المسالك والمقاصد؛ رأيٌّ في السياسة والدين

 


أزعمُ أن أناسنا أبعدَ ما يكونون عن فَهمِ السياسة من جانبٍ، وفَهمِ الدين من آخر، وفَهمِ الواقع من ثالثٍ. إن الله ﷻ أعلمُ بخلقه من خلقه لا ريب، وسلطانه وحكمته تجلّت عن فهمها الخلائق، ولربما اهتدىٰ بعضهم إلىٰ استيعاب جزءٍ من جزءٍ منها.. لكنهم يبعدون عنها بُعداً لا يحتدّ بحدٍّ، ولا يُقاسُ بمِقياس. وقد رأيتُ أقواماً تأخذهم الحميّة في تطبيع شرع ربه، علىٰ صورةٍ ليس كما أنزلها ﷻ، وليس بشكلٍ طبّقه أجلّ الخلق عظيمنا محمدٌ ﷺ، ولا من بعده صاحبه وصفيّه وخليفته أبي بكرٍ الصديق -رضي الله عنه-، ولا أمير المؤمنين عمر الفاروق -رضي الله عنه-.. ولا عثمان ولا علي ولا ابن عبد العزيز. إن بعضهم أخذتهم العاطفة الجيّاشة في تطبيق شرع ربنا -وهو حقٌّ بحقٍّ حقّاً-؛ فرأوا أن من الفعائل الموجبة لذلك؛ إجبارَ الناس علىٰ ما لا يحتملون، وإنزالهم في ما يكرهون. فإن الغاية وإن كانت سليمة؛ فإن الوسيلة مريرة، بل ولربما زادت فكانت داعياً لإكراههم، وتنفيرهِم من شرع الحكيم ﷻ، فصاروا يبغضونهُ بدل حبّه؛ تماماً كردّة الروافض في إيران، إذ ادّعت دولة الملالي تطبيق الشريعة فنفّرت الناس عن دين ربهم. وربما عدا بالبعض أن ينسبوا ذاكم التطرّف والخارجية في تطبيق شرع الله إلىٰ الرجال أنفسهم، غير أن آخرين قد ينسبوا تلكم الأخطاء إليه -جلّ سلطانه وحاشاه سبحانه-.

وهذا تمام المسألة، التي أزعمُ فيها أن: طالبي العلمانية في بلادنا جلّهم لم يفهموا معنىٰ الشريعة، ولا جوهرها الرحيم، ولا غايتها المُثلىٰ. فإني لأرىٰ أن العدل هو غاية الدين في الدولة، أن يكون الناس علىٰ وفاقٍ، وأن تُقام في بيوت الله صلواته، وأن يهتدوا الناس إلىٰ أحسن الخلق، وأكرم المكرمات، وأن تُضمن حقوقهم وواجباتهم في فلك الدولة. فإنك لترىٰ في القصاص وأسلوب تحكيمه في عهد عظيمنا ﷺ، ومن بعده خلفائه الراشدين المهديين أسلوباً بلغ غاية الفهم والرويّة، فليس من مقاصد الدين أن تُقطع الأيدي والرؤوس؛ إنما الحدّ من السرقة والحرابة، فإن استوجب الأمر الزام الحد علىٰ من خالف؛ فهذه وسيلةٌ. تردفها الغاية: اقرار الأمن وحفظ النظام، وضمان الحقوق. لك أن ترىٰ في قصّة تطبيق حدّ الرجم علىٰ الجهينية، وكيف تعامل معها عظيمنا ﷺ.

❞أن مَاعِزَ بنَ مَالِكٍ الأسْلَمِيَّ أَتَىٰ رَسولَ اللهِ ﷺ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي قدْ ظَلَمْتُ نَفْسِي، وَزَنَيْتُ، وإنِّي أُرِيدُ أَنْ تُطَهِّرَنِي، فَرَدَّهُ، فَلَمَّا كانَ مِنَ الغَدِ أَتَاهُ، فَقالَ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي قدْ زَنَيْتُ، فَرَدَّهُ الثَّانِيَةَ، فأرْسَلَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ إلى قَوْمِهِ، فَقالَ: أَتَعْلَمُونَ بعَقْلِهِ بَأْسًا؟ تُنْكِرُونَ منه شيئًا؟ فَقالوا: ما نَعْلَمُهُ إلَّا وَفِيَّ العَقْلِ مِن صَالِحِينَا، فِيما نُرَى، فأتَاهُ الثَّالِثَةَ، فأرْسَلَ إليهِم أَيْضًا فَسَأَلَ عنْه، فأخْبَرُوهُ أنَّهُ لا بَأْسَ به، وَلَا بعَقْلِهِ، فَلَمَّا كانَ الرَّابِعَةَ حَفَرَ له حُفْرَةً، ثُمَّ أَمَرَ به فَرُجِمَ. قالَ: فَجَاءَتِ الغَامِدِيَّةُ، فَقالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي قدْ زَنَيْتُ فَطَهِّرْنِي، وإنَّه ردّها ، فَلَمَّا كانَ الغَدُ، قالَتْ: يا رَسولَ اللهِ، لِمَ تَرُدُّنِي؟ لَعَلَّكَ أَنْ تَرُدَّنِي كما رَدَدْتَ مَاعِزًا، فَوَاللَّهِ إنِّي لَحُبْلَىٰ، قالَ: إمَّا لا فَاذْهَبِي حتَّىٰ تَلِدِي، فَلَمَّا وَلَدَتْ أَتَتْهُ بالصَّبِيِّ في خِرْقَةٍ، قالَتْ: هذا قدْ وَلَدْتُهُ، قالَ: اذْهَبِي فأرْضِعِيهِ حتَّىٰ تَفْطِمِيهِ، فَلَمَّا فَطَمَتْهُ أَتَتْهُ بالصَّبِيِّ في يَدِهِ كِسْرَةُ خُبْزٍ، فَقالَتْ: هذا يا نَبِيَّ اللهِ قدْ فَطَمْتُهُ، وَقَدْ أَكَلَ الطَّعَامَ، فَدَفَعَ الصَّبِيَّ إلىٰ رَجُلٍ مِنَ المُسْلِمِينَ، ثُمَّ أَمَرَ بهَا فَحُفِرَ لَهَا إلىٰ صَدْرِهَا، وَأَمَرَ النَّاسَ فَرَجَمُوهَا، فيُقْبِلُ خَالِدُ بنُ الوَلِيدِ بحَجَرٍ، فَرَمَى رَأْسَهَا، فَتَنَضَّحَ الدَّمُ علَى وَجْهِ خَالِدٍ، فَسَبَّهَا، فَسَمِعَ نَبِيُّ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وسلَّمَ سَبَّهُ إيَّاهَا، فَقالَ: مَهْلًا يا خَالِدُ؛ فَوَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ لقَدْ تَابَتْ تَوْبَةً لو تَابَهَا صَاحِبُ مَكْسٍ لَغُفِرَ له. ثُمَّ أَمَرَ بهَا فَصَلَّىٰ عَلَيْهَا، وَدُفِنَتْ❝¹

فهل رأيت الحكمة في في تنفيذ القصاص؟ وكيف تعامل عليه الصلاة والسلام في أمرهما. وشبهاً بها قصّة عمر -رضي الله عنه- عام الرمادة، يوم أوقف حدّ السرقة وعطّله مؤقتاً، إذ أن السرقة لم تكون اختياراّ بل اجباراً، وفي هذا أعجبني شرح الصلابي في مقالته: ‏‎”وروىٰ الجوزجانيُّ عن عمر: أنَّه قال: لا قطع في عام السَّنة، وقال: سألت أحمد عنه، فقلت: تقول به؟ قال: إيْ لعمري! لا أقطعه إِذا حملته الحاجة والنَّاس في شدَّةٍ، ومجاعةٍ، وهذا فهمٌ عمريٌّ عميقٌ لمقاصد الشَّريعة، فقد نظر عمر إِلى جوهر الموضوع، ولم يكتب بالظَّواهر، نظر إِلى السَّبب الدَّافع إلىٰ السَّرقة، فوجد: أنَّه في الحالتين الجوع الَّذي يعتبر من الضَّرورات الَّتي تبيح المحظورات، كما يدلُّ علىٰ ذلك قول عمر في قصَّة غلمان حاطب: إِنَّكم تستعملونهم، وتجيعونهم، حتّى إِنَّ أحدهم لو أكل ما حرم عليه؛ حلَّ له.“²

فهل من الشريعة أن ترىٰ هذا ما حفّ شاربه، وذاك ما أعفىٰ لحيته، وآخر لبس جينزاً، ومثله شرب دخاناً، وخامساً شرب الأرجيلة فتقيم عليهم الحدود والعواقب؟ أمن الشريعة أن ترىٰ هذه أوّل الواجبات، وأبدىٰ الغايات بدلاً من إقامة العدل، ودفع الضرر، وحماية الديار، وإطعام الناس وتعليمهم، وحثّهم علىٰ العلم والعمل والجهاد في سبيل الله. وإقامة أركان الدولة، وتعضيدها من أساسها، حتىٰ تصير قلوب الناس مع الدولة، فيكونون جنودها بدل أن يصيروا أسعد من عدوّهم في القضاء عليها! ألا إن من حكمة الرأي، ورجاحة العقل، وصلب المنطق، والفهم السليم أن تدّعم الدولة بأركان تسدّها، وبخصالٍ تُحمد، وفِعالٍ تُشكر، وثوابٍ يدوم. وإن من الفطنة أن تشرع في الأساسيات والضروريات، ثم تنتقل إلىٰ الأثقل فالأثقل؛ فما حُرّم الخمر علىٰ الجملة، والدخان لا ريب أخفّ ضرراً من الخمر؛ فكيف تمنعه جملةً واحدةً وقد تغلغل في نفوس الشعب. الخير أن تأتيه تدريجاً، ومثله في سائر المحظورات؛ أن ترىٰ سياسة الأمور بطول النّفس، ورحابة العقل، وأن تشدّ علىٰ الشعب حين يُرخي، وتُرخي حين يشدّون= هذه شعرة معاوية.

وخير من يُطبّق الشريعة من يجعل الناس يطلبونها بمحضِ عقلهم وإرادتهم؛ لا بدافع عواطفهم ومشاعرهم.

عبدُ اللِه ومُقتفي أثرَ نبيّه.. أبو هاشم، مُحمّدٍ الأُمّي
١٩ شعبـان ١٤٤٥ه‍، الموافق: آخر نهار شبـاط ٢٠٢٤م.

ــــــــــــــــــــــــ
¹: رواه مسلم، برقم: ١٦٩٥.
²: علي الصلّابي، ‏‎”إدارة الأزمات في عهد سيدنا عمر بن الخطاب "عام الرمادة"“، مدوّنات الجزيرة ٢٦-١٢-٢٠١٩م.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١