لعلَّك تميلُ إلىٰ الكتابة بعد أن تقرأ هذا ٢
يرىٰ جورج أورويل أنَّ للكتابة أربعة دوافعٍ، وهي: «حبُّ الذَّات المحض، والحماسة الجماليَّة، والدَّافع التاريخي، والغرض السِّياسي»، ليأتي من بعده الكاتب الرُّوسي فلاديمير سوروكين ويضيف دافعاً مهماً آخر في عمليَّة الكتابة وهو دافع: «التَّساؤل». وقد نجد معنىٰ حبُّ الذَّات المحض متجلٍّ في قول عَلمُ الدين ابن الهاشميّة: «إنْ جعلَ المرءُ قلمَهُ رَهن ذوقِ النَّاسِ بارَتْ سلعتُه، وإن صيَّر فكرَهُ لمرضاتهِم سقطَ رأيُه». أي أنَّ مناط أمر قلمه لا يكون إلَّا إن رفع من قيمة نفسه، وأوضعها في علية المراتب، فلا يجعلن قلمه تحت سلطة غيره، يكتب بأهوائهم بغرض المكسب والبيع والتِّجارة، فحتَّىٰ لو لم يكن يتقاضىٰ أجراً في كتاباته؛ فإنَّ شأو الشُّهرة كافٍ له مُغنىٍٰ في ميدان البيع. أذكرُ من جميل جسارة الكاتب ما صنع أدهم شرقاوي حين مدح حركة طالبان الأفغانيَّة، فوجد سيلاً هادماً من قرَّائه أخذتهم الدَّعاية الأمريكيَّة في وصم حركة طالبان بالإرهاب، فانهالوا عليه لوماً وتقذيعاً، وشتماً وازدراءاً، حتَّىٰ وجدتُ من أخذَ يبيع بعض كتبه لما أسماه خيبة ظنٍّ وجدها منه، فما صرف هٰذا الكاتب عن استبدال فكره لمرضاة قرَّائه، بل ربض وثبَت! أذكرني حينها ابتعتُ روايةً له اسمها: نبض وليس لأنَّني مُكبٌّ علىٰ طالبان مُشجِّعٌ لها، ففي نهاية المطاف هم ماتوريديَّة -هداهم الله-، ولٰكن لا يحملني ذٰلك الخلاف العقدي علىٰ محاربتهم وهم -لا شكَّ عند عاقلٍ- ليسوا كالرَّوافض والنَّصارىٰ واليهود والَّذين كفروا.. اعذروني أسهبتُ في الاستطراد، رحم الله الطَّنطاوي، وغفر للجاحظ.
سأُكثِرُ لكم من الاستشهادات في مجال الكتابة، إذ سيقول قائل: ما شأني برأي حدثٍ في مجال الكتابة، غرٍّ في مجال الفكر يُعلِّمني ما لا أجهله. فلعلَّني باستشهادي بأقوال الزَّيَّات والرَّافعي والمنفلوطي والطَّنطاوي وغيرهم من سادات القلم والمِرقم أن يكونوا مُعينينَ لي علىٰ التَّبصرة بما أنطق به حبراً. يقول صاحب الرِّسالة الأديب الكبير أحمد حسن الزَّيَّات -رحمه الله-: «الكتابة البليغة تجتمع لها صفاتٌ ثلاث: الأصالة: وهي ألَّا يكتب الكاتب كما يكتب غيره، وإنَّما يكون أصيلاً في نظرته وفكرته وصورته وكلمته ولهجته، فلا يستعمل لفظاً عاماً، ولا تعبيراً محفوظاً، ولا استعارةً مُشاعة. والأصالة تقوم علىٰ ركنين أساسيِّين: الكلمة الخاصَّة، والعبارة الجيِّدة. والصِّفة الثَّانية: الإيجاز؛ وهو الاعتماد علىٰ التَّركيز، والاقتصار علىٰ الجوهر، والتَّعبير بالكلمة الجامعة، والاكتفاء باللَّمحة الدَّالَّة. وليس من الإيجاز أن يقصَّ الكاتب أجنحةَ الخيال، ويُطفئ ألوان الحسِّ، ويتركَ أسلوبه كأسلوب (التِّلغراف¹) شديدَ الاقتضاب والجفاف. أما الصِّفةُ الثَّالثة الَّتي يجب أن تتوفَّر في الأسلوب البليغ فهي: التَّلاؤم أو الموسيقيَّة أو الهدمونيَّة: وتكون في الكلمة: بائتلاف الحروف، وتوافق الأصوات، وحلاوة الجرس، وفي الكلام: تناسق النظم وتناسب الفِقَر وحُسن الإيقاع. وسبيل ذلك المزاوجة بين الكلمات والجُمل».
فهٰذا التَّمازج الَّذي يُقرُّه الزَّيَّات بين مضمون الكلمة ومعناها من جهةٍ، وشكل الكلمة وتناغمها مع صويحباتها من جهةٍ أخرىٰ، هو تكميلٌ لغاية حُسن النُّصوص، وإبرازها علىٰ الوجه المطلوب بلاغةً وبياناً. فلا يُعمد إلىٰ طريقٍ علىٰ حساب قرينه. وإنَّ اختيار الكلمة لا يأتي إلَّا بكثرة المطالعة كما سردتُ في الفصل الأولىٰ من المقالة²، وهٰذا التَّعاضُد في مضمون الكلمة وشكلها يُنبيك عن أن اللَّغة إنَّما هي «كائنٌ حيٌّ» كما يقول جورجي زيدان، وليس المعنىٰ تماماً الَّذي أقصده كما وصفه هو: بأنَّها تُولد وتنمو وتتطوَّر ثم تندثر وتموت، بل أقصدُ أنَّها كالبني آدم، له شكلٌ (خَلْقٌ) لا يستقيمُ إلَّا بمضمون (خُلُقٌ). فلا يكتبُ أحدٌ كلماته وقد تباعد ما بينها في القرابة، وسبكَ بعضها بغير فهمٍ، وإنَّما أخذه التَّقليد الأعمىٰ، يستعيض عن معناها بأخرىٰ ليست من نفس جنسها، ولا يحسبُ هذا إلَّا تقدُّماً ورُقيَّاً، -وليت نثري- كيف يجد أحدهم في كلماتٍ مثل: عولمة، حوكمة، شعبوي، نخب نغماً يطربُ إليه! ألا تجد مثلاً جمالاً ورونقاً حين تقرأ في مقدِّمة ابن خلدون، يصف الفرق بين حكم النَّاس الضَّليعين بالتَّجربة والحكمة في الدَّولة: بالخاصَّة، وأما الشَّعبُ: بالعامَّة. انظر إلىٰ الكلمتين: الخاصَّةُ والعامَّة، وانظر إلىٰ سفاسف عصرنا، يقولون: شعبوي ونخبوي! ألا ليت السَّماء أمطرتهم حجارةً ومُنِعتُ عنهم المِظال. ومثلُ ذٰلك لو أمعنت في خطابات هٰؤلاء المتفيهقين الَّذين حسبوا الرُّقي في استخدام تلكم المفردات؛ لوجدتُ أكيالاً منها في أبحاثهم المزعومة، لعمرك فهي وإن كانت ذات معنىٰ يفيد المرء؛ فإنَّها تُنفِّره لما لها ضررٌ علىٰ العين كقذاها.
وللمرءِ أن يبعد عن الكتابة شيئاً يستريح باله من وعثائها، فهي كالسَّفر، تُحيجُه إلىٰ الاسترواح بين الحين والحين، فيستجمع أفكاراً أخرىٰ، ويحوز معانٍ جديدةٍ، ويستذكر مفرداتٍ أجدَّ، يُراجع مذهبه في الكتابة، فلرُبَّما غيَّر شيئاً من أساليبه الإنشائيَّة، فطوَّر بعضها، ونقَّحها، وبان له شيءٌ كان قد خفي زمناً. وقد تجدُ من هذا في نجيب محفوظ مثلاً، إذ انقطع عن الكتابة لخمس سنين من عام ١٩٥٢م-١٩٥٦م، أسماها «أعوام الجفاف»، ثم عاد فأنهل أعماله كثرةً وغزارةً حتَّىٰ كانت تأتي عليه أعوامٌ ينشر في كل سنَّةٍ عملين، ثمَّ تجد مثلاً سنة ١٩٧٥م نشر ثلاثة أعمال: حكايات حارتنا، قلب اللَّيل، حضرة المُحترم. وها محمود شاكر يتحدَّث حول انقطاعه عن الكتابة حيناً، يقول: « وسبب هذا العيب الغالب أنِّي استقبلتُ ريعان شبابي سنة ١٩١٩م مغموساً في الثَّرثرة؛ ثرثرة التَّعليم في مدارسنا، ثم ثرثرة رجال السِّياسية وثرثرة أقلام الصَّحافة، وثرثرة أهل الأدب والفكر، وثرثرة الطَّوائف من أصحاب الدِّيانة، وما لا أُحصيه عدَّاً من أنواع هذه الثَّرثرات. كنتُ يومئذٍ لا أزال غضَّ الإهاب، فتركَتْ الثَّرثرةُ في نفسي، وفي قلبي، وفي فكري ندوباً مخيفةً، لم يزل بعضها يلازمني؛ لأن الثَّرثرة لم تنقطع بعد، بل زادت وطغت في زماننا هذا».
علىٰ ألَّا يكون هٰذا حاجزاً له، فيزهد في الكتابة شيئاً طويلاً، حتَّىٰ يملَّها، وينشغل عنها، فإنَّ مُغريات التَّرك أكثر من مُغريات الجذب، وعوامل نبذ الكتابة يجدها في هذا الزَّمن قد اشتدَّت عن سابق العهود، فالهاتف ومواقع التَّواصل الاجتماعي وغيرها من وسائل التُّكنولوجيا ملهيةٌ بأكثر من القدر المفيد منها. ولَكَم أجد في جواب عبَّاس محمود العقَّاد جمالاً ومعنىٰ في داخلي لمَّا سألهُ الطناحي -قُبيل وفاته- عن شعوره إذا بلغ سن المائة؟ أجاب: «أنا لا أتمنَّىٰ أن أصل إلىٰ سنِّ المائة كما يتمنَّاهُ غيري؛ وإنما أتمنَّىٰ أن تنتهي حياتي عِندما تنتهي قُدرتي علىٰ الكتابة والقراءة ولو كانَ ذٰلك غداً». ومثل جماليَّة هٰذا القول ومنظومه ما باح به ميخائيل نعيمة، يقول: «الكتابة عملٌ مرهقٌ كسائر الأعمال البنَّاءة، إلَّا أنَّه عملٌ لَذَّته لا تفوقها لَذَّة. وهي لَذَّةٌ قلَّما يتذوَّقها الكُسالىٰ وفاتِرو الهمَّة. وأنتم متىٰ أدركتم أي مجدٍ هو مجدُ القلم هانت لديكم من أجله كلَّ أمجاد الأرض، وصُنتم أقلامكم عن التَّملُّق والتَّسفُّل والتَّبذُّل. وما دامت أقلامكم عزيزةً فأنتم أعزَّاء“. وأجاب نجيب محفوظ حين سُئل بعد أن كبُرت سِنُّه: ما موقفكَ من التَّوقُّف عن الكتابةِ؟ فقال: «إن التَّوقُّف عن الكتابة بالنِّسبةِ لي معناه: الموت!»، ويقول الرِّوائي الأمريكي فرنسيس فيتسجيرالد: قصَّة حياتي؛ هي قصَّة الصِّراع بين رغبتي الجارفة في الكتابةِ، ومجموعة من الظُّروف الَّتي كانت عازمةً علىٰ أن تحول بيني وبينها» تخيَّل أن تكون الكتابة هي الأصل في حياة المرء، وما عداها فروعٌ، وهٰذه الفروع شادَّةٌ مُبعدةٌ له عن الأصل الَّذي حياته حوله تدور، فتراه يكرهها، ويجعل الكتابة بطل قصَّته، وغيرها منابعُ شرٍّ وسوء.
أجدُ لمن يحبُّ أن يكتبَ، أن يعمد بادئ ذي بدئه إلىٰ القراءة والاستزادة من الثَّروة اللُّغويَّة، فيتَّجه إلىٰ السَّهل المُمتنع، أعني كتب أديب الفقهاء وفقيه الأدباء، أديبنا محمد علي الطَّنطاوي، ثم يقرأ النَّظرات والعَبرات للمنفلوطي، ثم وحي القلم للرَّافعي، ووحي الرُّسالة للزَّيات، وفيض الخاطر لأحمد أمين، وعبقريات العقَّاد، وأعمال محمرد شاكر. ثم ينتقل بعدها إلىٰ درجةٍ أرفع، فيقرأ للجاحظ؛ وأخصُّ بالذِّكر البيان والتَّبيُّن والحيوان، والأمالي لأبي علي القالي، وأدب الكاتب وعيون الأخبار لابن قُتيبة، والكامل في اللُّغة والأدب للمُبرِّد، كتبِ ابن المُقفَّع، وطوق الحنامة ومداواة النُّفوس لابن حزم، والصَّديق والصَّداقة لأبي حيَّان التَّوحيدي، وصيد الخاطر لابن الجوزي، ومقدِّمة ابن خلدون، ومدارج السَّالكين بين منازل إيَّاك نعبُد وإيَّاك نستعين لابن القيِّم.
ثم يعمد في آن الوقت إلىٰ حفظ المعلَّقات العشرة، ثم مختاراتٍ من أشعار شعراء الجاهليِّين، وكذا له أن يقرأ ويحفظ قصائد العُذريِّين كالعبَّاس بن الأحنف وكُثيِّر عزَّة، وجميلُ بُثينة، كذٰلك أن يحفظ شيئاً من مختارات أبي تمَّام في ديوان الحماسة. ولعمري فإن قصيدةً واحدةً من شعر الجاهليِّين وصدر الإسلام تغني عن عشر مجلَّدات.
و في خضمِّ هٰذا أن يسيل حبره بين الحينة والأخرىٰ، فلا ينقطع عن الكتابة أبداً. أن يكتب أي شيءٍ، في أيِّ شيءٍ، وعن أيِّ شيء، المهمُّ أن يكتب. وإن لم يجد شيئاً سوىٰ أن يكتب يوميَّاته؛ فليكتُب. وأرىٰ له أن يشارك بعضها مع من يُحب، فذٰلك أدعىٰ أن يُنقد فيجد مواضع الخلل فيُصلحها، ويُعالجها، ويُحسِّن منها في قادم أيَّامه، فلُربَّما تستحسنُ العين شيئاً لاعتيادها، ولا تعارض بين إعلاء شأن النَّفس والسَّماع للنَّقد، فكما أنَّه ليس كلُّ نقدٍ حقٌّ، فليس كلُّ نقدٍ باطلٌ، ورُبَّما ظهرت الحكمة حين تغيب البصيرة، ولكثُرما تغيب.
يقول الكاتب التُّركي الحائز علىٰ نوبل في الآداب أورهان باموك: «حين أتحدَّث عن الكتابة، فإنَّ أوَّل ما يخطر ببالي ليس روايةً، أو قصيدةً، أو تقاليد أدبيةٍ، وإنَّما شخصٌ يُغلق علىٰ نفسه الباب في غرفةٍ ويجلسُ إلىٰ طاولةٍ، ويحاولُ، وحدهُ، أن ينظُر إلىٰ الدَّاخل. وسط تلكَ الظِّلال يبني ذٰلك الشَّخص عالماً جديداً بالكلمات». وأقول أنا: «حين أتحدَّث عن الكتابة، فإنَّ أوَّل ما يخطر ببالي ليس روايةً، أو قصيدةً، أو تقاليد أدبيةٍ، أو كما قال أورهان؛ وإنَّما شخصٌ يستيقظُ صباحاً علىٰ وقع صلاة الفجر، يجلسُ إلىٰ كنبته، يسندُ ظهره، يُمسك لوحه الإلكتروني أو مِرقمه وقمطرته، ويمزجُ بين فكره ولغة آبائه البليغة، يُحييها في عصره، ويُريح أفكاره في ورقتِه، وسط عالم تنال الكلمات حرِّيتها من الشِّفاه، يرتاحُ هو إلىٰ خروجها من الأقلام».
ــــــــــــــــــــــــ
¹: رحم الله الزَّيَّات، لو كان حيَّاً يرزقُ في زماننا هٰذا لأومأ عم التِّلغراف بأساليب التَّحليلات السِّياسيَّة، أذ تجدها خاليةً من مضمون اللَّغة الصَّحيحة، وليس للعربيَّة فيها موضعاً، ولا للبلاغة ركناً، ولا للفصاحة حسَّاً. وأحسبُ الزَّيَّات -دعك من الجاحظ- لو رأىٰ ما يصنعوا للوضع كفَّهُ علىٰ عينه يُريد كفَّها عن الرُّؤية.
²: انظرها في فرع «خواطر حول الكتابة» ضمن قائمة «خواطر وبواعث»، بعنوان: لعلَّك تميلُ إلىٰ الكتابة بعد أن تقرأ هذا ١.
تعليقات
إرسال تعليق