لعلَّك تميلُ إلىٰ الكتابة بعد أن تقرأ هذا ١

 


كنتُ أُسائِل نفسي منذ أعوامٍ أربعةٍ خلَت عن ضرورة الكتابة بعينها وأنا في عمري هٰذا، وأقول في نفسي: لا أراني أهلاً للكتابة وأنا بعدُ غِرٌّ في ميدان القلم، وما زال مِرقمي لم يختمِر حبرهُ، ولم يغمَقَّ لونهُ، والصُّفيحات ما وُضِعت لِتُرفَعَ، وما ابيضَّت لتسودَّ! سُبَّةٌ بحقٍّ الأشجار أن تُقطعَ لتصير ورقاً أمامي، فلو أنِّي صنعتُ منها الأورغيامي لكان أجدرَ فائدةً، وأجدىٰ نفعاً من أسيل حبر مرقمي عليها.

نعم، هٰذه هواجسٌ أغشَت عيني، ووساوسٌ ملأت عليَّ فكري، وكنتُ أعتركها ردحاً من الزَّمن، وهٰذا منبته التَّواضع الَّذي أحببتُ أن أمتثله تارةً، وأخرىٰ خشية النَّقد اللَّاذع الَّذي سألفيه لا ريب، أو يلفيني هو. فواحدٌ لعلَّه يقول: لو تروَّيتَ سنيناً قبل أن تكتبَ مثل هٰذا لأجدتَ. وقائل خشيتُ أن يقول كما قال الجواهري يوماً لشابٍ حضر مجلسه، وأنشده شعراً ركيكاً دون حتَّىٰ استإذانه، وحينما فرغ من نشازه، سأل نهر العراق الثَّالث عن جمال منطوقه من عدمه، فقال له: اسمع يا بُني، الشُّعراء ثلاثة؛ هناك شاعرٌ عظيم، وهناك شاعرٌ، وهناك حمار. أما أنا فشاعرٌ، والصِّفتين المتبقِّيتين تقاسمهما أنت والمُتنبِّي! خشيتُ مثلاً أن يأتيني الطَّنطاوي من قبره، ويقول لي مقالة الجواهري لٰكن في النَّثر، فتكون فينا أنا وهو والجاحظ! هذا مثلاً يعني..

نعم، الإنسان في ريعان شروعه بأمرٍ ما، هو بين اثنين؛ إمَّا تواضعٌ حدَّ تسخيف النَّفس والتنقُّصِ منها وازدرائها، أو ثقةٍ بالنَّفس عاليةً حدَّ الغرور والكِبر فيكون فيها وضع الذَّات فوق موضعها، فإذا ما جُوبِهت يوماً تحت سيف البلاغة والفصاحة لرُبَّما نُحِرت فما تقوم لها قائمة بعد. وقد كنتُ أحبُّ أن أكون من المثَلِ الأوَّل فأجدُ خطأي وأصحِّحه، وأعاين الثَّقب فأُرقِّعه، وأبصرُ الخلل فأقوِّمه، ورُبَّ امرئ عرف الرَّشاد لنفسه، وكانت نفسهٌ أنْقَدَ له من غيره، فما حِيجَ إلىٰ النَّاس ينقدونه ويعذلونه والنَّاس كما قال العقَّاد: «لا تعدِل ولا تزِن»، وللإنسان أن يكون كما قال جبران: «وعظتني نفسي؛ فعلَّمتني ألَّا أطربَ لمديحٍ، ولا أجزعَ لمذمَّةٍ».

وقد رأيتُ خير الأمر أن يشرع الإنسان في تثقيف نفسه بحقٍّ، كما يُثقَّفُ سِنانُ الرُّمح بالسَّيف والخنجر، لا بقهوةٍ تركيَّةٍ علىٰ أنغام فيروز صباحاً، وأم كلثومٍ مساءً، وليس بإشعال سيجارٍ كوبي، وقراءة أعمالٍ شيوعيَّةٍ، أو خواطر لاتينيَّةٍ لا تنفعُ ولا تُجزي علىٰ الجُملة. وأحسن الثَّقافة ما كان كتاباً يُقرأ؛ فإنَّهُ إن لم يزع فيك علماً جديداً، أو معرفةً مُهتاداة؛ فلعلَّ الكتاب ينهلك من فيض حروفه ثروةً لغويَّةً، تُنمِّي فيك حسَّ البلاغة، فتستعين بها يوماً علىٰ شدائد الكتابة، وتقضي بها وطَرَ فكركَ الَّذي يعضِلُك عن شرحه بأحسن ما تريده، وكم من عالمٍ حصيفٍ، ودارٍ رصينٍ أعوزتهُ كلمةٌ عن البوح بما في جعبته. أتُراك لو علمت معنىٰ (الوجوم)؛ أي الحزن الشَّديد يورثُ عجزاً فيستعين بالصَّمت! لو علمتَ هٰذا المعنىٰ أتُراك تُضَّطرُّ معها إلىٰ كتابة جملةٍ لشرح ما فيك من شعورٍ وحِسٍّ وخاطر! ومثله لو علمتَ معنىٰ (السُّهاد)، (والهِيام)، (والوئام)، (والتَّهلُّل)، (والسُّويداء)، (والخلجة)، (والنوازعة)، (والجِبلَّة).. وغيرها وغيرها الكثير والمديد. ولَكَم يحضرني القول الحسن لروائينا شيخ مشايخ روسيا ونواحيها ليو تولستوي: ‏‎«أحتاجُ أن أقرأَ كثيراً حتَّىٰ أكتبَ خمسة أسطرٍ» تخيَّل يا رعاك الله! لأجل خمسة أسطر. ومثله أذكر قول روائي العرب في عصرنا أيمن العتوم يقول: «قد تحتاج لأن تقرأ مئة كتابٍ لكتابة رواية». وقال محمد سعيد العريان يتحدَّث عن صاحب الوحي¹ مصطفىٰ صادق الرَّافعي: «فإذا عقد العُقدة، ورتَّب موضوعه ترتيب الفصول في الرِّواية، آن أوان الأداء فأخذَ له أهُبَّته، فيطوي وريقاته ساعةً ليرجع إلىٰ كتابٍ، أيُّ كتابٍ من كُتب العربيَّة يقرأ منه صفحات كما تتَّفق لإمام من أئمة البيان العربي، فيعيش وقتاً ما قبل أن يكتب في بيئةٍ عربيَّةٍ فصيحةِ اللِّسان، وخير ما يقرأ في هذا الباب: كُتُبُ الجاحظ وابن المُقفَّع، أو كتاب الأغاني لأبي الفرج. وسألته في ذٰلك مرة فقال: "نحن يا بنيَّ نعيشُ في جوٍّ عامي لا يعرف العربيَّة، ما يتحدَّث النَّاس وما ينشئ كُتاب الصُّحف في ذٰلك سواء، واللِّسانُ العربيُّ هنا في هٰذه الكُتب، إنها هي البادية لمن يطلبُ اللُّغة في هذا الزَّمان، بعدما فسد لسانُ الحضر والبادية"»

الأمر أصعب ممَّا تتخيل، وأسهل ممَّا تظُن. الأمر يحتاج لحبٍّ أولاً، أن يكتب الإنسان عن حبٍّ لِما يكتُب، يقول ابن العاقولي البغدادي: «ينبغي لمن أراد التَّأليف: أن يُفرِّغ له خاطرَه، ويُقبل عليه بجُملته، ولا يضع ما ألَّفَه من يدِه حتَّىٰ يُهذِّبه، ويتدبره المرَّة بعد الأخرىٰ، فإن زلَّته لا تُستدرك وعثرتُه لا تُقال، وعليه بإدامة الفكرة، واللَّيل أعون علىٰ استحضار المعاني المطلوبة". كنتُ أريد أن أحذف رأيه عن اللَّيل لما أعارضه في أنَّ الصَّباح أصفىٰ للعقل، وأروح للنَّفس، وأنقىٰ للقلب، ولٰكنَّ «أمانة النَّقل أمارةُ صدقِ الرَّجل» كما أُردِّد أرجتني في أن أبقيها علىٰ حالها.

والكتابة هي مأوىٰ الكتوم، ومهجعُ الخائف، ومستودعُ الصَّابر، ولو صيَّرته الدُّنيا إلىٰ أردىٰ أحوالها لبات ككارل أوف كناوسغارد إذ يقول: «الكتابة! يا لها من علاج، لا أعرف كيف أعيشُ من دون الكتابة»، ولقد أعهدُ المرء أبلغ ما يكون في قلمه، وتراه في منطوقه أصغر ممَّا في مكتوبه، ولعلَّني أجدني بهٰذا الحال؛ فأستاءُ الشَّيءَ الكثير! إلىٰ أن قرأتُ في وصف بليغنا مصطفىٰ لطفي المنفلوطي في مقالةٍ لأحمد حسن الزَّيات، يقول: «رأيتهُ لأوَّل مرةٍ، فرأيتُ رجلاً مجتمعَ الأُشدِ، مُمتلئ البدنِ، غليظ الشاربِ، حسن السَّمتِ، لا تلحظ علىٰ وجههِ المطهَمَ المصقولَ مَخايل الفنَّان ولا سهومَ المُفكِّر، ثم تحسبهُ وهو يحدِّثك حديثه المُقتضب الخافض سريَّاً مِن عامَّة السُّراة في الصَّعيد، لا حظَّ له من بلاغةِ اللِّسان ولا رياضةَ القَلم».. لمَّا قرأتُ ما قرأت هان عليَّ ما كنتُ أجدهُ في نفسي من فارق الأمرين عندي، ثم أبصرتني لاحقاً وقد تمرَّستُ الكتابة والقراءة وحفظ الشِّعر قد أحسنتُ من الكلام ما أحسنتُ في الكتاب. الأمر يُصلبه الوقت، ويُنقِّحه التعوُّد.

والكتابة -يرحمكَ الله- لها وزنٌ مخصوصٌ من نفسٍ إلىٰ نفس، ومن عينٍ إلىٰ عين، فما تُطقِّسه لنفسك من رسوم المكان والزَّمان تُهيِّؤه لأن تكتب شيئاً، فرُبَّما كان لكَ هٰذا ناجع المحصِّلة، ناجح الأثر. أمَّا عند غيرك فقد يبوء به خسراناً، بل ولرُبَّما حمله ذلك علىٰ كره الكتابة جُملةً، فلا يعود للقلم أبداً. وللنَّاس ألوانٌ في تهيئة جوٍّ الكتابة لها، يقول بليغنا المنفلوطي: «كنتُ أحدِّثُ النَّاس بقلمي كما أحدِّثُهم بلساني، فإذا جلستُ إلىٰ منضدتي خُيِّلَ إليَّ أن بين يديَّ رجلاً من عامَّة النَّاس مقبلًا عليَّ بوجهه، وإنَّ من ألذِّ الأشياء وأشهاها إلىٰ نفسي ألا أترك صغيراً ولا كبيراً ممَّا يجول بخاطري حتَّىٰ أُفضيَ به إليه، فلا أزالُ أتلمَّس الحيلةَ إلىٰ ذلك، حتَّىٰ أظنُّ أنَّني بلغتُ ما أريد. وما كنت أحملُ نفسي علىٰ الكتابة حملاً، بل كنتُ أرىٰ فأفكِّر فأكتبُ فأنشرُ، فأُرضي النَّاس مرَّةً، وأُسخِطُهم أخرىٰ».

ومن جميل ما قرأتُ عن أساليب البعض في وضع أنفسهم في موضعٍ يُميل النَّفس إلىٰ الكتابة ما ذكره محمد سعيد العريان عن مصطفىٰ صادق الرَّافعي: «اختيار الموضوع، كان أوَّلَ عمل يحتفل له الرَّافعي، وإذ كان لم يعمل في الصحافة قبل اشتغاله بالرسالة، فإنه لم يتعوَّد من قبلُ أن يفتش عن الموضوع؛ إذ لم يكن يحاول الكتابة إلَّا أن يدفعه إلىٰ الكتابة دافعٌ يجده في نفسه قبل أن يطلبه، فلما دعاه صاحب الرِّسالة² إلىٰ العمل معه، راح يلتمس الموضوعات الَّتي تصلح أن يكتبَ فيها للرِّسالة، فكان يضيق بذٰلك ويتحيَّر، ثم لم يلبث أن تعوَّدها، فكان يُرسلُ عينهُ وراءَ كلِّ منظرٍ، ويمدُّ أُذنه وراء كلِّ حديثٍ، ويُرسل فكره وراء كلِّ حادثةٍ، ويُلقي بالهُ إلىٰ كلِّ محاورةٍ، ثمَّ يختار موضوعه ممَّا يرىٰ ويسمع ويُشاهد ويُحس، ثم لا يهمُّ أن يجمع له فكره ويهيئ عناصره، إلَّا أن يجد له صدىّٰ في نفسه، وحديثاً في فكره، وانفعالاً في باطنه، وكثيراً ما كان يعرض له أكثر من موضوع، وكثيراً ما كان يتأبَّىٰ عليه القول فلا يجد موضوعه إلاَّ في اللَّحظة الأخيرة، واللَّحظةُ الأخيرة عنده قبل موعد إرسال المقال بثلاثة أيام!»

أطلتُ عليكم.. علَّني أُتبع هٰذه واحدةً أخرىٰ مُكمِّلة

ــــــــــــــــــــــــ
¹: أي صاحب كتاب وحي القلم.
²: مجلَّةُ الرِّسالة الشَّهيرة.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١