اليوم الخامس: السكينة بين زوايا بيت الله
علىٰ أنّ قيظ الصّيف حينها قد اشتدّ بشكله الاعتيادي في شهر تمّوز، والحرارة الَّتي لا يصمد معها المرء حيناً كثيراً في جلّ حاله، لاسيّما منتصف الظّهيرة، أو حتَّىٰ عند العصر، بل وعند المغرب والعشاء، أو لعلّ الطّقس لا يصفو للمرء في ذاك الشّهر إلَّا عند الفجر، تشعر أنّ نسمات الهواء حينها معوّضةً لك عن حرور اليوم واللّيل كلّه، وفي الحقيقة أن نسيم الصّيف أرقّ عندي من هواء الشّتاء، فأنت بالشّتاء طقسك كلّه هواءٌ ورياحٌ وبردٌ معتاد، ليس من شيءٍ جديد عليك حينها أن تلحظ ميزةً في هبة نسمة الهواء التي تحمل في طياتها البرودة الموجودة أساساً، أما في الصيف، فقد يترآىٰ لي ما ترآى للأعرابي الذي يعتمّ عمامته، مُرتدٍ عباءته، وقد اشتدّ عليه الحرّ، ثم أناخ راحلته، وعمّد عصاه، وأرخىٰ عليها العمامة، واستوسد العباءة، ومكث تحت ظلّها، فتسعفه النّسمات الرّائقة، والهواء العليل الذي يهبّ بين الفينة والأخرى، وسط هذه البيداء القاحلة.
قد استطردت كعادتي، ولا أعلم متىٰ أراني أخلصَ من هٰذه العادة الكتابية، فقلمي إذا أرحته بالكتابة؛ يأبىٰ إلَّا أن يملي كلّ ما في النفس من ظلال المعاني الَّتي في تكنّها، على أن هذا هو ما خطر في بالي يوم كنت مستلقٍ في صحن الحرم. وكنت يومها ابن اثني عشر ربيعاً فحسب، في وحشة الظهيرة، وهو الوقت الذي لو عايشه في الكويت لتذمّر منه، ولكن الحال كان منقلباً هذه المرّة. لكأنّ في مرأى الكعبة وسواد بردتها معنىً غير الذي عرفته النفس. وكان منظرها من على بُعدٍ، يوم رآها داخلاً من باب العمرة، ﻷوّل مرّةٍ على صورتها الحقيقية لا كما شاهدها دوماً في الرائي. وقد فهم كذلك لأوّل مرّةٍ أنّ حجمها أكبر مما يظن. وكذلك من ظنونه التي قطع شكّه بيقينه أنه حسب كسوة الكعبة سوداء صرفةً، فحين اقترب منها بعد شقاءٍ وعنتٍ تكبّده لقياها، تعجّب أن فيها كتاباتٍ وآياتٍ خيطت عليها، وأمسك بها على علوّها حينها، وتذكّر ما قرأه عن التّمسّك بأستار الكعبة، ولم يعلم أين قرأ تلكم العبارة وما مناسبتها، ولكنه تذكّرها على أية حال، ونظر إلى أعلاه فتذكّر ذلك المشهد الخالد من فيلم الرسالة، حين تعربش (صعد) بلالٌ إلى سطح الكعبة، وجهر بأعلى صوته يؤذّن.. فتعجّب من قوّة عزمه إذ تعربش دون سلّم! ولم يلتفت إلى ذلك التحول في جزيرة العرب، أن عبداً حبشيّاً صعد إلى مشرّفة العرب التي ما كان يغسلها إلا أشرافهم وساداتهم دوناً عن باقي الناس. ولكنّ سيدنا بلال ما هو إلا رمزيّة الإسلام الواحدة من مجموع الرموز التي هُدمت بها صوامع الجاهلية.
وما كان زمزمها إذ استسقاها فشرب منها فشعر بحلاوةٍ عذبةٍ فيها، وقد قال في نفسه: لو أن واحداً من أقاصي البلاد شربها لعرف أنها زمزم وإن لم يُنبّأ بذلك. فسرى إلى ذهنه قصّة هاجر يوم زمزمت الماء ألاّ ينفد، وقد نال منها التعب والضّنك والعطش والجوع. وسار من حينه إلى الصفا والمروة، فتخيّل الجبلين صحراويّين كما صورهما في مخيلته، وأمنا هاجر تسعى بينهما. لكنه فُوجئ بهما كأنهما قد دُهنا بالزيت لشدّة لمعانهما! أحسّ بأن هذه الرحلة إلى أطهر بقاع أرض الله أرته الجوانب التي ما شهدها في الكتب، على اختلاف الصور والمشاهد والأماكن، وحتى غار حراء، وختى غار ثور، كانت كل بقعة قد رسم لها في مخيّلته شكلاً مختلفاً، لكن أمر واحد ما شهد باختلافه، بل شعر أنه زاد في طيّات أعماقه، ونما فيه ذاك الحسّ بأجلّ المعاني الممكنة: رأى السكينة التي قرأها في القماطر، وأحس بها تسري في عروقه مجرى دمه، حتى تصوّر السكينة كأنها مادةٌ تُلمس! وتذكّر ما للحرم وأرض الحرم من النور المكون فيها، ومن خيرتها وتفضيلها، ومن الطأمنينة التي تحفّ قاطنيها وزائريها، يوم خرج عظيمنا ﷺ يريد الهجرة إلى المدينة المنوّرة، والتفت التفاتةً أخيرةً إلى مكّة المكرّمة، وقال: واللهِ إنّكِ لخير أرض الله، وأحبُّ أرض الله إلي، ولولا أنّ أهلكِ أخرجوني منكِ ما خرجت.
ليتني أنا أيضاً ما خرجت، ليتني بقيت جينها ولم أخرج.
ليتنا جميعاً هناك
ردحذف