صخرةٌ فُلِقت: في أدبيات الاعتيادِ والتّناسي والأُلفةِ والتجلّد



عدَت عليّ من لحظاتِ عمري أمداً، أنا فيه قد جُبِلتُ علىٰ اشتراكِ المصائبِ. ودنت مني حبائل الدهر بعنفوانها المثبّط للنفوس، المُيْئس للروح، المهلك للقلب؛ أن صيّرتني مرهف الحسّ، مرهق البدن علىٰ سواء. وقد جُبِلتُ علىٰ احتمال شظف العيش، ومرارة المعاشرة؛ فأصبحتُ أسيرٌ جامد الوجه، هامد النفس، علىٰ وجنتيّ أمارات البرودة البليدة= فكأنّ هذا فيه من وسائل النسيان، علىٰ أن البعض قد حسبه أثرٌ من تقلّبات الحياة. وما فيّ إلا أنّي وجدتُ نفسي لا تُغني إن صدّت تلك الريح العاتية، فخيرٌ لي أن أكون كشجرةٍ، ميّالةٍ مع العاصفة؛ تمور مع الريح، وتقرّ بقرارها. فكان لي من نصيب هذا؛كأنّ ثبُتّ في مكاني ولو بعد حين. وهذا لعمركِ نتاج خبراتٍ متراكمةٍ تكاثرت إثر اعتراك الحياة، واختبار روّعاتها. ولربما قد جمعتُ في هذا بؤساً مع تجلّدٍ ظاهر، أي كما قال الجواهري:

لم يبقَ عنديَ ما يبتزّهُ الألمُ
حسبي من الموحشاتِ الهمُّ والهرمُ

لم يبقَ عندي كفاءَ الحادثاتِ أسىًٰ
ولا كفاءَ جراحاتٍ تضجُّ دمُ

وحينَ تطغَىٰ علىٰ الحرَّان جمرتُهُ
فالصمتُ أفضلُ ما يُطوَىٰ عليهِ فمُ

وقد تكالبت عليكِ حوادث الأيام، حتىٰ غدت فيكِ حضورها من عدمها واحدٌ، لا فرق بينهما، وإنما سواءٌ في البضاعة. وهذا لعمركِ أحرّ ما في الأمر: الاعتياد. فإن الاعتياد فيه ما فيه من مساواته لمرارة الفراق بحدّ ذاته، وله من القرب ما للبلايا التي ألمّت بالمرءِ، وله من العواقب التي لا تُحمد؛ إذ لربما سنحت لمصيبةٍ أخرىٰ أن تودي بكِ عواتٍ جمّةً، وأنتِ غير شاعرةٍ بها، غير مدركةٍ لحسّها فيكٍ. ولترينَ من قول أبي الطيب المتنبي شيئاً مما حاك في نفسكِ، أن قال:
وما انتفاعُ أخي الدُّنيا بناظرِهِ
إذا استَوَت عندَهُ الأنوارُ والظُّلَمُ

فأي مصيرٍ صار يفرق عند الناظر لمجانِ الدهر، أن استوىٰ عنده خير الدنيا وشرّها، واعتدلت كفّة ميزان النور والظلمة، فصار الأمر سيانٌ عندنا في أثره علينا. وهذا الأمر إن وُصِل إليه؛ فقد تعدّىٰ صاحبه ضرورة الجلادة، ومفردة الاعتياد الخيّر. إذ صار وكأنّه موتٌ للقلب، وفناءٌ للروح، وإماتةٌ لحبر الحياة في الجسد؛ فباتت أنفاسه معدودةً كإحصاءٍ لا أكثر، فكأن شهيقه وزفيره في عداد المعادلات الكيميائية. وأين النفس البشرية من كل هذا، إن قول العامّة فيه من صواب الرأي وجهاً، أن قالت: ‏‎”الاعتياد جريمةٌ“= هذا لعمركِ خيرٌ= إذ أن مداومة النفس علىٰ تكرار مشهدٍ، يصير مألوفاً، فلا يزع بالنفس شعور الدهشة، أو شعور الصدمة الأولىٰ؛ فكأنّ ذانكم الشعور يحرّك فيكِ مشاعر استجدّت عليك لحظتحينها.

ألا فاستقرّي علىٰ أدنىٰ الأمرين، وأوسط الشرين، فلا تميلي يرحمكِ الله إلا مفازة الجزع، ولا تنأي إلىٰ مواظبة الأنين. فلا خير في الإفراط ولا التفريط. وكوني يا مكنوني علىٰ نهجٍ قويمٍ، وصراطٍ مستقيمٍ، تجبّلي علىٰ أكرمِ الخُلُقِ، ولا تُفضي لأحدٍ -عداي- شكواك، ولا تبيننّ له بلواك إنما أصبر الناس من احتمل عذابه لوحده -ولستِ وحدكِ-، وزهد عن إشراكِ غيره -وأنا لستُ غيراً-، واعتكفَ إلىٰ ربه يشكوه حمائل نفسه -ولستُ إلا نفسكِ-، ونوازل همّه -ولو كان الهمّ رجلاً لقتلته-، ولكن في قول أمير المؤمنين عليٌّ ما يُسكّن الروع، ويجبر الخاطر، ويُطمئن النفس:

وإن تسألني كيف أنتَ فإنني
صبورٌ علىٰ ريبِ الزمان صعيبُ

حريصٌ علىٰ ألا يُرىٰ بي كآبةٌ
فيشمتَ عادٍ أو يُساء حبيبُ

فما انتفاعنا من إخبار الغير بما تُكِنّ به نفوسنا، أتراهم يحتملون عنّا أكيالاً منها، فكأني بنا نراهم نحوا إلينا إشفاقاً علينا، وتحنّنوا علىٰ كتفينا من عسير ما أُنزل بنا. ألا فبئس المُشفَقُ عليه، وواسوآه علىٰ امرئ صار في موضع ضعفٍ، وفي حال إشفاق. وكذا فإن في إسرارك لمن حولكِ عن بعض ما حلّ بكِ نفحةُ أهل البؤس، وسوءة أهل المهانة، يقول ابن حزمٍ الأندلسي في الأخلاق والسَّيَر: ‏‎”لا تنقُلْ إلىٰ صديقِك ما يؤلمُ نفسَه ولا ينتفِعُ بمعرفتِه، فهذا فِعلُ الأرْذالِ! ولا تكتُمْهُ ما يستضِرُّ بجهلِه، فهذا فِعلُ أهلِ الشّرّ“. ومن مثله وصيّة السباعي، إذ يقول:
‏‎”إذا اشتكيت إلىٰ إنسان مرضك أو ضائقتك، ثم لم يفعل من أجلك شيئاً، إلا أن يقول: لا حول ولا قوة إلا بالله، فلا تشتكِ إليه مرةً أخرىٰ، فلو كان أخاً حميماً لأرّقه ألمك، ولو كان رجلاً شهماً لبادر إلىٰ معونتك، فوفّر حظك من الشكوىٰ لمن كان له حظ من المروءة!“. وحقٌّ قوله لعمركِ، فإنها لا تضع عنك من حِملها شيئاً أن أفشيتها، يقول فان جوخ: ‏‎”إن استنتاجي الوحيد من هذه الحياة، أن الشكوىٰ لا تقلل من المعاناة.“ وقد سمعتِ هذا من هؤلاء، فهلّا سمعتِ شيخ الإسلام أحمد بن تيمية يقول: ‏‎”أمر نبيه ﷺ بالهجر الجميل، والصفح الجميل، والصبر الجميل. فالهجر الجميل؛ هجرٌ بلا أذىٰ، والصفح الجميل؛ صفحٌ بلا عتاب والصبر الجميل؛ صبرٌ بلا شكوىٰ. قال يعقوب -عليه السلام-: ﴿إنّما أشكو بثّي وحُزني إلىٰ الله﴾ مع قوله: ﴿فصبرٌ جميلٌ واللهُ المستعان علىٰ ما تصِفون﴾“. وكذا قول تلميذه، شيخ الإسلام في عصره ابن القيم الجوزية -رحمهم الله جميعاً-: ‏‎”من خلقه الله للجنّة لم تزل تأته المكاره. والمؤمن الحازم يتثبّت للعظائم، ولا يتغير فؤاده، ولا ينطق بالشكوىٰ لسانه. وكتمان المصائب والأوجاع؛ من شيم النبلاء. وما هلك الهالكون؛ إلا من نفاد الجَلَد، فَخَفّفِ المُصاب عن نفسك بوعد الأجر، وتسهيل الأمر= لتذهب المِحَن بلا شكوىٰ“.

ولا أقول لكِ في هذا أن تعدمي شكواك عن خليلٍ يؤنسكِ -وليس لكِ إلا أنا-، وصاحبٍ يُسلّي عنك -ما غيري هذا-؛ إنما الإقصار في صنعك، والتوسّط كما أسلفنا، كما قال ‏ابن حزمٍ في طوق الحمامة: ‏‎”فإنَّ الهُموم إذا ترادفتْ في القَلب ضاقَ بها، فإن لم يفضْ منها شيءٌ باللسان، ولم يَسترِح إلىٰ الشَّكوىٰ، لم يلبث أنْ يهلكَ غماً، ويموتَ أسفاً“. ومن مثله قول بشار بن بُرد:
ولا بُدَّ مِنْ شكوى لذي مرؤءةٍ
يواسيك، أو يسليك، أو يَتوجَّعُ!

لكنّكِ ترين بعضهم قد اعتادوا الشكوىٰ، فتراهم يندبون كل صغيرةٍ وكبيرةٍ. فلو قرصهم ناموسٌ؛ لولولوا، ولو لفحتهم نسمات الربيع؛ لادعوا السقم. ويحضرني قول ميخائيل نعيمة:
‏‎”وقد ألفوا الشكوىٰ إلىٰ حد أنك لو انتزعتها منهم؛ لكنت كمن ينتزع منهم الحياة“. وكذا يكمل في كتابه دروب، يقول: ‏‎”الشكوىٰ مهما يكن نوعها هي اعتراف علىٰ ضعف الشاكي وجهله تجاه ما يشكو، وباستسلامه الباطني للانخدال والقنوط.“
وكان مما يُمدح المرء عليه جلادته عن أن يبيح همّه، وأن يُظهر ضعفه. رأىٰ عمرو بن عثمان بن عفان ابن الزبير الأسدي وثيابه تدل علىٰ فقره.. فأعطاه حتىٰ أغناه، فقال يمدحه:
سأشكرُ عمْراً ما تراخت منيتي
أياديَ لم تُمنَن وإن هيَ جَلَتِ

فتىًٰ غيرَ محجوبِ الغنىٰ عن صديقهِ
ولا مُظهِرِ الشكوىٰ إذا النعلُ زلَتِ

رأىٰ خَلَتي من حيث يخفىٰ مكانها
فكانت قذىٰ عينيهِ حتىٰ تجَلَتِ

وقريبٍ من هذا يقول الشريف الرضي:
وقد يصبرُ الحرُّ الكريمُ علىٰ الأذىٰ
ولا يُظْهِرُ الشَّكوىٰ وإنْ كانَ مُوجَعَا

وقد يأنَفُ المرءُ الكريمُ ويستحي
وإنْ ذاقَ طَعمَ الموتِ أن يَتوجَّعَا

ونحىٰ منحاهم أبي تمام إذ يقول وقد استكرهته الأيام علىٰ اقتراف ما نهىٰ نفسه عنها:
شكوتُ وما الشكوىٰ لمثليَ عادةٌ 
ولكن تَفيضُ الكأسُ عندَ امتلائها


فأخبريني.. لمَ المطلُ عن حالكِ؟

- عبدُ الله، مُحمّد الأُمّي
في ذيل كانون الثاني ٢٠٢٤م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

دوري أبطال الكذب