النَّقائضُ والأضداد
كيف لكِ أن تعرفي النُّور؟ أليسَ بالظُّلمة؟ والأبيض لا أحسبكُ تُبصرينه علىٰ حقيقته لولا السَّواد، ولا الخيرَ إلَّا بالشَّرِّ، ولا الجمال إلَّا بالقُبحِ، ولن تعرفي فضل الطَّعام إلَّا بالجوعِ، ولا الماء إلَّا بالعطشِ، ولا متعة النَّومِ إلَّا بالنَّعس. تُعرف الأشياء بأضدادها وبنقائضها، يُستبان لكِ المعدن من نحت علىٰ ما يخدشه، وتجلبين منافر الشَّيء لتري صُلبه ولُبَّه، يقول أبو الطَّيب المُتنبِّي:
ونديمُهُم وبهِم عرفنا فضلَهُ
وبضدِّها تتبَيَّنُ الأشياءُ
وقال دوقلة يصفُ دعد:
بيضاءُ قد لبس الأديمُ الحسن
بهاءً فهو لجلدها جلدُ
فالوجهُ مثل الصُّبح مُبيضُّ
والشَّعرُ مثل اللَّيل مُسوَدُّ
ضِدَّانِ لِمَّا استُجمِعا حسُنا
والضِدُّ يُظهِرُ حُسنهُ الضِدُّ
فإنَّك لن تري المعاني علىٰ حقيقتها ما إن تعتادينها. الاعتياد جريمة، يُذهب حسَّكِ في فهم الأشياء، ويُغِمٌّ الغشاوة علىٰ عينيكِ فلا تبصرين إلَّا ملامح بُعَيدة المعنىٰ، سافرة الشَّكل، فتحسبين أنَّها كذٰلك علىٰ حيقيتها وما هي كما يُخيَّلُ إليكِ.
إنَّ من الفهم العميق النَّظرُ للأشياء بعين البصر وعين البصيرة، وقد اشتركتا -وهٰذا أمر يندُرُ حدوثه- في المسألة، إن الاعتياد يورثُ الملل، والملل يورثُ السَّأم، والسَّقم مدعاةٌ لليأس من جماليَّة الحياة، وجالبٌ لسوء التَّصرُّف مع الخلائق. فلكَم من واحدٍ اعتاد النِّعم فسهي عن فضل النِّعمة تلك، فما حمد وما شكر، بل طمع فيما هو أبعد وترك جزيل ما هو أقرب، فصار وقد أغمض عينيه عمَّا في يديه أملاً فيما فوق الشَّجرة العليَّة أغصانها وما هو طائلها، فغدا يندب حظَّه، ويشكو همَّه، ويألم لفقره المُصطنع، ويرثي حاله لمَّا أبصر غيره في نعماءٍ ليس كنعمائه شكلاً ولٰكنَّها هي هي مضموناً ومعنىًٰ. وقد ذكرتُ الفاروق عمر -رضي الله عنه- لمَّا قال في معنىٰ الضِّدين شيئاً مُشابهاً: «إنَّما تُنقض عُرا الإسلام عروةً عروةً إذا نشأَ في الإسلام من لا يعرفُ الجاهليَّة».
قد رأيتِ لا ريب في قوله معنىٰ ماثلاً أمامك، مضطجعاً أمامك، أما سمعت بنسوةٍ صاروا يعيبوا علىٰ الإسلام إباحته للتَّعدُّد؟ وما أعطىٰ للرَّجل من سلطةٍ علىٰ المرأة؟ هٰذه مسألةٌ أخذها أعداء الدِّين وزيَّنوها لبعض النِّسوة يُريدون تشكيك أهل الشَّرع بشرعهم. ولو نظرن بأنفسهم إلىٰ حال النِّساء في الجاهليَّة لعلمن فضل الإسلام في تشريف المرأة ورفعها فوق المقام الَّذي كنَّ فيه، وأين وضعهن في مقامٍ هو لهنَّ أليق، ولخلقهنَّ أرجىٰ، حتَّىٰ لو نظرتِ يوماً إلىٰ عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- يقول: «كنَّا نتَّقي الكلامَ والانبساطَ إلىٰ نسائنا علىٰ عَهدِ رسولِ اللهِ ﷺ مخافةَ أن يَنزلَ فينا القرآنُ! فلمَّا ماتَ رسولُ اللهِ ﷺ تكلَّمنا». إذ هٰذه المكانة العليَّة لهنَّ وصلت حدَّاً أن كثيراً من نزول الوحي كان لوضع تعاليم جديدةٍ تُنظَّم علاقة الرِّجال بالنُّساء، فلا يظلمنَ ولا يُظلمن. إذ كنَّ -كما يعلم من يعلم-؛ يوأدن في صغرهنَّ، ويزوَّجن في مراهقتهنَّ دون أخذ رأيهنَّ، وحتَّىٰ الزَّواج في تلك العهود لم يكن فقط بلون الزَّواج المعروف حالياً؛ إذ نرىٰ في الجاهليَّة أنكحة حرَّمها الإسلام لاحقاً، وأبقىٰ علىٰ نكاح الصَّداق المعروف الآن. كذٰلك ما جعل الإسلام للمرأة؛ أمَّاً كانت أو زوجةً، أختاً أو ابنةً من مكانةٍ رفيعةٍ عند أهلها، فلا يُهضم حقَّها في الميراث، والشَّديد عليهن في لآمةٌ، يقول عظيمنا ﷺ: ”استوصوا بالنِّساء خيراً، فإنَّهنَّ خُلِقنَ من ضلعٍ، وإنَّ أعوج شيءٍ في الضِّلع أعلاه، فإن ذهبتَ تُقيِّمه كسرته، وإن تركتَه لم يزل أعوجاً. فاستوصوا بالنِّساء“¹، وما شرع الإسلام في إباحة الزَّواج من أربعةٍ إلَّا أنَّه حدَّ الزَّواة بهذا اقدر، فكما نعلم أن العرب حينئذ كان للواحد منهم من الزَّوجة أكثر من أصابع اليدين!²
الأمر سيَّانٌ علىٰ أحكامٍ في شريعتنا يرىٰ البعض أنَّ فيها شيئاً من الغلظة الزائدة، ولو نظرنا بعين الرَّقيب علىٰ تاريخ ما قبل وبعد هٰذا الحكم؛ لعلمنا حُسن قضائه، وجزيل مآله في المجتمع والأمَّة. فمثلاً كانت العرب في أيَّام المجاعات والقحط تُغِيرُ علىٰ بعضها نهباً وسرقةً وقتلاً، فجاء الإسلام وشدَّد في منعه لذلك؛ ففرض حدَّ الحرابة، وأقرَّ حدَّ السَّرقة، وجعل حدَّ القصاص لما عُلِم عن العرب من عادة الثَّأر الزَّائد عن الحد، فصارت حروبٌ بين قبائل لأجل ناقةٍ أو فرسٍ أو خيمة.
قِسي لو شئتِ -نوَّر الله قلبكِ- الأمر علىٰ سائر أحكام الشَّريعة، وانظري إلىٰ كلِّ حكم من صورته التاريخيَّة، وكيف حسَّن الإسلام من طبائع العرب، الَّذين هم أقرب الشُّعوب إلىٰ الهمجية لبداوتهم جُلِّهم لولا رابطة الدِّين، وعقد النبوَّة، يقول ابن خلدون في مقدَّمته الشَّهيرة، في الفصل السادس والعشرين "العرب إذا تغلَّبوا علىٰ أوطانٍ أسرعَ إليها الخراب": «والسَّبب في ذٰلك أنَّهم أمَّةٌ وحشيَّةٌ، وهٰذه الطَّبيعة منافيةٌ للعُمران، ومناقضةٌ له، فغاية الأحوالِ العاديَّة كلَّها عندهُم الرِّحلة والتَّغلُّب، وذٰلك مناقضٌ للسُّكونِ الَّذي به العُمران، ومنافٍ له، ولذٰلك صارت طبيعة وجودهِم منافيةٌ للبناء الَّذي هو أصلُ العُمران". فهٰذه طبيعة العرب بغالبهم، فجاء الإسلام وهذَّ من طبعهم، وروَّض نفوسهم علىٰ معانٍ حسنةٍ كان كثيراً منها موجودٌ في أوقات فدعَّمها وأجازها، فإنَّهم وإن أقرُّوا الإغارة علىٰ بعضهم، فقد أجادوا بصفات الكرم والجود والبذل، وأحسنوا في بعض صفات الشَّجاعة والجسارة، وإجارة المكلوم، ونصرة المظلوم، وإعانة المحزون، وبرِّ الأبوين، واحترام الكبير، والعطف علىٰ الصَّغير وغيرها من مكارم الخلق. إنَّما عمد الشَّرعُ إلىٰ ما شذَّ فيهم من خلق مكروهٍ، ومثالبَ مذمومةٍ فطيَّنها إلىٰ مناقب محمودةٍ، ومكارم مرجوَّةٍ، فصاروا إلىٰ ما صاروا إليه من الطَّبائع النَّيِّرة، والأخلاق الحسنة، حتَّىٰ وصل أن كانت وصيَّةُ أول خليفةٍ للمسلمين أبي بكرٍ الصِّدِّيق -رضي الله عنه- لقوَّاده يقول: «يا أيُّها النَّاس قفوا أوصيكم بعشرٍ فاحفظوها عنِّي: لا تخونوا، ولا تغلوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلاً صغيراً أو شيخاً كبيراً ولا امرأةً، ولا تعقروا نحلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرةً مثمرةً، ولا تذبحوا شاةً ولا بقرةً ولا بعيراً إلَّا لمأكلةٍ، وسوف تمرُّون بأقوامٍ قد فرغوا أنفسهم في الصَّوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون علىٰ قومٍ يأتونكُم بآنية فيها ألوانُ الطَّعام؛ فإذا أكلتم منها شيئاً فاذكروا اسم الله عليها، وتلقون أقواماً قد فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسَّيف خفقاً، اندفعوا باسم الله».
هٰذه الوصايا لو وازنتِها علىٰ طبائع العرب في الجاهليَّة، كيف أمرهم في الحروب، وكيف أمر الإسلام في الحروب لبان لكِ عظم النقلة في أخلاقهم ونفوسهم، وهٰذا التَّطبيع لتلك المعاني ما كان لولا تهيُّؤ نفوسهم علىٰ السَّجيَّة بحكم عيشهم في البادية الَّتي هي أنقحُ للنَّفس، وأروحُ للرُّوح، وأنقىٰ للعقل، وأصفىٰ للقلب أن يستقبلها ويعتنقها. وهٰذا التبدُّل في أخلاقهم حتَّىٰ وصلوا إلىٰ أعلىٰ درجات التَّقدُّم والرُّقي ما كان إلَّا في بضعة سنين لا أكثر.
بعد معرفتنا بأحوال أهل الجاهليَّة تنجلي أمامنا غشاوةٌ اسقبلت العين بسبب مظاهر العولمة الحاليَّة، وشكول اللِّيبراليَّة والحرِّيات المُطلقة المزعومة، الَّتي رأت للفرد قداسةً لا تُثبت إلَّا بنزع القيود عنه، واعتبروا الدِّين علىٰ الجملة قيدٌ للعقل ليش للشَّهوة. وقد يكون هٰذا صحيحٌ في دين النَّصارىٰ لأنَّه ما بُني علىٰ أحكامٍ فقهيَّة، بل كان أقرب إلىٰ الرَّوحانيَّات منه إلىٰ التَّشريع إلَّا ما كان فيه من بقايا العهد القديم (التَّوراة المنزلة علىٰ كليم الله موسىٰ -عليه السلام-)، لذلك وقد رأوا في عصر التَّنوير، وما تبعه من الثَّورة الفرنسيَّة أن نبذ الدِّين عن السِّياسة هو أنجعُ للدِّين، وأنجحُ للسِّياسة؛ أخذ بنو جلدتنا تلكم التَّجربة، وشأَو زرعها في عالمنا الذي هو علىٰ النَّقيض من الغرب ودين النَّصارىٰ واليهود والهندوس والبوذيِّة، إذ الإسلام ما قيَّد العقل، بل الشَّهوات، وما قيَّد الشَّهوات إلَّا لِما في الزِّيادة منها ضررٌ علىٰ الفرد، فيصير تباعاً ضرراً علىٰ المجتمع.
لعلَّ مُستنبَتي الغرب من قومنا ما قرأوا التَّاريخ بعين النَّقد والرَّويَّة، بل بعين السَّرد والحكاية، فصار لهم هٰذا التَّاريخ لللَّهو لا للعلم، ولا التَّسلية لا للاعتبار، وهٰذا منبع الفهم السَّقيم، والعقل العليل. فلو وزنوا ما يقرأون بعين التَّاريخ أولاً، ثم اختلاف النَّفوس وطبائع الشُّعوب من بلدٍ إلىٰ آخر، ومن زمانٍ إلىٰ مثله ثانياً، وفرَّقوا بين ما يصلح تدريجيَّاً، وبين ما خيره أعجله تطبيقاً لرُبَّما صلح تغييرهم وإصلاحهم.
هداكِ الله وإيَّاي وإيَّاهم سبيل الرَّشاد، وجعل عملنا في رضاه. من اللهِ التَّوفيق، وعليه الاتِّكال، وذاته من وراء القصد.
ــــــــــــــــــــــــ
¹: مُتَّفقٌ عليه.
²: ولا تحسبي أنِّي بهٰذا أشجِّعُ علىٰ التَّعدُّد! آمل أن يكفيني الله بكِ بليَّةً ولا يردفُ بكِ أُخرىٰ.
تعليقات
إرسال تعليق