اليوم الثّاني عشر: النجاح بشقّيْه



هل أعرّف لك النجاح؟ كيف أفعل وأنا الذي تحصّلت في الثانوية العامة علىٰ درجة 76%! ليس الأمر بأنّي متقبّل لفكرة أنّ هذه الدرجة لا تعد من النجاح بشيء، وأنّك يا إنسان إمّا أن تكون أو لا تكون، إما أن تنل الامتياز، أو أنت في أسفل السافلين، وحينها، لك أن تدرس تخصص الشريعة أو أن تكون مدرّس لغة انجليزيّة أو عربيّة في أحسن الأحوال. نعم لستُ ممن يعتقد هذا، ولكنّي بحالٍ من الأحوال وسط النَّاس، الذين ينظرون للدرجة الثانوية علىٰ أنها مقياسٌ للنجاح من عدمه، وهي الميزان الذي يضعون علىٰ كفّته أبناءهم، فمن حاز 90% فما فوق فهو من نخبة النخبة، ومن الحضرة، وبياض البلد، وعلية القوم، والطبقة المخملية. وإنّ من سبل الترقي في درب النجاح الذي صِيغ عند العوام، وتجامع الناس عليه عهداً طويلاً، وصار فيهم قاعدةً لا يُحاز عنها، ولا يُحايد فيها، ولا يُعتدُّ بغيرها؛ أن يدرس المرء الطب أو الهندسة. فهما كريال مدريد وبرشلونة، فمن اختار أتلتيكو مدريد أو اشبيلية فهو فاشلٌ لا محالة، امرؤٌ ما وجد تخصّصاً تشفع له درجته أن يدخله، فأُوجد له بعض تخصّصات العلوم الإنسانية، لعلّه ينشغل بفشله هناك، ويثري مرآنا بعدم رؤيته، ولا يصرع رأس أولياء سدّة النجاح.

ليس من عهد أن أتقلّب علىٰ هذه العادة بالسخرية المحضة، لولا أنّني تجرّعت منها شربةً، وكان ذلك أن قُوبِلت بدرجتي هذه ببعض الاستهجان والاستغراب، وقد حسبوا أنّ فيّ ما ظنّوا معه أن آتي لهم بالتسعين فما فوق. لكني كنت كارهاً للمدرسة، لم أجد يوماً أنّ لها طعماً يضفي علىٰ الحياة ومرارتها، بل لعلّ المدرسة زادتها مرارةً فوق ما فيها. وما اعتقدتُ في داخلي -كما أعتقد أن الأديان التي غير الإسلام لا تُحترم- أنّ النجاح ليس في المدرسة علىٰ وجه التحديد، وأنّ الشيء المستفاد منها هو الانضباط لا أكثر، وحتىٰ هذا كان "لك عليه حبّتين"، أما عن فكّ الحروف، وتعلّم الكتابة، وحفظ جزء عمّ، وتعلم الانجليزية فهذه كانت من خير أمي، لا من خير المدرسة. وليس السوء لو حسبتم في المدرسة بعينها، إنَّما بهيكليّتها كلها. فأنت إن في آخر الأمر إن لم تحرز الـ target الَّذي عنونوه مجاهيلٌ من ذوي الأفذاذ فقد رسبت في أول جولةٍ من مضمار الحياة، حتَّىٰ لو كنتَ في تلك الجولة تركض علىٰ عكّازة، فتعمل ليلاً، وتذهب إلىٰ المدرسة صباحاً، فأنت بين هنا وهناك. هذا وفق نظرية "التسعين فما فوق" لا يُعتبر نجاحاً بتاتاً.

ثم الغريب أنّك ما إن تخرج من قالب نظرية "التسعين فما فوق"، حتَّىٰ تصدم بحافة باب نظرية "الثنائية القطبية"، أي الطب والهندسة، وأنت هنا أمام الجولة الثانية من مضمار الحياة، وقواعد هذه الجولة محددة مسبقاً، دون بيان جمالية التخصصين، فقط لربما استشعار أن الاسم يسبقه دال أو ميم، هذا لوحده عظمة، فكيف باللغة الانجليزية، وقد علمنا علو كعب العجم، فحين يُوضع قبل الاسم Dr أو Eng؛ تشعر أن الأرض ما عادت تسعك، وأنك لتبلغنّ مبلغ يا هامان ابن لي صرحاً، وأنّ البشر علىٰ ثلاثة أنواع؛ ذكر وأنثىٰ وثنائية قطبية!

لعلّ النَّاس في تراكيبهم الفطرية، جُبِلوا علىٰ ظاهرٍ من الجمال المعجون بلونٍ من الكِبر الذي يُزهي النفس، وتشعر معها أنها ارتقت بين بني جنسها، فترىٰ بالنجاح علىٰ صورته الَّذي أجمع عليه العوام ليس إلَّا باباً للمباهاة، لا لاعتباراتٍ خاصّةٍ بها، تمتاز بها، وتجعل النجاح دافعاً لها للتقدّم، لا لتصمد في مكانها، وتحتفل بنجاحها المزعوم. أفليس أن يجعل المرء لنفسه هدفاً يقرأ 10 كتب في 10 أيام، فيعتبر إنجاز ذلك نجاح، أو أن يحفظ صفحة من القرآن كل يوم، وإن أحرز خطّته فهذا نجاح، أو أن يكتب كتاباً فهذا نجاح، أو أن يلعب رياضةً فهذا نجاح، أو أن يصل رحمه، أو يؤدي نوافله ورواتبه.. أليس هذا نجاح؟ 

أحبّ أن أسأل لماذا صار النجاح سلعةً؟ يجتاز الطفل مرحلة الروضة؛ فيقيمون حفلة، يجتاز الابتدائية؛ فيقيمون حفلة، يجتاز المتوسطة؛ فيقيمون حفلة، يجتاز؛ الثانوية؛ فيقيمون حفلة، يجتاز الجامعة؛ فيقيمون حفلة. فهل لعلّه من يجتاز الحياة أن يقيموا له حفلةً؟ فإن فعلوا، فكيف يعرفون أنّه اجتازها بنجاح؟ لا أعرف سرّ نظرتي التشاؤمية للموضوع، ولا أعلم سرّ فلسفتي وسفسطتي بهذه الخاطرة، لعلّي لو قلت أنني نعم جئتُ بدرجة 76% وليس هذا بنجاح، فأعترف لكن بذلك رضوخاً عند دستور العوام، فينتهي الأمر ولا أعتّتكم بهذه الخاطرة المملة البائسة، ثم يذهب كلٌّ منّا إلىٰ مشغلته أو حتَّىٰ ملهيته ربما لكان هذا أجدر. ولكنّني أحبّ جداً أن أفهم، هل النجاح ما يراه الناس نجاحاً، أم تراه النفس بعينها؟ إنّ أعرف النَّاس بك نفسك إذ رأت ما صنعتَ وما جهدتَ، وكيف فعلت في كل لحظة تياءستَ من حالك إلَّا قليلاً، ثم قوّمتك نفسك بما شهدت لها به زمناً، فكان ذلك النجاح في نظرك، أنّك استطعت مصارحتها بما فيك دون أي مواربة، فكانت مرشدتك التي لم تكذبك النصيحة، فبتّ تردّد.. «وعظتني نفسي؛ فعلّمتني ألَّا أطربَ لمديحٍ، ولا أجزعَ لمذمّةٍ»


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١