اليوم الحادي عشر: الإيمان

 

«بينما نحن جلوس عند رسول الله ﷺ ذات يومٍ إذ طلع علينا رجلٌ شديد بياض الثياب، شديد سواد الشعر، لا يُرى عليه أثر السفر، ولا يعرفه منا أحد، حتى جلس إلى النبي ﷺ، فأسند ركبتيه إلى ركبتيه، ووضع كفيه على فخذيه، وقال: يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال رسولُ الله ﷺ: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، وتُقيم الصلاة، وتُؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعتَ إليه سبيلاً، قال: صدقتَ، فعجبنا له: يسأله ويُصدقه. قال: فأخبرني عن الإيمان، قال: أن تُؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقتَ، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك، قال: فأخبرني عن الساعة، قال: ما المسؤول عنها بأعلم من السائل، قال: فأخبرني عن أماراتها، قال: أن تلد الأمةُ ربَّتها، وأن ترى الحُفاة العُراة العالة رعاء الشاء يتطاولون في البنيان، ثم انطلق، فلبثتُ مليّاً، ثم قال: يا عمر، أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم، قال: فإنه جبريل أتاكم يُعلمكم دينَكم.» رواه مسلم.

نعم كنتُ كلما قرأتُ هذا الحديث عن سيدنا عمر -رضي الله عنه-، أعجبُ من شكل الحوار، وكيف انتهىٰ جبريل -عليه السلام- بتعليمه للدين، بالسؤال، عن الإسلام، والإيمان، والإحسان، والساعة. ومناط كلّ ذلك الإيمان.. أن تؤمن.

فأحياناً أتساءل بحقٍّ، هل حاجتنا للإيمان هي مجرد أن يكون للمرء ديناً يؤمن به، فينجو به من عذاب يوم الدين، ومن حر جهنم وشدّتها، إلىٰ جنّةٍ عرضها السماوات والأرض، ورحاب الله المستضيئة بأنواره، بين رسل وأنبيائه، وعباده المتقين؟ أم لعلّ الحاجة للإيمان الغريزة الفطرية، كما في حاجتنا للطعام والشراب؟ الغريزة الفطرية الَّتي بها ينجو المرء من بعض الكرب الَّذي يلقاه، فإنّه دون طعامٍ يجوع، ودون شراب يظمأ، ودون إيمان يُقتل. يُقتل من فراغ نفسه، وخواء روحه إذ عدمت من شيءٍ تؤمن به، وتستقرّ علىٰ عبادته، واللجوء إليه وقت تنزل به شدائد الأمور، وعصائب الأحوال، ومضانّ الكربات، فلا يُسعف باليابسة يرسو عليها ويطمئنّ إليها. وحين يجد نفسه في بحرٍ لجيٍّ يغشاه، موجٌ من فوقه سحاب، فيترنّح به الفُلك في موجٍ كالجبال، أو في وسط بيداء ما من زرعٍ فيها ولا ماء، ولا من واحةٍ يهتدي إليها تغيثه من وهج الحرّ وقيظها. أو حين يهلكه الجوع، ويلاحقه المرض، ويلاقي عدوّه، فيريد أن يستكين إلىٰ مغيثٍ يفرّج عنه ما فيه.. في كلّ تلك الأحوال، أليس يُقتل مرّتين، مرّة بمصيبته، ومرةً بكفره.

بكفره بالخالق الَّذي حين ينجلي غبار الشّكّ الَّذي يعتريه به لحظة نعمته وسرّائه، إلىٰ يقينه في يوم محنته وضرّائه. ومن سعة حاله الَّذي يشعر فيه أنّه ملك الدنيا وما عليها، فبطر وزمجر، وطغى وتجبّر، فظنّ ألّن يقدر عليه أحد، وكان ذلك الظن مبعثاً من النفس الَّتي حسبت أنما النعمة التي رُزِقتها هي من ذات عملها، ومن صنيعها التي أوردته بيديها، فالمرء ينسىٰ، ويتناسىٰ بعض الطرق الوعرة التي اقتفاها لمّا سلكها إلىٰ الغاية، وحين ينظر إلىٰ النتيجة، يحسبُ أنّ ما من معين لنفسه غيرها، وأنّ النفس إنما تستشعر المحسوسات، فحين تهتدي إلىٰ شأوها، وما ترىٰ من تحسه عياناً، تنسىٰ ربها الَّذي فطرها، وتجادل بأنّ أُوتيته علىٰ علم.. حين ينجلي غبار تلك السعادة الَّتي اعتقد كسبها من عمل يديه، إلىٰ جلاء الرؤية عن بلاءٍ يبصره بأمّ أعينه، فيدعو ربّه مخلصاً له الدين وقد ألحد به، واستعصم بنكرانه قبلئذٍ، لأن نجّاه ليكوننّ من الصَّالحين. فحين ينجو يعود سيرته الأولىٰ، وينقض غزله من بعد أنكاثاً.

يظلم الإنسان نفسه بكفره بربّه. فأين ترىٰ إلها يحتاج عباداً! إنّما المرء بذاته لما تلحقه بعض المآسي التي يحتاج معها إلىٰ من يركن إليه فيهوّن عليه بعض ما في نفسه، ويشدّ من أزره، ويدعوه فيتسجيب، وإن لم يستجب عاجلاً كانت له في الآجلة. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١