رسالةٌ إلىٰ من أضنته لوعة الهوىٰ

 


لو جئتكَ بالمفردات والمترادفات، وبصَّرتُك فيها أن سألتك عن معانيها، وقلتُ لك حدِّثني عن الشَّجاعة؛ لقلتَ: اقتحام العدو الصَّائل، أو هي صبر ساعة. ولو سألتك عن الكرم؛ لقلتَ: بذلُ بعض ما في اليد، والجود؛ بذل كثير ما في اليد، والإيثار؛ بذل كلَّ ما في اليد. ولو سألتكَ عن الصِّدق؛ لقلتَ: الجهر بما في النَّفس دون توريةٍ، والأمانة؛ لقلتَ: حفظ ما وُضِع في يدك يراده بعد حين. ولو سألتكَ عن الوفاء؛ لقلتَ: حفظ العهد إلىٰ اللَّحدِ.. وغيرها يا صديقي تجد من رموز المكارم معانٍ لا يعسر عليك ترسيخها في عقل كلٍّ امرئ بتعريفٍ واضحٍ جليٍّ غير مبهمٍ ولا ملجلج. فالآن هَبني لو سألتك عن أصل معنىٰ الحبِّ، فما تراك تقول؟

ألا تعلم؟ فإنِّي كذا لا أجدُ ما يُلبِّي النَّفس في تعريفه، وقد تتبَّعتُ بعض أقاويل الأعلام علَّني أجدُ مُنيتي في وصفه علىٰ أدقِّ صورةٍ تنبعث من كلِّ نفسٍ بشريَّة، فأجدُ ابن حزم رحمه الله يقول:
- «الحُبُّ -أعزَّك الله- أوَّلُه هَزلٌ وآخِره جِدٌّ، دقَّت معانيه لجلالتها عن أن تُوصفَ، فلا تُدرَك حقيقتُها إلَّا بالمعاناة، وليس بِمُنكَر في الدِّيانة، ولا بمحظور في الشَّريعة، إذ القلوبُ بيد الله عزَّ وجلَّ».
فيا ابن حزم، يا إمام الظَّاهريَّة، وقد شُهِر مذهبك وابن داوودٍ في ظاهر النَّص، فمالك قد واريتَ معناه عنَّا، وأنت الَّذي عاينته بنفسكَ في طوق الحمامة كما زعمت، ألا وجدنا عندك غاية معناه فتُريح خواطرنا، وهلَّا لو بصَّرتنا بما غاب عن أفهامنا؟ ما هو الحب؟ ما هو الحبُّ يا ابن الأحنف، هلَّا أجبتنا؟
- «الحبُّ أوَّلُ ما يكون لجاجةً
تأتي له وتسوقهُ الأقدارُ»
لا أريدُك تصفُ سَيْر الحبِّ يا أبا الفضل، أريدُ معناه، هلَّا أجبتنا؟
- «وإذا نظرتَ إلىٰ المحبِّ عرفتهُ
وبدت عليه من الهوىٰ آثارُ
قل ما بدا لك أن تقولَ فرُبَّما
ساقَ البلاء إلىٰ الفتىٰ المقدارُ»
ما هٰذا الَّذي أردتُهُ يا عباس! ليس هذا بالَّذي أريدُ، أُرديُ تعريف الحبِّ، أن أفهم مغزاه، وأن أعرف صورته، وأن أرىٰ شكله، وأحسَّ بوجوده، وأشعرَ بحقيقته، ما قولك يا عبد الله بن طاهر؟ هلَّا أجبتنا؟
- «إذا تقادَحت جواهر النُّفوس المُتقاطعة بوصل المُشاكلة، انبعثت منها لمحةُ نورٍ تَستضيء بها بواطنُ الأعضاء، فتتحرَّك لإشراقها طبائعُ الحياة، فيتصوَّر من ذلك خلقُ حاضرٍ للنَّفس، مُتَّصل بخواطرها، يُسمىٰ الحُب».
يا للمعنىٰ النَّفيس، ويا للصُّورة الحسناء، هل عندك من شيءٍ يا جبران فتُردف قول صاحبنا بآخر أحسن وأبهىٰ؟ ألا أجبتنا؟
- «فإن لقيتَ مُحِبَّاً هائماً كلِفاً
في جُوعهِ شبعٌ، في وِردهِ الصَّدرُ
والنَّاس قالوا هو المجنون ماذا عسىٰ
يبغي من الحُبِّ أو يرجو فيصطبرُ؟
أفي هوىٰ تلك يستدمي محاجرَهُ
وليس في تلك ما يحلو ويُعتبرُ !
فقل همُ البُهمُ ماتوا قبلما وُلدوا
أنَّىٰ دروا كُنهَ من يُحيي وما اختبرُوا»
لرُبَّما جلبتَ لنا شيئاً منه، فعرفنا جزءهُ لا كلَّه يا ابن خليل، فما شكله ولونه يا مسيري، وما ترىٰ فيه، هلَّا أجبتنا؟
- «وكثيراً ما كنتُ أخبر طالباتي بأن الحبَّ الحقيقي هو أن يقبل الواحد الآخر، ويعرف أن محاسنهُ مرتبطةٌ تمام الارتباط بعيوبه».
يا للمعنىٰ الرَّائق للنَّفس، ولٰكن أكان هٰذا خاصَّاً بالحبٍّ عامَّةً، أم هو ما يجدر بالمرء في رؤيته لمن حوله، فيقبلهم علىٰ ما هم عليه، ويعاملهم بما هم فيه دون إبداء تمنُّعٍ لاختلفه عنه؟ فما قولك يا رافعيُّ بما تقبُّل المرءِ لحِبِّه؟ هلَّا أجبتنا؟
- «لا يصحُّ الحبُّ بين اثنين إلَّا إذا أمكنَ لأحدهِما أن يقول للآخر: يا أنا، ومن هٰذه النَّاحية كان البُغض بين الحبيبين -حين يقع- أعنفَ ما في الخصومةِ، إذ هو تقاتل روحينِ علىٰ تحليلِ أجزائِهِما المُمتزجة. وأكبرُ خصيمين في عالم النَّفس: مُتحابَّان تباغضاً»
إذن يتخاصمُ المُحبِّين، كما أفهم كأيِّ علاقةٍ بشريَّةٍ أخرىٰ؛ صداقةٌ، زمالةٌ، قرابة.. وغيرها، فليس الحبُّ إذن بعارضٍ آخر مختلفٌ عمَّا سبق؟ وليس هو إلَّا منبعٌ كغيره من منابع الصُّفات العلاقاتيَّة بين شخصين! فما تضيفُ علىٰ معنىٰ الرَّافعيِّ يا شيرازي؟ هلَّا أجبتنا؟
- «قال لي المحبوبُ لمَّا زُرته:
من ببابي؟ قلتُ: بالباب أنا!
قال لي: أخطأتَ تعريفَ الهوىٰ
حينما فرقت فيه بيننا
ومضىٰ عامٌ فلمَّا جئتهُ
أطرقُ الباب عليه موهنا
قال لي: من أنتَ؟ قلتُ أنظر
فما ثمَّ إلَّا أنتَ بالباب هُنا
قال لي: أحسنتَ تعريف الهوىٰ
وعرفت الحبَّ فأدخُل يا أنا»

قد حارَ فيه البشر يا عبدَ الله، وأجدىٰ ما أقول لك فيه هو: إنَّ الحبِّ ينسلخ من عوارض البشر المعتادة ومطامعهم، وما في النُّفوس من الاستئثار بالحِبَّ، وجعله تحت غاياته، وتصييره بحسب ما يريد هو، دون تقبُّله علىٰ حقيقته، ودون تصوِّره أنَّه وإن اشتركا بضمير «أنا» وامتزاجهما حتَّىٰ لا ينادي أحدهما الآخر إلَّا بيا «أنا» فإنَّ لكلٍّ منهما شخصه وروحه المنفصلة عن الآخر، يُتمُّمُ بعضهما بعضاً، ويكمَّلُ أحدهما الآخر، فيزداد هٰذا بنقصه من زائدة الآخر، ويعطيه كلَّ ما عنده إيثاراً، ولا ينقص له من شيءٍ في يده، بل يهبه نفسه حتَّىٰ، ويتمنىٰ له من الخير ما هو له بل وأكثر، ولا يجعلنَّ للخصام عليهما باباً، ولا تكوننَّ الغيرة بينهما متجاوزة الحدِّ إلىٰ الشَّكِّ، فيصطبحانِ علىٰ تكدُّر الخاطر، والظَّنِّ بالسُّوء، والتعريض بالمساءةِ، واللَّوم بغير ما ذنبٍ ولا خطأ. وإنَّه لفي فرقٍ عن العشق الَّذي هو مرضٌ يُستعاذُ منه، وعن التَّعلُّق الَّذي يُكره للمرء، وما للإنسان في معاني الحبِّ إلَّا الحبُّ ذاته، والودَّ الَّذي يُكنُّه لمحبوبه، فيةون سعيداً بأقلِّ وصلٍ منه، ولا يحزن إنَّ انقطع عنه بُرهة وقد علم ما في حشاشته له من الحبِّ والمودَّة، وظنُّ -لا الظَّنَّ الَّذي بمعنىٰ الشَّكَّ، بل ظنُّ الَّذي هو يقينٌ ثابتٌ- إفراده في سويداء القلب دوناً عن النَّاس قاطبةً. وإن كنتَ جعلت من هٰذه العاطفة سبيلاً إلىٰ إيذاء محبوبك بكثرة العتاب واللَّوم، والتَّعريض له بالذَّنب فقد آذيته كعدوٍّ، وليس العتاب كما تقول العامَّةُ علىٰ قدر المحبة، بل هي إيذانٌ بصرفة المحبَّة، ولو أحبَّ بقدر ما زعم لصفح عن كلِّ زلَّة، ولغفر كلَّ ملمَّةٍ، ولجعل له من المعاذير شتَّىٰ، وصيَّر له من الحُجج إذ تغيَّب عنه ما يكفي صاحبته مأونة التَّبرير.

 وهو ليس بمانعٍ في الشَّريعة ولا مكروهٍ في الدِّيانة، بل هو لبُّ الوجود، وهو أساس المعيشة، ولا يستقيم أمرُ المرءِ إلَّا به، ولا تُستطابُ الحياة إلَّا به، يقول عظيمنا ﷺ في أمُّ المؤمنين خديجة -عليها السلام- ❞رُزِقتُ حُبَّها❝. وقال حين سأله عمرو بن العاص عن أحبِّ النَّاس إليه: ❞عائشة❝. يقولُ فواز اللعبون: 
- «الحُبُّ أمرُ اللهِ في أرواحِنا
وبهِ نَبُوءُ بخِزينا أو نؤجَرُ
هو نفحةٌ تجتاحُ جدْبَ قلوبنا
فتسِيلُ وديانٌ ويُعشبُ مُقفِرُ
ما كان أمرُ اللهِ إلَّا رحمةً
فتأمَّلوا آياتِهِ وتفكَّروا
يا ويل مَن يعصُونَ أمر إلٰهِهم
ويُحاربونَ الحُبَّ وهو مُقدَّرُ»

وما مساءة الأمر فيه إلَّا أن يُعجن بالحرام وبغير ما يُرضي الله، فيُلاثُ بشوائب الشَّهوات ومفاسدها، وهو -أي الحُبَّ- أبعدُ الأمور عن أن يُلاث بالمادِّيَّات، وأقربهم إلىٰ الرُّوح منه إلىٰ الجسد، يقول الرَّافعي:
- «ولقد علمتُ أنَّ الشَّيءَ السَّامي في الحُبِّ؛ هو ألا يخرج مِن العاشق مُحرَّمٌ».
وقال كذا:
- «لا عصمةَ علىٰ المُحب إلَّا إذا وُجد بين إيمانين
أقواهُما؛ الإيمان بالحلال والحرام، وبين خوفين:
أشدُّهما الخوف من الله. فمن أراد أن يسمو بالحُبِّ فليضعه في نفسه بين شيئين: الخُلُق الرَّفيع، والحكمة الناضجة. فإن لم يستطع فلا أقلَّ من شيئين: الحلالُ والحرام».

عصمنا الله وإياك من مغبَّة المفاسد، ومهلكة النَّفس، وأحاطنا بنعيم المودَّة، وروضة المحبَّة، وجعلنا إلىٰ سبيل الحبِّ راضين، مهتدين.

- مُحمَّد.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١