اليوم الثّالث عشر: ما أهمّية الوقت؟ دعني أنبيكَ عنه
أزعم -ومزاعمي كثيرة- أنّ الإنسان ما رُزِق نعمةً بعد الإسلام واللغة العربية والبصر والحب خيراً من الوقت! وقد أحتاج لإثبات ذلك الزعم جهداً جهيداً وعملاً مضنياً من حيث استجلاب الأدلة، وإجلاء البراهين، وتقديم الحجج متتاليات، غير أنّي وصلتُ إلىٰ قناعةٍ أنّ أبدىٰ من ذلك هو أن أقول: لو يعلم أنّي ما أشعر في بعض يومي أعزّ عليّ من وقتي أن يُفقد؟ أحسّ بأنّ الوقت إنسانٌ حي، له طابعٌ روحي، تستتفقده في وحشةٍ من نفسك، ويعظم فيك خطب ضياعه برهةً، والغريب أنّه بتوفّره يضعك في مأزقٍ عصيبٍ لا تُحسد عليه، فيصير اسمه الفراغ، وذاك الفراغ مقتلةٌ لو علم ذي الرأي مكانته.
وأرىٰ أنّ الإنسان ميّالٌ إلىٰ الانجاز حين يحتدم عليه الوقت، وتتضاءل المساحة الَّتي عهد علىٰ نفسه فيها أن يملأها بما هو حسنٌ وجميلٌ من قراءة ومطالعة، وكتابةٍ وحفظ للقرآن والأشعار، وبحثٍ وتمحيص في مسائل مشوقٌ لها، وفي تضاءلها ذاك، وفي ضيق الوقت الَّذي يعيشه في كثيرٍ من أحايينه، يجد نفسه أسرع في إنجاز تلك المهام، أو دعنا نَقُل الهوايات. وحين فراغه الَّذي يمنّيه فترةً، يجد حاله منجذبٌ إلىٰ القعود دون أي شيء، يشعر أنّه لا يقدر علىٰ أن يفعل شيئاً ممّا تمنّاه في كلّ لحظة. فيتناول الكتاب ليقرأه، يفتحه وعيونه تنظر إلىٰ حروفه، وعقله غير مدركٍ لمعانيها، إذ انشغل في أبعادٍ كثيرةٍ لا حصر لها، فتارةً يفكر؛ّ لماذا السماء لونها أزرق؟ ولماذا الشمس تشرق من المشرق؟ ولماذا العين لا تخرج نوراً بل تستقبل النور لترىٰ؟ ولماذا لا يمكن للدجاجة أن تطير؟ وماذا لو النازيّون انتصروا في الحرب العالمية الثانية؟ وماذا لو امتنع عبد الله بن الزبير عن السماح لمروان بن الحكم وأهله أن يخرجوا من المدينة المنورة؟ وماذا لو لم يسرّح المستعصم بالله جزءاً كبيراً من جيش الخلافة، ولم يستمع لمشورة ابن العلقمي؟ وماذاتٌ كثيرةٌ لا حصر لها. هي ذاتها لا يجد لنفسه حتَّىٰ مجالاً رائقاً ليكتبها، ويكتب عن خواطره الَّتي يفكّر بها! الأمر وكأنّ الوقت حضوره غيابٌ لنفس المرء، وغيابه حضورٌ لها، علىٰ أنّ الوقت غالٍ، يمنّي الإنسان لقاءه، فإن لقيه انطوىٰ علىٰ نفسه.
فهل علمتَ صاحباً جفوته حين لقياه، واشتقته وقت غيابه؟ ذاكم الوقت.
علىٰ أنّي أغالب نفسي في لحظاتي الكثيرة، وأغالب الوقت، فأجمع بينهم علىٰ نفورهما من بعضهما. فأنتشي بلحظاتِ انتظاري للحافلة لأستمع إلىٰ شيءٍ من دروس الفقه والعقيدة، وبعضاً من سمعيّات وحكايا السياسة والاجتماعيات، ومقاطع من تاريخٍ جهلته. وحين أركب الحافلة، أنسابُ إلىٰ نفسي في نصف ساعةٍ هي وقت طريق إلىٰ الجامعة، لأقرأ ورداً من كتاب الله، أو صفحاتٍ من كتابٍ أهمّ بانهائه، أو مقالةٍ أكتب جزءاً منها ريثما أصل وجهتي. أو لعلّي في انتظاري للدكتور أن يشرع محاضرته، فأمسك ذات الكتاب الَّذي ما أنهيته، لأكمل بعضاً منه، حتَّىٰ لو كانت صفحة أو صفحتين. المهم أن أنجز بالقدر المعقول. وتلحظ بذلك أثراً تراكمياً مهولاً لو علمته لقاتلتني عليه بالسيف. أفتدري أن نصف ساعةٍ ذهاب؛ تقرأ فيها جزءاً من القرآن، ومعه 10 صفحاتٍ من كتابٍ ما، وفي العودة مثلها؛ فتقرأ 30 صفحة هي في حصيلة أمرها نهاية الشهر: ختمةً، وقراءة ما متوسطه 5 كتب؟ أفتدري؟ إن كنت تدري فتلك مصيبة، وإن كنتَ لا تدري فهذا دربٌ قد علمته لتوّك، فامتثله. وإن ربع ساعةٍ تقضيها في انتظار صاحبك إذ تريدان الذهاب إلىٰ المقهىٰ، أو مثلها أو ضعفها تنتظر المباراة أن تبدأ، أو شيئاً من قبيلها بعد الصلاة أو قبلها لهي لو أوضعتها في برنامجٍ شهريٍّ لوصلت إلىٰ آجلةٍ فيها من الإنجاز ما تترك النظر فيها إلىٰ العاجلة المغرية لضياعها.
يا آدمي، أما لو علمتَ أنّ الوقت لا يُبتاعُ بتاتاً، فلو أنفقت ما في الأرض ذهباً وفضّة، علىٰ أن تشتري ثانيةً ذهبت من عمرك سدىٰ؛ ما اسطعتَ أن تفعل، وما كان بمقدورك أن تعود ثانيتين إلىٰ الوراء، ما كانَ قد انقضىٰ، وما هو آتٍ لم يُعش بعد، فاستدرك ما فاتك من عظيم المنفعة، إلىٰ ما تستقبل من أيامك الَّتي أنتَ جاهلٌ مقدارها، فربما ساعةً تعيشها، وربما دقائق ثمان، وربما سنة أو أكثر، أفتقضي تلك الأيام المعدودة بأثرٍ صفريٍّ، لاهٍ لا همّ له ولا مسؤليّة؟ أفتكون والطفل سواء!
تعليقات
إرسال تعليق