاء رحم، وإن شاء عذَّب، وهذا دينه هو أقدر علىٰ نصره، وهؤلاء عباده هو أقدر علىٰ نجاتهم.
أغالبُ نفسي علىٰ نفسي، وروحي في تيهٍ من هٰذا العصف. ونعم، هٰذه شكوىٰ فسحب، من رام فيها دواءً فليكفَّ؛ علَّني إن وجدتُ دوائي أن أوافيكم به إن شاء الله.
واالله أجد نفسي أشاطرك تلك الهموم من حين إلى آخر، إلا أنني توقفت عند قولك عن عدم القدرة على التأثير، وقد وافتني رغبة في الكتابة. إذ منذ بدأت قراءة مقالاتك وخواطرك - منذ سنة تقريبًا - بل واقتباساتك أيضًا، أرى أن نفسي وشغفي قد كبرا للأدب، ووضحت رؤيتي وعزمي في أمور الدين، وزادت همتي، ناهيك عن حبي الذي زاد لأديبنا. إذ إن رؤية همم شباب أمتنا عالية، تُعدي. أقول هذا لأنني أعلم أن من يسعى إلى التأثير يهمه رؤية أثره في نفوس الأفراد. نفع الله بك ومنك الأمة.
ردحذف