الطَّعام والقوَّة النَّاعمة

 


منذ بداية بطولة كأس أمم أوروبا (اليورو) ٢٠٢٤م الَّتي تستضيفها ألمانيا، برزت ظاهرة تشجيعيَّة وتنافسيَّة غريبة في عالم كرة القدم، ألا وهي: صراع الأكلات. فترىٰ مثلاً المُشجِّع الإيطالي يرفع لافتةً مكتوبٌ عليها: السباجيتي أطيب من الكباب. في إشارةٍ إلىٰ شهرة الأولىٰ في إيطاليا، والثانية في تركيا. ومثله من رفع لوحةً مكتوبٌ عليها: الباستا (ماكرونة) أطيب من الباييلا (وهي أكلةٌ إسبانيَّةٌ مصنوعةٌ من الرُّزِّ والخضروات والروبيان). كذلك نرىٰ المشجِّع السُّويسري يرفع أخرىٰ مكتوبٌ عليها: الفوندو (وهي أكلةٌ سويسريَّةٌ من الجبن المُذاب يُوضع كطبق إضافي) أطيب من الغولاش (الَّتي هي أكلةٌ مجريَّةٌ تشبه اليخنة أو الثريد عندنا). ومثلها مثائل من العبارات والأشكال التَّنافسيَّة في هذه النُّسخة من اليورو.. هذا التَّوزع الثَّقافي في قارَّةٍ صغيرةٍ نسبيَّاً، أعطىٰ لنسخة اليورو هذه وجهاً آخر جميلاً وبرَّاقاً غير المناوشات الحاصلة بين الجماهير، وذاك التَّعصُّب المقيت.

هذا التَّنوِّع الثقافي حتَّىٰ في جانب الأكل والأطعمة هو مثالٌ علىٰ اختصاص القوميَّات والدُّول القوميَّة وتميُّزها عن باقي الدُّول، فتصير علامةً عليها، أثراً علىٰ انفرادها، ومساحةً لها تُجذِّرْها لاستغلالها في قواها النَّاعمة. تماماً لو أخذنا بعين الاعتبار ما اشتُهِرت به اليابان مع طبقها الشعبي: السُّوشي.. فعلىٰ أن كثيراً ممَّن تذوَّقه لم يُحبِّذه جملةً، إلَّا أنَّه وجد فيه حلاوة التَّجربة.. تجربة طبقٍ ليس عنده مثله، فصارت تلك التَّجربة أَمارةً علىٰ أنَّ ثقافة بلدٍ ما ليست بالضَّرورة أن تسير إلىٰ بلدٍ آخر بالحروب، رُبَّما اكتُفي بالقوَّة النَّاعمة أن تكون داعمةً لسيطرةٍ البلد علىٰ بلدٍ. فكيف مثلاً أُفسِّرُ افتتاح مطعم سوشي في ولايتي الَّتي أقطنُ فيها هاهنا في كوتاهيا، في آخر ما عمَّر الله؟ لولا أنَّنا نعيش في عصر العولمة، وتحرجم العالم إلىٰ قريةٍ صغيرةٍ بكلِّ ما تحمله الكلمة من معنىٰ، وانتشار هذا الطَّبق بما يُسمىٰ الأنمي (أفلام الكرتون الياباني).

ومثله في فرنسا وشهرة الكرواسو، وكذاك إيطاليا وشهرة البيتزا والسباجيتي، وعندك الهند وأطباقها الشَّعبية الَّتي علىٰ حرارة مذاقها لها وجهُ إقبالٍ عند كثير من الدُّول بفضل قواها النَّاعمة، فلا ترىٰ أحداً إلَّا وسمع بالبرياني، وبالماسالا، هذا الانتشار ساعد بقوَّةٍ لأن يضع لبلد المنشأ موطئ قدمٍ في السَّاحة الاقتصاديَّة وحتَّىٰ السِّياسيَّة. ولا تظنَّن كلامي هذا محمولٌ علىٰ المبالغة، فكيف بك لو تدري أن ماجلاَّن ما سار وعبر رأس الرَّجاء الصَّالح إلَّا أملاً بطريقٍ إلىٰ الهند يبتاع منها البهارات دون سيطرة المماليك ومن بعدهم العثمانيين علىٰ طرق التِّجارة الرئيسيَّة بين الشَّرق والغرب، فطريق البهارات الهندية، وطريق الحرير الصيني لا يمرَّانِ إلىٰ أوروبا إلَّا من بوابة الأرض الوسطىٰ¹. فكان لزاماً علىٰ دول أوروبا ذات الأساطيل الصَّاعدة حينها مثل إسبانيا والبرتغال وهولندا ومن ثم المملكة المُتِّحدة أن تشنَّ حملاتها علىٰ بلاد المشرق: الهند، وجزر الهند الشرقيَّة (أندونيسيا وماليزيا) للاستيلاء علىٰ البهارات الَّتي هي مادَّةٌ أساسيَّةٌ في الأطعمة لم تعرف أوروبا حينها تلك البهارات في أطعمتها. فنرىٰ تأسُّس شركة الهند الشَّرقيَّة الهولنديَّة، وشركة الهند الشرقيَّة الإنجليزيَّة.. واحتلال الأخيرة لكامل التُّراب الهندي (الهند، باكستان، بنغلادش، نيبال، وأجزاء من أفغانستان وإيران)².

كذلك ما ارتحل كريستوفر كولومبوس وقبله أمريجو فيسبوتشي الَّذي سُمِّيت أمريكا علىٰ اسمه إلَّا أملاً بأن يجد طريقاً آخر غير الرَّجاء الصَّالح إلىٰ الهند، فوجد نفسه في قارَّةٍ جديدة غير الَّتي عهدها.

وانتشار ثقافة بلدٍ وقبوله في المجتمعات الأخرىٰ يكون سبيلاً إلىٰ قوَّة ذاك البلد في المجتمع الجديد، ما يؤهله ذلك مستقبلاً لعمل لوبي (مجموعة ضغط) يقوِّي من دعائم بلد المنشأ.. نرىٰ مثلاً ما نشره السِّوريُّون من ثقافة الشاورما والكبب، والأتراك ونشرهم لثقافة الكباب والدُّونر (وهي الشَّاورما التُّركيَّة)، وفلسطين والمقلوبة، والسعودية والكبسة، ومصر والطعمية، والمغرب والكسكس، واليمن والمندي، ولبنان وورق العنب، والعراق والمسقوف، والأردن والمنسف.. وغيرها.

نُبصِرُ هذا التَّنوُّع جليَّاً أخذ منحنىٰ التَّنافس الكبير بين الشُّعوب علىٰ اعتلاء كلِّ مجدٍ وكلِّ مكانة، ولا ضير إن كان عندهم حتَّىٰ في الأكل. فترىٰ ذاك الصِّراع المرير بين تفوِّق بعض الأكلات في بلدٍ علىٰ آخر.. كما بين سوريا وتركيا، والسِّعوديَّة ومصر، والمغرب والجزائر، وفلسطين والأردن.. إلخ

حتَّىٰ لرُبما تلقىٰ التَّنافس في أن تُضاهي كلَّ دولة في نسبة نوع طعامٍ إليها؛ السُّعودية في نسبة المندي لها أم لليمن، لبنان ونسبة التَّبولة لها أم لسوريا. بل ورُبَّما في أصل البلد نفسه بين مناطقه ومدنه، ففي سوريا نرىٰ الأمر مثلاً بين درعا والسُّويداء في نسبة المليحي لأيِّ محافظة، والكِبب بين دمشق وحلب، وحلاوة الجبن بين حمص وحماة.

ورُبما استمرىٰ هذا التَّنافس إلىٰ حدٍّ آخر أبعد، فلعلَّك مررت بشتَّىٰ المواقف المتكرِّرة حول أكلةٍ اشتُهِرت في بلدك، فعُيِّرت بها أمداً.. مثل أن تكون حورانيَّاً وتُعيَّرُ بالمقالي والمشمش المقلي (عوَّامة)، أو أن تكون ديرياً وتُعيَّر بالبامية، أو أن تكون حلبياً وتُعيَّر بالباذنجان المسأسأ باللبن (متبَّل)، أو أن تكون مصريَّاً وتُعيَّر بالطَّعميَّة، أو سعوديَّاً تُعيَّر بالكبسة.. كما نرىٰ ذلك حاصلاً في بطولة آسيا الآنفة بين الجماهير، أو البطولات العربيَّة بوجهٍ عام.

وهذا لو تعلم ليس بجديدٍ، أي ليس نتاج هذا العصر، بل هو بعيد القِدم، من زمنٍ أبعد ممَّا تظن، حتَّىٰ منذ أيام العهد النبوي. فقريشُ مثلاً كانت تُلقَّب بالسَّخينة؛ إذ كانوا مولعين بها؛ وهي طعامٌ تُسَوَّا من الدَّقيق والسَّمن وكانوا يأكلونها في شدائد الدَّهر، وغلاء السعر، وعجف المال، وقحل البلاد. يقول كعب بن مالك -رضي الله عنه- يهجوا قريشاً:
زعمت سخينة أن ستغلب ربَّها
وليغلبنَّ مغالب الغلَّاب

وكانت تلك الأكلة موضع السُّخرية تارةً، وموضع الإعجاب طوراً آخر، لا يشذُّ منهما أحد، حتَّىٰ كان بعض كبارهم يتندر بها، ومناظروهم يتفكهون عليها. اجتمع مثلاً أمير المؤمنين معاوية بن أبي سفيان القُرشي -رضي الله عنه- بالأحنف بن قيس التَّميمي فبادره معاوية قائلاً: يا أحنف، ما الشَّيء المُلفف في البَجاد؟ قال الأحنف: هو السَّخينة يا أمير المؤمنين إذ كانت قريش في الجاهليَّة مشهورةً باللَّقب، هو الطعام الَّذي يُسعفها في الفقر والقحل والمسغبة، ولم يكن في ذلك شيءٌ من الشَّرف، ولكن معاوية لم يكن يُريد السَّخينة التي ذكرها الأحنف، إنَّما قصد إلىٰ تعيير الأحنف؛ وهو من تميم بحبِّ الطَّعام، مُلحناً إلىٰ أبيات من الشعر؛ هي:
إذا ما مات ميِّتٌ من تميمٍ
فسرَّك أن يعيش فَجِئْ بزادِ

بخبزٍ أو بتمرٍ أو بلحمٍ
أو الشيء الملفف في البجادِ

تراه يطوِّف الآفاق حرصاً
ليأكل رأس لقمان بن عادِ

وصراع الأطعمة رُبَّما كان في غاية الأهميَّة، لاسيَّما حين تأتي دولةٌ معتديةٌ، أو جماعةٌ مغتصبةٌ، تسلب أرضاً، وتقهر شعباً، ولا تكتفي بذلك حتَّىٰ تعمد إلىٰ سرقة ثقافة ذلك الشَّعب والأرض.. مثل ما فعل الصَّهاينة في محاولة نسبة كلِّ أكلة فلسطينيَّةٍ إلىٰ أنفسهم (أي ما تُسمىٰ إسرائيل)، فتراهم يجهدون في نسبة الفلافل والحُمُّص والمقلوبة والمحاشي إليهم، كي يصنعوا لأنفسهم مجداً غير موجودٍ أساساً. فيقولون للعالم الحُمُّص الإسرائيلي، والفلافل الإسرائيليَّة، والتَّبولة الإسرائيليَّة، بل وحتَّىٰ امتدَّت سرقتهم الثَّقافيَّة إلىٰ بلاد المغرب العربي، فأخدوا في محاولة سرقة الشَّكشوكة، وحتَّىٰ الآن يتجهَّزون للاستيلاء علىٰ أكلاتٍ وتراثٍ آخر متعدِّدٍ.

ولا عجب، فمن سرق أرضاً هيِّنٌ عليه أن يغتصب ثقافةً.

ــــــــــــــــــــــــ
¹: أعني بالأرض الوسطىٰ: الشَّرق الأوسط، وكما أسلفت سابقاً لا أُحبُّ أن أطلق علىٰ موطني اسماً منشأه اتِّجاهه في طاولة رئيس وزراء بريطانيا.
²: تخيَّلوا! شركة تحتل بلد بحجم قارَّة من أجل أطعمة وتجارة وأموال!

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١