اليوم العاشر: نقطة تحوّل
عيش المرء أكثر سلاسةً واعتياداً من أن يقدم علىٰ شيءٍ يخالف الدّعة الَّتي هو فيها، فالنفس ميالةٌ للاستغراق بالسكون، وعيشها التي تهواه لا يكون إلَّا في منطقة الراحة. وهدوء البال والخاطر مقدّمان علىٰ اجتلاب عظام الأمور الَّتي لا تكون إلَّا بالجسام منها. وقد يتغاضىٰ المرء عن بعض ميزات ذلك الإقدام مقابل أن يستكين ويرتاح. وحين يهمّ بصنع شيءٍ يكون ذا أثرٍ ونفعٍ عليه وعلىٰ من حوله، ينتظر اللحظة المناسبة، وتلكم اللحظة لعمري لا يهتدي لها المرء في عادة الأمر إليها، بل تراه يغفل عنها، كأن تقول وأنت في الساعة 11:52 دقيقة: سأدرس للامتحان عند الساعة 12. فتنتظر الساعة 12 عوضاً أن تشرع في خلق اللحظة المناسبة بنفسك، ففارق الثمان دقائق الَّتي بينك وبين الثانية عشرة لربما عَنَتْ شيئاً ذا حجمٍ شاسعٍ بمرور الزمن إن جمعتها وغيرها من لمم الدقائق. ولعلّ النفس وإذ تحبّ الدعة كما أسلفنا، تختلق لنفسها المعاذير والأسباب، وتدافع عن قيامها بالحجج المتوفرة، فلعلً الوقت يكون أول الأسباب، أو حاجتها إلىٰ الطعام أو الشراب، أو أنّ المكان غير مناسب، أو أنّ الزمن بذاته ما زال فائضاً فترجّح أن تبدأ الغد. وهذا التسويف لعمري مقتلةٌ للإنسان إن وعىٰ.. وما أرانا نعي
ونقطة التحول، نعم، أذكرني في الكويت إذ باعتيادي علىٰ الوسط المتوفر حينها أن أبقىٰ علىٰ ما أنا عليه دون حتَّىٰ التفكير بنقطة تحول، الأمر مستبعدٌ بالكلّيّة، فالنّفس يصعب عليها أن تخالف محيطها، إذا تخشىٰ عسورة الأمر، ناهيك عن انطباع الغير من تلك المخالفة. كأن ترىٰ غالب أمر النَّاس لباسهم الأحمر فتنتهي عن الأزرق. كما في قصّة الملك وقريته بأهلها ذوي الأُذن الواحدة، وحكايتها أنّ ملكاً أنجبت زوجته ولي عهده بعد طول انتظار، فطار فرح، وغشيته السعادة، ثم ما لبث عن اصفرّ وجهه حين رأىٰ ابنه بأذنٍ واحدة! فاستاء، وخشي أن يصبح لدى ولي عهده عقدةً تحول بينه وبين كرسيّ الحكم، فجمع مستشاريه وعرض عليهم المسألة. فقام واحدهم وقال: المسألة هيّنة يا جلالة الملك، اقطع أذن كل المواليد الجدد، وبذلك يتشابهون مع الأمير. أُعجب الملك بالفكرة، وأصدر فرماناً بذلك. حتَّىٰ صارت عادة تلك البلاد أنه كلما ولد مولود قطعوا له أُذناً، ثم مضت عشرات السنين فساد في المجتمع أن الطبيعي من وُلِد بأذنٍ واحدة. وحدث أن شاباً من خارج المملكة ساكنهم، فاستهجن السكان شكله الغريب، يهمزون به ويلمزون، وينادونه يا ذا الأذنين. فضاق بهم ذرعاً وقرر أن يقطع أذنه ليصير واحداً منهم! وصار واحداً منهم، ذا أذنٍ واحدة
ونحن ذوي النفوس الواحدة، نعتاد في حياتنا علىٰ قالبٍ اعتيادي من عيشنا. لكننا نرجّي -وهذا أضعف الإيمان- تلك اللحظة الفاصلة، ونقطة التحول، وساعة الصفر، الَّتي تأتينا بغتةً دون جاهزيّةٍ منا. وكانت تلك اللحظة عندي، هي لحظة انطوائي مع جماعةٍ متصوّفةٍ في كوتاهيا، يُدعون بـ(النورجولار)، أي (النوريين)، من جذر النور، ينتسبون طريقةً إلىٰ سعيد النورسي، الَّذي أسس مدرسة النور الصوفية الماتوريدية الحنفية. فأخذوني معهم في رحلةٍ قرائيةٍ لكتب شيخهم إلىٰ بورصا، فشعرتُ نفسي في خلوةٍ من أمري. فلا أهلٌ، ولا أصحاب ولا أحباب، ولا أقارب ولا خلّان، ولا أحد ممّن أعرف في صباي في الكويت، أو طفولتي في سوريا. فسنح لي خاطرٌ: أن يا مُحمَّد هٰذه لحظتك المواتية لأن تقلب نفسك مئةً وثمانين درجة، وتنهض بذاتك الَّتي ليست أقلّ من غيرها إلىٰ سماء المجد، وعلو الهمّة، وشيمة العلياء الَّتي تجدها في الأوّلين. فهل ترجع لأهل كما تركهم، دون أن تجعل فيك معانٍ وأمور تعينك علىٰ مآرب العيش الدنيوي والأخروي؟ وهل تصبو لأن تعيش حياة الإنسان العادي، فتولد عادي، وتحبو عادياً، وتشبّ عادياً، وتدرس عادياً، وتتزوّج عادياً، وتنجب عادياً، وتهرم عادياً، وتكهل عادياً، وتشيخ عادياً، وتموت بأكثر شكلٍ عادي.. بهذه البساط من الاعتياد المرهق للعقل.
فسمعتني، وردّدتُ في أعماقي مقال جبران: «وعظتني نفسي؛ فعلّمتني ألَّا أطربَ لمديحٍ، ولا أجزعَ لمذمّةٍ». فرأيتُ أن الخيبة التي تطولني في عيني أعظم منها في عين غيري بأضعاف الأضعاف. وكيف يقصر المرء عن حاجات النفس التي لا تنقضي، وقد أوتي سعةً من الصّحّة، وقوّةً في الجسد، وعزيمةً لا تلين، وعقلاً لا تعوزه الحكمة، وقلباً لا ينقصه الرشاد؟ ما أرىٰ إلَّا قول المتنبي:
ولم أرىٰ في عيوب النَّاس شيئاً
كنقصِ القادرين علىٰ التّمامِ
وأعجبُ من العاجز عن التمام، العاجزُ عن بدء جهدٍ بنقصان!

تعليقات
إرسال تعليق