بلاغة عربيَّة في سنِّ المُراهَقة

 


كنتُ حينما شرعتُ في اقتفاء أَمَارات المتقدَّمين في الكتابة، المشهورين بالفصاحة، الموصومين بالبلاغة وحُسن سبك الكلام، ورصِّه وصفِّه بصورةٍ خلابةٍ؛ مُذهبةٌ للألباب، أخَّاذةٌ للأبصار، جلَّابةٌ للأنظار، يراها الرَّائي أجملَ من جنان الغوطة، وأرقَّ من مرتفعات الجولان، وأحلىٰ من بادية نجدٍ وضفاف النُّيل، وما ذاك إلَّا أن «المعاني مطروحةٌ في الطَّريق» كما قال الجاحظ، و"الحروف مُستهَلَّةٌ في يد الجميع" كما أقول أنا¹، فأحصفُ النَّاس عقلاً، وأرشدهم درايةً، وأرسمهم فنَّاً من شبك هٰذه بهٰذه، وسبك ذاك الحرف مع صاحبه، ورصَّ الكلمة إثر الكلمة فخرج لنا من المعاني الوليدة، والبلاغة المُبهاة ما تستحسنه القلوبُ قبل العيون، وما يقع للآذان فيه من طربٍ يُغنيها عن ملاهي والمعازف.

أطلتُ في الوصف، وما أردتُ قوله: حينما تبعتُ آثارهم -غفر الله لكِ ولي ولهم- ساء ذاك البعض، من حيث جلب العتيق التَّليد، عسر الفهم، وشديد الوقع، بدلاً من أسلوب العصر الطَّارف الجديد، السَّهل اللَّين، الَّذي لا يحتاج معه القارئ إلىٰ فتح المعاجم، واستبصار المفردات ومعانيها، ومرادفاتها وأشباهها ونظائرها. والنَّاس -جبَرَ الله خاطركِ ونوَّرَ قلبكِ- استطابوا السَّائغ، وأنفوا الجِدَّ، وشاؤوا لو تأتيهم الدُّنيا بعلمها وعملها بدل إتيانها حبواً، وما بغوا بعدُ والعالم من تطوُّرٍ إلىٰ تطوُّر، ومن سرعةٍ إلىٰ أسرع، ومن ملاحقةٍ إلىٰ أسبق؛ إلَّا أن تأتيهم المعلومة والمعرفة بأسهل ممَّا يأتي أشجار الأمازون ماء السَّماء! عصر السُّرعة هٰذه، والعولمة الزَّائدة، حتَّىٰ صار العالَمُ بحقٍّ -كما كنَّا نكتب في موضوع التَّعبير- قريةً صغيرةً! وهٰذه القرية أدخلت علىٰ لغتنا قوالب جُمَلٍ ليست من صميم العربيَّة، ولا هي من صلب لُغتنا السَّاميَّة، ولا نسبَ بينها وبين البَلاغة، ولا رابطة قرابة تصلها بالفَصاحة، ولو قرأ الجاحظ ما يكتب البعض لأمالَ علىٰ رأسه تلك المكتبة الَّتي أودت بحياته قبل أن تميدَ لوحدها! ولو سمع ابن المقفَّع شيئاً من أقوالهم لأمر بتقطيع أوصاله تُلقىٰ في التَّنور قبل أن يأمر المنصور بذلك!

نشازٌ لعمركِ أيُّ نشازٍ، ولم يكفِهم هداهُم الله أنَّهم مالوا عن دربٍ الأسبقين، وفصاحة الأوَّلين، بل صار لا بعجبهم من استمسك بهديهم ومسلكهم، وصاروا وقد دعوا ليس إلىٰ تجديد النَّثر فحسب؛ بل زادوا وأدخلوا بدعة شعر الحداثة، الَّتي يُضحكني وصف شيخنا أديب الفقهاء وفقيه الأدباء مُحمَّد علي الطَّنطاوي -رحمه الله- لها: «هل ترونني تفلسفتُ وأغربتُ وجئتُ بشيءٍ لا يُفهَم، كما يفعل أدعياء الشِّعر الجديد أو شعر الحداثة، أي: شِعرُ الحدَث الذي يستوجب الوضوء إن كان صغيراً والغُسلَ إن كان حَدَثاً أكبر! علىٰ أن من شِعْرِ الحداثة ما لا تذهب بأوضارهِ ولا تُطهِّرُ صاحبَه منه شلَّالاتُ نياغارا لو وقف تحتها واغتسل بها»!

وإنَّ رأيي -لعمركِ- لو وُضِع مُقابل رأي الشَّيخ لكنتُ أدنىٰ الفريقين إلىٰ معاشر الحدثيِّين وأرباب الشِّعر الحرِّ المزعوم، وأخفُّهم لوماً، وألينهم نقداً. ومثله قِسيه علىٰ النَّثر، فباللهِ عليكِ أخبريني لو تدرين: كيف يستقيم أن تكون هٰذه العبارة: "تمَّت القضيَّة" بفصاحة قولنا" قُضيَت"، و"تَّم الكتاب" كـ"كُتِب الكتاب"؟ وقول البعض: "هٰذه لعبةٌ مُذهلةٌ بشكلٍ جميل" كقولنا: "هٰذه لعبةٌ أخَّاذةٌ"؟!

هل يستقيم هٰذا بذاك؟ وهل يكون الأول كطرب الثَّاني علىٰ الأذن؟ هٰذه الأمثلة ومثلها مثائل عدَّة، وألوناً شتَّىٰ في كتاب «العرنجيَّة: بلسانٍ عربيٍّ هجين» للتُّرجمان أحمد الغامدي. وشأو الكاتب من إصدار هٰذا الكتاب فساد ما يسمى بـ«الفُصحىٰ المعاصرة»²، وتباعدها عن الأساليب اللِّغويَّة العربيَّة الصَّحيحة، وتراكيبها البيَّانيَّة المعهودة عند المتقدِّمين حتَّىٰ قبل قرنين من الزَّمن. وأمَّا تسميتها بالـ«عرنجيَّة» لأنها عربية الشَّكل، أفرنجية المضمون.. فسبكها فصارت: عرنجيَّة.

وقد عجبتُ لردِّ صاحبي إذ أنهلتُ عليه بحججٍ تُدعِّم نصحي له باتِّباع سبيل الأقدمين، فقال لي: النَّاس لن يفهموا!
عجباً والله، ومالنا وللنَّاس، النَّاس لا تعدل ولا تزن، والنَّاس قد استطابوا المركب اللَّين، والعلم الهيِّن، ولو تركتهم وشأنهم لاتَّبعوا كلام العجم شكلاً ومضموناً وليس فقط «يعرجنوه». ثم إنَّ الكاتب الحصيف يكتب للعربيَّة وللتَّاريخ، ولا يكتب لكلِّ قارئٍ، والكاتب الرَّصين يصير نبراساً متىٰ صار القارئ يتبعُ أسلوبه ونظمه، فيقلِّده ويسلك مسلكه، ويقتفي أثره. وهٰذا أدعىٰ لاستدامة اللُّغة، الَّتي هي مناط خصوصيَّة الأُمم، إذ ما صاروا شعوباً إلَّا باختلاف ألسنتهم وكلامهم، فاختلفوا وقد امتازوا، ثم تعارفوا وتجانسوا. واللِّغة إنَّما هي آيةٌ من آيات الله، وحريٌّ بالمسلم أن يرعىٰ حقَّ الله في لغته، فلا يشوبها بمفاسد تُذهب رونقها. كيف والقرآن إنَّما أنزل بلساننا العربيِّ المُبين، لا العرنجيِّ الهجين. لك أن تنظر إلىٰ أشعار امرئ القيس الَّتي أنشدها قبل ١٦٠٠ عام، تراها سهلةً علىٰ، بعض غريب مفرداتها. ومثل ذاك كتب الجاحظ وقد عاش في القرن الثالث للهجرة، ومثله قصائد المُتنبِّي وقد جال في القرن الخامس للهجرة. انظري إلىٰ ما سردتهُ لكِ، ثم رُومي ببصركِ نحو تلك الجزيرة في شمال أوروبا، أعني انجلترا، ترينَ كاتبهم الفذَّ، وصانع مجدهم الأدبي "وليام شكسبير" يحتاج القارئ الانجليزي المعاصر مع أعماله ومسرحيَّاته إلىٰ معاجم تُبينه عسرها!

أخرجَ البخاري في "التاريخ الكبير" (٩/٦٨) من طريق عبدِ الوارِثِ بن سعيدٍ، قال: حدَّثني أبو مُسلمٍ -رجُلٌ من أهلِ البَصرَةِ- قال: قال عُمرُ -رضي الله عنه-: «تعلَّموا العربيَّة؛ فإنَّها تُثبِّتُ العقلَ، وتزيدُ في المرُوءةِ».

ــــــــــــــــــــــــ
¹: هٰذه شوفة حال محمودةٌ غير مذمومة.
²: إي نعم، جعلوها فصحىٰ!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١