اليوم السّابع: إنجازٌ أفاخرُ به

 

لا أرتضي لنفسي دوماً أن أكون بين ثنائيّة التّخيير، أو ربط النتيجة بعلّةٍ واحد وسببٍ أوحد، أو الاكتفاء برقمٍ واحدٍ دوناً عن غيره بالفخر والاعتزاز، أو أن أرجّح طرفاً علىٰ آخر في ميدان المغالبة والمناكفة، أشعر أن تحديد النفس بقوالبٍ من الأسئلة والخيارات معيقٌ لها عن رأيها الحقيقي صرفةً. فحين تريد منّي أن أختار بين الشاي والقهوة، فأنت تدفعني لاختيار ما لا أرغب فيه، إلىٰ ما ترغب أنت فيه، فلربما رغبتُ بالحليب، أو العصير، أو نحو ذلك من المشروبات، أو حتَّىٰ رُبَّما لم أرغب بشي سوىٰ الماء. وحين تسألني عن سقوط الدولة العثمانية، وتتنظر مني أن أقول لك سبب ذلك هي الثورة العربية الكبرىٰ، متناسياً العصيانات الكثيرة الَّتي نتجت عن صعود الخطابات القومية بين الأقليات العرقية والطّائفيّة والمذهبيّة في أصقاع الامبراطوريّة، وغلبة الديون الَّتي أثقلت أحمال الدولة، وتكالب الدول الغربية عليها، واستشراء الفساد في مفاصلها، وعكوم الجهل، وكثرة الاستبداد، والمركزية المترهّلة، والبيروقراطيّة السارية بين موظّفي الدولة، وتقاعس الولاة عن ضبط الأقاليم بسعة الصدر، واستنكاف الجيش عن خدمة بلده ساعياً إلىٰ انضمام بعض القطاعات إلىٰ أحزابٍ سياسيّة مختلفة، ونقص الامدادات واللوجستيّات المعاونة للجند علىٰ استكمال الحروب.. كلّ هذا ولم أتحدّث بعد عن الحالة الاجتماعيّة، من انتشار المجاعات، وزيادة البطالة، وعالة الأرامل والأيتام بسبب استشهاد الجند فيما عارك لا طائل منها، ولو كان طائل فلا يُحرز النّصر بسبب رجعيّة الاستراتيجيّات الحربيّة، والخطط العسكريّة. وحين تخبرني عن من هو أفضل شخصيّةٍ قياديّة تحبّها من تاريخنا الإسلامي مثلاً، فلماذا أضع نفسي تحت خانة الاختيار الواحد؟ لماذا لا يكون عندي أن أحبّ مسلمة بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز والمهلب بن أبي صفرة، وقتيبة بن مسلم، وعبد الرحمن الداخل، ومحمد بن أبي عامر، ونور الدين محمود، وصلاح الدين يوسف، ومحمود الغزنوي، لماذا عليّ أن أُقوقع علىٰ اختيارٍ واحد، في حين أن الفضاء مفتوح، والمجال واسع؟ ولماذا -طالما وقد تطرّقتُ واستطردتُ- أن أجعل الناس دوماً علىٰ صعيدين فقط، صعيد الأخيار، وصعيد الأشرار. فهل يستوجب أن أقول أن صدّام حسين كان خيّراً صرفةً أو شرّاً جملةً؟ كذا الأمر مثلاً في الظّاهر بيبرس من قديم، والسلطان مراد الرابع، وسليم ياووز، وعبد الملك بن مروان، والحجاج بن يوسف. لماذا أُجبر علىٰ أن أقول مثلاً في محمد بن أبي عامر أنّ معاركه كلّها كانت للإسلام، ولم تكن مثلاً لغاية صرف الجند عن افتعال ثورات، وإشغال النَّاس بالجهاد مانعٌ للأزمات، حائلٌ عن الفتن أن تُذاع في الأمّة، وكذا الأمر بعكسه حين أغلو في جعل محمد بن أبي عامر مُسقطاً للخلافة الأموية في الأندلس بتسيّده المشهد، وتوريثه الحجابة لأبنائه، ثم جعل ذاك الاتهام الَّذي لا يغوص معه المرء لخبايا السّياق في تلك الفترة؛ سهماً نغرسه في عرض الرّجل؟ أليس كل ذلك قصوراً؟ أوليس التّفصيل في كلّ مسألةٍ خيرٌ -علىٰ صعوبته- من البتّ بإيجازٍ مُخلٍّ -علىٰ سهولته-؟

أين كنّا؟ نعم، عن إنجازٍ أفخرُ به. أما زلت يرحمك الله تريد معرفة إنجازٍ واحد؟ والسؤال المعني، هل ما سأسرده عليك من إنجازات، ستكون إنجازاتٍ في نظرك ذات أهميّةٍ تشبع فضولك إذ شرعت في قراءةٍ هذا الحشو الممل؟ لكنّي سأقولها علىٰ أيّة حال، فطالما هناك شخصان يقرأنِ لي ولا يهتمّان إن عككتُ أو حشوتُ أو تفيقهتُ، يقرأن علىٰ أيّة حال، وقد ابتدا اسميهما بالنّون.

لطالما فاخرتُ نعم حينما حفظتُ الزّهراوين، وإن لم تعرف ما هما الزّهراوين، فاذهب واطّلع قليلاً، دع عنك تكاسل التيتوك بأنّ حَجّرَ عليك واسعاً في الجهد، ونأىٰ بك إلىٰ التّفريط في طلب العلم والمعرفة. لطالما ما استسغتُ الآليّة المتّبعة بين دوائر المحفّظين والمدرّسين، حين يبادؤون التلامذة بالأسهل، ثم لا يصلون عادةً إلىٰ الأصعب، وذلك لملل هؤلاء التلامذة بعد مشاقاة الدرب الطويل، فما أن يصلون إلىٰ أوساط سور القرآن حتَّىٰ يملّون ويتكاسلون عن استكمال الحفظ. لعلّي وقد بدأت من أوّل المصحف، فحفظتُ أطول سورتين في القرآن، وجدتُ الباقي أسهل، ولا يعني هٰذا أنّي استكملت طريقي في الحفظ، قد خمد حماس النفس بملهيات الدّنيا، ومشاغل الأمور، غير أنّي سرت علىٰ منهجيّة (التجربة والخطأ)، فجرّبت هذه النظرية الَّتي أتبنّاها في نفسي: ابدأ بالأصعب، فيسهل الأمر بعد ذلك. وقد أعدتُ ذلك ثانيةً، في الشعر، وهو الانجاز الآخر الذي أفخر به، إذا عمدتُ إلىٰ حفظ الشعر بغية تقويم اللّسان بكلام العرب الأوائل، فرغبتُ بأن أبدأ بصِعاب الدواوين، فشرعت في حفظ المعلّقات العشر: قفا نبكِ لامرئ القيس، أمِن أمّ أوفىٰ لزهير بن أبي سُلمىٰ، لخولة أطلالٌ ببرقة ثهمدِ لطرفة بن العبد، عفت الدّيار للبيد بن ربيعة العامري، هل غادر الشّعراء من متردّمِ لعنترة بن شدّاد، ألا هُبّي بصحنك واصبحينا لعمرو بن كلثوم التغلبي، آذنتنا ببينها أسماءُ للحارث بن حلّزة اليشكري، ودّع هريرة إن القوم مرتحلُ لميمون الأعشىٰ، أقفر من أهله ملحوبُ لعبيد بن الأبرص، يا دار ميّة بالعلياءِ فالسّندِ للنّابغة الذّبياني.. تلك عشرةٌ كاملة. حتَّىٰ وجدتُ نفسي وقد استسهلت قراءة كثيرٍ من قصائد الجاهليّين لتشابه المفردات وتواردها في غير واحدةٍ من القصائد، بل وقد أغنىٰ عني هذا الحفظ ما لو قرأتُ 100 كتابٍ في الأدب! 

وقد أتيتُ علىٰ ذكر القراءة، فأذكرني يوم حُجِرَ علىٰ النَّاس في عام 2020م بسبب انتشار طاعون فايروس كورونا، حتَّىٰ عمّ العالم كلّه. وحين انشغل النَّاس بالألعاب والملهيات، هداني ربّي إلىٰ أن أستثمر وقتي كلّه بالقراءة، فقرأتُ حينها ما أظنّني لن أعاود ذاك الانجاز مرّةً أخرىٰ حتَّىٰ أتقاعد عن العمل، وأحسبُ أنّ هذا يأتي قبل موتي بساعة واحدة، بل وربما لا ألحقُ ذلك.. قرأتُ 227 كتاباً! أيّ بمعدّل كتابٍ كلّ نصف يوم، وهذا رقمٌ كنتُ أظنّه حينها بالمتناول حتَّىٰ وصلت إلىٰ يومي هذا وما استطعت أن أصل إلَّا إلىٰ نصف ذلك الرقم في أحسن الأحوال! وإذ أنا أسرد ما لجانب القراءة والعلم، فلعلّي أن أقول أنّ اختياري لتخصّص العلوم السياسية والعلاقات الدولية في حين أنّه تخصّصٌ غير مشهور بين أوساط العوام من أقاربي وأصحابي، لدرجة استنكارهم لاختياري هذا بين الحين والآخر، إلىٰ أن انجلت الثورة السورية عن انتصار الثّامن من تشرين، فرأوا أن لذلك حكمةً ما. فاختياري له بديلاً عن تخصص الهندسة التكنلوجية الَّتي لاسمها وقعٌ في الآذان يطربها فخراً وشرفاً مزعوماً.. أعتبر أنّ عدولي عنه هو تحدٍّ وخروجٌ عن المألوف بأسلوبٍ غير مألوف -وأزعم أنّك عزيزي القارئ لا تنظر لهذه الفقرة بالعين التي أنظرها وقد وجدتُ فيها حملاً اجتماعياً أثقل كاهلي، في مجتمعٍ يرىٰ أن الشّرف في الطب والهندسة، وما غيره لمن لم يتحصّل الدرجات العليا فيما تسمّيه العامّة الثّانوية العامة-. وربما أفضل انجازين لما أحقّقهما بعد، لعلّ أحدهما يُرىٰ في المنظور العاجل، والآخر في الآجل.

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١