نظرةٌ علىٰ كتاب الربح علىٰ حساب الشعوب لنُعَوم تشومسكي



ما نعلم عن نُعَوم إلا تاريخه الطويل من نضال فئة الرأسماليين الطامعين، الذي جهدوا جهدهم في استعباد الناس، والسيطرة عليهم وعلىٰ أموالهم، وجعلهم تحت سلطتهم ولو بالخفاء، إذ قلّبوا إرادتهم تلك بقالب الديموقراطية الصرفة، التي تُخيّل للناس أنهم يصنعون خيارهم بأنفسهم، وأنّهم إنما هم بذاتهم من وضع القوانين، وهم من يرفعونها، بطريقةٍ أو بأخرىٰ فإن دستورهم الذي يحتكون إليه إنما هو من صنيعهم.
وهذا كله محض كذبٍ وافتراء، وتدليسٍ من تلكم النخبة، التي قضت بأن تعمل في الخفاء، فصار يُطلق عليهم الدولة العميقة. وهم لا ريب رؤوس الأموال والتجّار. وهم لهذا عملوا علىٰ قلب الديموقراطية، فلن يسمحوا بتاتاً للأكثرية؛ -الذي هم جُلّ الشعب، وهم إما فقراء أو طبقة وسطىٰ- أن يتحكّموا بالأقلّية الذين هم أنفسهم (رؤوس الأموال)-.
وتلك المهمّة العصيبة لا تأتي إلا بخطّةٍ متكاملة الأركان، متعاضدة الأوتاد، ومن هذه الأركان ما قسّمها نُعَوم علىٰ أسلوبه المعروف:


١) النيوليبرالية والنظام العالمي:
الليبرالية في علم الإجتماع هي الحرية المطلقة، ومثلها في الإقتصاد علىٰ نحو معناها، أي: الحرية المطلقة للشركات الخاصة، وانكفاء الدولة علىٰ نفسها فلا تتدخل في شغل الشعب وقرارته، وأن تخصخص (تعرضها للبيع) الشركات التي هي مُأمّمة مُسبقاً (ملك للدولة). وأن تفتح السوق الحرة، وتعمل بها دون قيودٍ وأغلال جمركية علىٰ الواردات.
فالدول إنما تقوم علىٰ حفظ حقوق العامة من الناس، دون تمييزٍ بين سيدٍ وعبد، وغنيٍّ وفقير، وشريفٍ ووضيع. كل الناس سيانٌ عند الدولة. والدولة إنما تحفظ حقوق مواطنيها في التجارة وسوق العمل، فإن سمحت للتجار الدوليين ورؤوس الأموال، أن يدخلوا إلىٰ البلد دون وضع بعض تلقيود الجمركية والضرائب علىٰ الدخل لهؤلاء الأجانب؛ فقد تكسد بذلك بضاعة أهل البلد، إذا أن القادمين من الخارج قد جاؤوا ببضاعتهم التي صنّعوها في بلدانٍ تكلفة تشغيلها أقل بكثيرٍ مقارنة بالداخل؛ من رواتب العمّال، إلىٰ فواتير الكهرباء، إلىٰ توفّر المادة الخام.. وغيره.
وأيضاً فإنّ إضفاء الحرية التامّة للشركات، ووضعها أمرها تحت تصرفها بذاتها لا تحت مراقبة الحكومة؛ سيجعل الشعب تحت قبضة الشركات، فيضاعفون الأسعار كيفما شاؤوا، ومتىٰ شاؤوا. والناس لهذا تُبّعاً، فقد يصعب منافسة حيتان السوق، الذين تمرّسوا فيه، واستثماراتهم في أعمالهم تجعل لهم طول النفس في انتظار النتائج= ولا يذهب أثر هذا بالسوء إلا علىٰ الكادحين.
ومما أعيبه علىٰ نُعَوم أنه لا يكثر من الأمثلة والمقاييس إلا ما يخصّ الولايات المتحدة الأمريكية فحسب لا غيرها، ولكن لا يهم مبدئياً إذ علمنا أنّه جهده قد انصبّ علىٰ محاربة الطغمة السياسية في هذا البلد.

وإن مما أقرّه من أمثلة علىٰ تلك الليبرالية في السوق، التي صاغها من قبل آدم سميث عالم الاقتصاد الشهير، وهو الأب الروحي والمؤسس النيوليبرالية: إجماع واشنطن. وهو:
‏‎”إجماع واشنطن النيوليبرالي هو مجموعة مبادئ محورها السوق، صاغتها حكومةُ الولايات المتحدة والمؤسساتُ المالية الدولية الخاضعة لسيطرتها، وتطبقها هذه الجهات نفسها بطرقٍ مختلفة. في المجتمعات الأضعف يكون ذلك بشكل برامج إصلاح هيكلي قاسية، قواعده الأساسية باختصار: تحرير قطاعي التجارة والمال، وترك تحديد الأسعار للأسواق «وضع السعر الصحيح»، والقضاء علىٰ التضخم «تحقيق استقرار الاقتصاد الكلي»، والخصخصة. يجب علىٰ الحكومةِ أن «تتنحىٰ جانباً» وبالتالي الشعب، ما دامت الحكومة ديمقراطية، إلا أن تلك النتيجة تظل ضمنية. بطبيعة الحال، تملك قرارات من يفرضون «الإجماع» أثراً كبيراً علىٰ النظام العالمي.“
وكان هذا الإجماع قاصمة الظهر لكثيرٍ من الدول، وإذا نا أرادت دولٌ أن تخرج عن هذه الظغمة المتحكمة في الأسواق، فقد كلّفوا الولايات المتحدة الأمريكية أن تكون الحارس الحاكمي لهذا الإجماع الذي أقرّوه، تماماً كنا فُعِل غواتيملا ١٩٥٤م، وإيطاليا ١٩٤٨م. فتلك القوميات الاقتصادية أوعزت للناس شعوراً بأنهم من يجب عليهم أن يتملكوا أسواقهم الخاصة لا الغريب. فغواتيملا أحبّت أن يكون لها الاقتصاد الزراعي المزدهر، مما جعل الولايات المتحدة الأمريكية تدبر لها انقلاب عسكري، إذ أن تفرّد حكومة غواتيملا بهكذا مشاريع، سيُعدي جاراتها السلفادور وهندوراس. كذا الأمر في إيطاليا، إذا خشيت أميركا أن الانتخابات الإيطالية ستسفر عن زعزعة للاستقرار، فلا بأس عند إدارة واشنطن أن تزعزع الاستقرار، لتحقّق الإستقرار.
كان هذا مما دفع الولايات المتحدة الأمريكية إلىٰ إنشاء ميثاق اقتصادي للأمريكيّتين؛ تنمحي بذلك ما يسمىٰ بالقوميّة الاقتصادية. 

والنيوليبرالية هي فكرةٌ سيئة بذاتها، إلا أنها وقد أغنت وأفادت طبقةً معينةً من الناس وهم الأقلية (الأثريا) فقد لاقت قبولاً في الدول، يقول نُعوم:
‏‎”أجريت أول تجربة كبرىٰ -تجربة نيوليبرالية- قبل مئتي عام، عندما أسس الحكام البريطانيون في الهند «المستعمرة الدائمة» التي كان من المخطط لها أن تصنع العجائب. حققت لجنة رسمية في النتائج بعد أربعين عاماً، وخلصت إلىٰ أن «المستعمرة المصممة بعناية وتدبر كبيرين قد أخضعت الطبقات الدنيا، للأسف، لاضطهادٍ مفجع»، مخلفة بؤساً «يكاد لا يكون له مثيل في تاريخ التجارة» حيثُ «ابيضّت سهول الهند بعظام ناسجي القطن»“.

وعلىٰ فشل تلك التجربة للرفع من أحوال الناس ومعيشتهم في الهند؛ إلا أنّها كانت كما زعم أرباب الاقتصاد النيوليبرالي تجربةٌ ناجحة، فيقول:
‏‎”لكن ليس بالإمكان صرف النظر عن التجربة بوصفها فاشلة. فقد أشار الحاكم البريطاني العام إلى أن «المستعمرة الدائمة»، رغم فشلها في نواحٍ عديدة وفي أهم الأساسيات، لها ميزة عظمىٰ، أنها أوجدت على الأقل مجموعة واسعة من ملّاك الأراضي الأثرياء، الراغبين بشدة باستمرارِ الحكم البريطاني، وامتلاكِ سلطة كاملة علىٰ «جمهور الشعب». وميزتها الأخرى أن المستثمرين البريطانيين جنوا ثروة طائلة. لقد موّلت الهند أيضًا ٤٠ بالمئة من العجز التجاري في بريطانيا من خلال تأمين سوقٍ محميّ لصادراتها الصناعية، وعمالٍ للأقاليم البريطانية بدلاً من جماعات العبيد السابقة، والأفيونِ الذي كان السلعة الرئيسية في صادرات بريطانيا إلىٰ الصين.“

ثم إن الغرب الذي يحرّكه الاقتصاد والأموال للسيطرة علىٰ الشعوب خشية انفلات زمامها، واستبدالهم بالاقتصادي القومي، والاعتماد علىٰ الذات في التصنيع والزراعة، فكان منها أن الغرب كانوا يخشون أن يلهم النموُ الاقتصادي في روسيا «نزعةً قومية متطرفة» في مكان آخر، وأن يصاب آخرون بالمرض الذي أصاب روسيا عام ١٩١٧، حين رفضت أن تكون «مكملًا للاقتصادات الصناعية الغربية». فقد كان الغزو الغربي عام ١٩١٨ عملاً دفاعياً، لحماية «مصالح النظام الرأسمالي العالمي» التي تهددها التغيرات الاجتماعية في المناطق الخدمية.
فكان إسقاط دول عدّة لسعيهم في العتماد علىٰ الذات، وأساس الأمر في الزراعة، فمثلاً أني قد قرأتُ سابقاً أن سبب اغتيال ملك المملكة العربية السعودية فيصل بن عبد العزيز كان بسبب سعيه لزراعة القمح، وليس بسبب حظر النفط كما يظن البعض. وكان من هذا علّة إسقاط نظام معمر القذافي الزعيم الليبي، فهو ليس بأشد خطراً من بشار الأسد مثلاً، وهذا لا عني أن ليس ظالماً، ولكن وإذ أنه أزمع علىٰ أن يؤسس عملةً ذهبيةً إفريقية، يُستعاض بها عن الدولار الأمريكي.
وعلىٰ هذا قس وتخيّر..

فنجاح الدول لا يعتمد الا علىٰ قدرة الدولة في تسيير شؤونها، ووضع الحدود وسن القوانيين لتنظيم الحياة التجارية والعملية في البلد، إذ يقول نُعوم: 
‏‎”نشرت مجموعة من الاقتصاديين اليابانيين البارزين مؤخراً تقريراً في عدة أجزاء، حول برامج التنمية الاقتصادية في اليابان منذ الحرب العالمية الثانية، أشاروا فيها إلىٰ أن اليابان رفضت المبادئ النيوليبرالية التي قدمها مستشاروها الأميركيون، واختارت عوضاً عنها نموذجاً من السياسة الصناعية التي توكل للحكومة دوراً مسيطراً ويستنتج الاقتصاديون أن رفض المبادئ الاقتصادية السائدة كان شرطاً لحدوث «المعجزة اليابانية». كان النجاح مبهراً، حيث أصبحت اليابان الاقتصاد الصناعي الأكبر في العالم بحلول عقد التسعينات، والمصدّرَ الأول للاستثمارات الأجنبية في العالم صارت تملك نصف صافي المدخرات في العالم، وتمول عجز الميزانية الأميركية.“
ومما قرأت في سنيّ عمري أن اليابان مشرّعة لقانون يجرم فصل الموظفين، إلا لأسباب قاهرة وتدعور لذلك، ففصلك للموظف أعقد من توظيفه.
ومن الدول التي نأت بنفسها عن السياسات النيوليبرالية والسوق الحرة هي كوريا الجنوبية:
‏‎”أما في كوريا الجنوبية، فإن «دولة المشاريع الخاصة» تعمل بصورة مختلفة، لكنها تقدم دوراً توجيهياً علىٰ أقل تقدير. والآن يتم تأجيل انضمام كوريا الجنوبية إلىٰ منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، التي تعد نادي الأثرياء؛ بسبب امتناعها عن اعتماد سياسات محورها السوق، مثل السماح للشركات الأجنبية بالاستحواذ علىٰ الشركات المحلية، وحرية حركة رأس المال.“
ومما شدّ انتباهي هو تفسير منطقي للسياسات الأمريكية التي وضعتها في الدول النامية عامّة، ودول أميركا اللاتينية خاصّةً:
‏‎”ويشير الخبير الاقتصادي البرازيلي بريسر بيريرا إلىٰ أن مشكلة أميركا اللاتينية ليست الشعبوية¹؛ بل خضوع الدولة للأغنياء.“

وإن من السياسات الأمريكية هي إضعاف التجارة الزراعية والصناعية علىٰ حدٍّ سواء، ذلك أن وإن كلفتها تصدير المزروعات والمصنوعات بطرق غير التجارية؛ أي المساعدات؛ فإن هذا يخفّض من أسعار المنتجات المحلية، خصوصاً للزول النامية، فتكسد بضاعتهم، ويختفي أثرهم في الأسواق، من مثل ذلك ما قال نُعوم:
‏‎”مثلًا، ارتبط مشروع مارشال² للإغاثة بشراء المنتجات الزراعية الأميركية، ما ساهم في ارتفاع حصة الولايات المتحدة في تجارة الحبوب العالمية من أقل من ١٠ بالمئة قبل الحرب، إلى أكثر من النصف بحلول عام ١٩٥٠، في حين انخفضت صادرات الأرجنتين إلى الثلث. كذلك فقد استُخدِم برنامج الإغاثة الأميركي «غذاء من أجل السلام» لدعم المشاريع الزراعية الأميركية وقطاع الشحن، ولإضعاف المنتجين الأجانب، ضمن إجراءات أخرى لمنع التنمية المستقلة. لقد كان الدمارُ الذي لحق بزراعة القمح في كولومبيا بسبب هذه الأساليب أحدَ العوامل في نمو صناعة المخدرات، والذي سرعت من وتيرته في منطقة دول الأنديز السياساتُ النيوليبرالية المطبقة في السنوات القليلة الماضية. في كينيا، انهارت صناعة النسيج عام ١٩٩٤ عندما فرضت إدارة كلينتون حصة استيراد، فقطعت عليها بذلك الطريقَ إلى التنمية الذي سلكته كل الدول الصناعية، في حين ينذَر «المصلحون الإفريقيون» بأن عليهم تحقيق المزيد من التقدم في تحسين ظروف العمليات التجارية و«تثبيت إصلاحات السوق الحر»، بتطبيق سياسات تجارية واستثمارية تفي بمتطلبات المستثمرين الغربيين.“

٢) القبول دون قبول التحكم بعقول الناس.
سعت الدولة العميقة قدر سعيها في تنحية الشعب عن الحكم، لا أعني عدم المشاركة في اختيار السلطة، لا بالطبع؛ إنما قُصِد أن الشعب يختار حكّامه، وينتخبهم للسلطة، هذا فحسب، ثم بعد ذلك لا شأن لهم فيه. أي أن الأكثرية هي التي تختار بوعيٍّ كاملٍ الأقلية التي تحكمهم، وإن تحكّم تلك الأقلّة بمنتخبيهم، وخضوع البشر لحكامهم والانقياد، والتسليم لسلطانهم لهم لهو أمرٌ أثار دهشة ديفيد هيوم قبل قرنين ونيّفٍ من الزمن، إذ لطالما رأىٰ أن «القوة دائماً بجانب المحكومين»؛ فلو أدرك الناس ذاكم لانتفضوا علىٰ حكّامهم، علىٰ وزن المثل الشهير: قيل لفرعون من فرعنك؟ فقال: ما لقيتُ أحداً يصدّني!

يعلّق نُعوم علىٰ رأي هيوم، فيقول:
”لقد استهان هيوم بفاعلية استخدام القوة بالتأكيد، فالصيغة الأدق لما قال، أن الحكومة كلما ازدادت «حريةً وشعبيةً» ازدادت ضرورة اعتمادها علىٰ التحكم بالرأي لضمان الخضوع للحكام.“
لأن تسيير الأغلبية لا يكون إلا بضمان سنّ القوانين التي تردعهم بسلاح القوة والشدّة.
يستكمل، فيقول: ‏‎”أصبحت ضرورة خضوع الشعب فكرةً مسلمةً بها عند مختلف الأطراف. في ظل الديمقراطية، يملك المحكومون الحق بالقبول، لكن لا أكثر.“
فلا يحقّ لهم التدخل في شأن الدولة، إنما اختيار من يمثّلهم، ومن يمثلهم قبل الانتخابات ليس بالضرورة سيمثّلونهم ما بعد الانتخابات.

لكن وإن كانت الديموقراطية التي تعني حكم الأكثرية، وتغليب رأيهم في قرارات الدولة هي صلب استدامة الدول، فكيف ينفع وقد يُحتمل أن تتسلّط الأكثرية الذي هم من الفقراء والطبقة الوسطىٰ، علىٰ الأقلية الذين هم من الطبقة الثرية؟
يقول نُعوم: ‏‎”اقترح فرانسيس هتشسن، الرائد في فلسفة الأخلاق وأحد معاصري هيوم، حلاً للمشكلة، فقال إن مبدأ «قبول المحكومين» لا ينتهك عندما يفرض الحكام خططاً يرفضها الناس، إذا «وافقت» الجماهير «الغبية» و«المتعصبة» لاحقاً «بحماسة» علىٰ ما فعلناه باسمها. يمكننا أن نتبنىٰ مبدأ «القبول دون قبول³»، التعبير الذي استخدمه لاحقًا فرانكلن هنري غيدنغز“.

وكان من أمثلة «القبول دون قبول، أو كما أسميها القبول بالتسيير»: ‏‎”كان هتشسون مهتمًا بالسيطرة على الرعاع في الداخل، أما غيدنغز، فبفرض النظام في الخارج. لقد كتب عن الفلبين، التي كان الجيش الأميركي يحررها في ذلك الوقت، ويحرر في الوقت ذاته مئات ألوف الأرواح من مآسي الحياة –أو بحسب تعبير الصحافة، «يذبح أهل البلاد على الطريقة الإنكليزية»، وذلك لجعل «المخلوقات المضللة» التي تقاومنا «تحترم أسلحتنا» علىٰ الأقل، وتدرك لاحقاً أننا نريد لها «الحرية» و«السعادة». وللتعبير عن كل ذلك بأسلوب حضاري لائق، ابتكر غيدنغز مفهومه «القبول دون قبول= القبول بالتسيير»: «إذا أدرك [الشعب المحتل] واعترف بعد سنوات أن علاقة النزاع كانت من أجل مصلحة عليا، يمكن عندئذ الاعتقاد منطقياً أن السلطة فُرضت بقبول المحكومين»، كما يمنع والدٌ طفلَه من الركض نحو شارعٍ مزدحمٍ.“

لقد بان علىٰ كثيرٍ من سياسيّي الدولة الأمريكية في مقتبل تأسيسها فكرة تنحية الشعب عن السلطة، لأنهم ليسوا أهلاً لها، وأيضاً تقسيم الشعب إلىٰ عقلاء وسَوقة. ‫إذ قد عبّر جون جاي رئيس المؤتمر القاري، وأول كبير قضاة في المحكمة العليا، بوضوح عن المبدأ السائد: «ينبغي أن يحكم البلاد أولئك الذين يملكونها». وصرح ألكسندر هاميلتون بأن الشعب «وحشٌ هائل» ينبغي ترويضه.
ومن جملة تفاسيرهم لذلك الرأي، ما أرحىٰ به المفكّر السياسي جيمس ماديسون في أن الانتخابات في إنكلترا «لو أتيحت لجميع طبقات الشعب، لأصبحت ملكيات أصحاب الأراضي في خطر، وسرعان ما سيطبق قانون زراعي» يمنح الأرض لمن لا يملك أرضاً. يجب تصميم النظام الدستوري بحيث يمنع حدوث هذا الظلم و«يصون المصالح الدائمة للبلاد»، وهي حقوق الملكية. وقد أعلن أيضاً جيمس أن المسؤولية الرئيسية للحكومة هي: حماية الأقلية الثرية من الأكثرية= أي هو تماماً عكس مبادئ الشيوعية التي تجعل أملاك الخاصة ملكاً لكلٍ العامة.

إن خطر استبداد الأكثرية، وتسلّطهم علىٰ الأقلية لما ينتهي فقط في داخلية الولايات المتحدة الأمريكية، بل وكان خطب توجّسوا منه في العالم بأسره، المُثمثّل في دور الأمم المتحدة، يقول نُعوم:
‏‎”برزت مشكلة تأمين «القبول» أيضاً مع المؤسسات الدولية. في البداية، كانت الأمم المتحدة أداةً يعوّل عليها في تطبيق سياسة الولايات المتحدة الأمريكية، وكانت موضع إعجاب كبير. لكن نزع الاستعمار أدىٰ إلىٰ ظهور ما سمي لاحقاً «استبداد الأكثرية». أخذت واشنطن منذ الستينات الصدارة في نقضِ قرارات مجلس الأمن (تليها في المرتبة الثانية بريطانيا، وفرنسا في الثالثة بفارق كبير)، وفي التصويتِ وحدها أو إلىٰ جانب عدد قليل من الدول العميلة ضد قرارات الجمعية العامة. فقدت الأمم المتحدة حظوتها، وبدأت تظهر مقالات جدية تتساءل لماذا «يخالف» العالم «الولايات المتحدة الأمريكية»؛ أما أن تكون الولايات المتحدة الأمريكية هي من يخالف العالم، فتعدّ فكرةً أغرب من أن تؤخذ بعين الاعتبار. وقد تطورت علاقة الولايات المتحدة الأمريكية مع المحكمة الدولية وغيرها من المؤسسات الدولية بطريقةٍ مشابهة.“

إن الرأي السائد هو أن الولايات المتحدة الأمريكية باعتبارها شرطي العالم، فلها الحقّ في تقرير مصيره، وتسييره علىٰ النحو المطلوب وإن خالف الإجماع، وهذا ينطبق تمام علىٰ صراع الشعب في الدولة الواحدة، إذ نبه هارولد لاسويل أحدُ مؤسسي علم السياسة الحديث، في موسوعة العلوم السياسية، إلىٰ أن الأقلية الذكية يجب أن تدرك «جهل وغباء الجماهير»، وألا تنقاد «للعقائد الديمقراطية الجامدة التي تقول إن الناس هم أفضل حكم على مصالحهم الخاصة». إنهم ليسوا أفضل حكم، بل نحن. يجب التحكم بالجماهير، من أجل مصلحتهم. وفي المجتمعات الأكثر ديمقراطية والتي لا يتوفر فيها خيار استخدام العنف، يجب أن يتجه مديرو المجتمع إلىٰ «أسلوب جديد كليًا في السيطرة، يعتمد في معظمه على الدعاية».
يعلّق نُعوم:
‏‎”لاحظ أن هذا مبدأ لينيني صرف. إن التشابه بين النظرية الديمقراطية التقدمية والماركسية-اللينينية مدهش تماماً، وقد تنبّأ به باكونين قبل وقت طويل.“


٣) الولع بالسرق الحرّة.
إن السوق الحرة تقضي بمحو السرق المحلية للدول النامية والمتهالكة اقتصادية، والضعيفة بنيوياً أما حيتان الأسواق، وكبار الشركات الرأسمالية الغربية، ووضع قيمة البضائع علىٰ النحو التي ترتضيه تلكم الشركات، التي هي بدورها تخضع في بعض الأحيان إلىٰ قراراتٍ مسيّسة؛ هدفها التضييق علىٰ الدول الصغرىٰ والوسطىٰ علىٰ حدٍّ سواء التي تخرج عن عصا الطاعة.

كتب يوسف إبراهيم في مقالٍ آخر للصفحة الأولى في صحيفة نيويورك تايمز، مرددًا فكرة شائعة: اليوم «أخذت الحكومات في كل مكان تعتنق تعاليم السوق الحر التي بشّر بها الرئيس ريغان ورئيسة وزراء بريطانيا مارغريت ثاتشر في الثمانينات».
يعلّق نُعوم: ‏‎”شئنا أم أبينا، يتفق الأنصار والنقاد من طيف واسع من الآراء –إذا اكتفينا بالجزء الليبرالي اليساري من الطيف- على «الاكتساح العنيد لـ«ثورة السوق»، كما يسميها دعاتها»: لقد غيرت «فردانية⁴ ريغان الصارمة» قواعد اللعبة في العالم كله، وهنا في داخل البلاد «يبدي الجمهوريون والديمقراطيون علىٰ حدٍّ سواء استعداداً لمنح السوقِ سيطرةً كاملةً» تماشيًا مع إخلاصهم لـ«المعتقد الجديد»“

وكانت من أبرز دعائم سيطرة الولايات المتحدة الأمريكية علىٰ الأسواق في العالم هي تأثيرها المباشر علىٰ المنظمات الدولية التي يتبع جلها الأمم المتحدة، التي تخضع حيناً كاملاً لسياسات الولايات المتحدة الأمريكية، من مثل أنها تصدّر قيمها المتعلقة بالسوق الحرة، باتفاقيةِ منظمة التجارة العالمية الخاصة بالاتصالات. وتُخضع صندوق النقد الدولي لسياساتها العسكرية والدولية مع الدول النامية التي تخضع تحت القيود تلك القروض التي أقرضها صندوق النقد الدولي.

أما الدعامة الثاني هي سعي الولايات المتحدة الأمريكية في السيطرة علىٰ البنية التحتية للدول، من اتصالات وسكك قطار، وطرق سريعة، ومطارات وموانئ، فنرىٰ مثلاً ما أورده نُعوم في شأن البرازيل:
‏‎”فقد قررت حكومة البرازيل رغم المعارضة الشعبية الضخمة أن تخصص شركة فالي، التي تسيطر علىٰ مصادر ضخمة من اليورانيوم والحديد ومعادن أخرى، ومنشآت صناعية ومرافق النقل، بالإضافة إلى تقنيات متطورة. تعد فالي شركةً عالية الربحية، حققت عام ١٩٩٦ ربحًا فاق ٥ مليارات دولار، وتملك إمكانات ممتازة في المستقبل؛ وهي واحدة من ست شركات أميركية لاتينية مصنفة ضمن الشركات الخمسمئة الأكثر ربحًا في العالم. قدرت دراسة أجراها مختصون في كلية الدراسات العليا للعلوم الهندسية في الجامعة الفيدرالية في ريو، أن الحكومة قدرت الشركة بأقل من قيمتها إلىٰ حد كبير، وذكرت أنها استندت في ذلك إلى تحليل «مستقل» أجرته شركة ميريل لينش، التي يصادف أنها مرتبطة بتكتل شركات أنجلو-أميركي يسعى إلىٰ الاستحواذ علىٰ ذلك الجزء الجوهري من اقتصاد البرازيل. نفت الحكومة صحة هذه الاستنتاجات بغضب. لكنها إن صدقت، سيكون ذلك نمطاً مألوفاً جداً.“ ... ‏‎”ملاحظة جانبية: ليست الاتصالات كاليورانيوم. فتركز قطاع الاتصالات بيد أي جهة (لاسيما جهة أجنبية) يثير تساؤلات جدية حول وجود ديمقراطية صحيحة.“

وخلاصة الأمر وزبدة الموضوع، أن النتائج المتوقعة لانتصار «القيم الأميركية» في منظمة التجارة العالمية، وغيرها من المنظمات هي:
‫أ. توفر «أداة جديدة» للتدخل الأميركي الواسع في الشؤون الداخلية للدول الأخرى.
‫ب. استحواذ شركات أميركية علىٰ قطاع حيوي في الاقتصادات الأجنبية. 
جـ. تحقيق مكاسب لقطاع الشركات وللأثرياء.
‫د. نقل التكاليف إلىٰ عامة الشعب.
‫ه‍. توفر أسلحة جديدة، قد تكون قوية، لمواجهة خطر الديمقراطية.

٤) ديموقراطية السوق في النظام النيوليبرالي: المبادئ والواقع.
إن القائمين علىٰ الحكم في الولايات المتحدة الأمريكية حسب نُعوم ينقسمون إلىٰ قسمين؛ مثاليون وواقعيون: ‏‎”يظل هنالك مجالٌ من الاختلاف في الآراء، في أحد طرفي النقيض يحث «المثاليون الويلسونيون» على متابعة الالتزام بمهمة الإحسان التقليدية، وفي الطرف الآخر يعترض «الواقعيون» بأننا نفتقر إلى الوسائل اللازمة لتنفيذ حملات «الإحسان العالمي»، وعلينا ألا نهمل مصالحنا في سبيل خدمة الآخرين. في المجال بين هذين الطرفين يقع السبيل إلىٰ عالم أفضل.“
غير أن الواقع الذي رآه، كان غير ذلك بتاتاً، كان ناشراً لغير الديموقراطية، موزّعاً للاستبداد: ‏‎”لكن الواقع يبدو لي مختلفاً بعض الشيء، لأن طيف الحوار الدائر حالياً حول الدبلوماسية العامة لا يختلف عما سبقه في انفصاله عن السياسات، فلم يكن «الإحسان العالمي» هدفًا للولايات المتحدة أو أي قوة أخرى. الديمقراطية اليوم تتعرض للاعتداء في مختلف أنحاء العالم، بما في ذلك الدول الصناعية المتقدمة؛ على الأقل، الديمقراطية بالمعنى الحقيقي للكلمة، والتي تقتضي تأمين فرص للناس لإدارة شؤونهم الجماعية والفردية بأنفسهم. وينطبق شيء مشابه علىٰ الأسواق، فالاعتداءات علىٰ الديمقراطية والأسواق متصلة، وتكمن جذورها في قوة الشركات التي تزداد ترابطاً فيما بينها واعتماداً علىٰ الدول القوية، والتي لا تخضع لمساءلة الشعب عموماً.“ علىٰ أنّ توماس كاروذرز، الذي يجمع بين المعرفة العلمية و«الاطلاع من الداخل» جراء عمله ضمن برامج «تعزيز الديمقراطية» في وزارة خارجية إدارة ريغان؛ قد رأىٰ أن «اندفاع» واشنطن «في ترويج الديمقراطية» «صادق»، لكنه فاشل إلىٰ حدٍّ كبير.

وقد رأىٰ عالَم التجار ورؤوس الأموال أن خطر سيطرة الشعوب علىٰ الدول أكبر من خطر الحروب بذاتها، فيسرد نُعوم: ‏‎”في الوقت ذاته حذر عالم الأعمال من «الخطر الذي يواجه الصناعيين» بسبب «القوة السياسية التي حققتها الجماهير حديثًا»، ونبه إلىٰ ضرورة شنِّ الحرب والفوز في «المعركة الدائمة للسيطرة علىٰ عقول الناس»، و«تلقينِ المواطنين الحكاية الرأسمالية» إلىٰ أن «يصبحوا قادرين علىٰ ترديد القصة بإخلاص مبهر»“
‏‎”نستنتج إذن أن واشنطن سعت إلىٰ صيغٍ هرميةٍ من الديمقراطية، لا تزعزع هياكل السلطة التقليدية التي لطالما كانت هياكل السلطة في الولايات المتحدة حليفةً لها“؛ بل تخترق الديمقراطية الصحيحة، لاستبدالها بديمقراطيةٍ ارتأتها صالحةً، وهي كما أسلفنا، ديمقراطية شكلية.

ولا يهم إن كان نشر هذه الديمقراطية سيُخلّف دماراّ هائلاً يصعب احتواؤه، فقد حذّر محرر مجلة نيو ريببلك مايكل كينسلي -الذي كان يمثل اليسار في التحليلات والمناظرات التلفزيونية العامة- من النقد الطائش لسياسة واشنطن الرسمية في مهاجمة أهداف مدنية غير محصنة. لقد أقر بأن هذه العمليات الإرهابية الدولية تسبب «معاناة جسيمة للمدنيين»؛ لكنها يمكن أن تكون «مشروعةً تماماً» إذا أظهر «تحليل التكلفة والعائد» أن «كمية الدم والبؤس التي سوف تراق» ينتج عنها «ديمقراطية»، كما يُعرّفها حُكّام العالم.
فمن الأمثلة علىٰ ذلك التجاهل للآثار التدميرية لسياسة فرض الديمقراطية الأمريكية، ما صنعته إسرائيل في جنوب لبنان: فإن محرر الشؤون الخارجية في صحيفة بوسطن غلوب ه.د.س. غرينواي، الذي كتب تقريراً مفصلاً عن أول غزو إسرائيلي للبنان قبل خمسة عشر عاماً؛ علق علىٰ هجمة جديدة من هجمات إسرائيل علىٰ لبنان بالقول: «إذا كان قصف القرىٰ اللبنانية سوف يؤمّن الحدود الإسرائيلية، ويضعف حزب الله، ويعزز السلام، ولو كلّف أرواحاً وطرد المدنيين اللاجئين إلىٰ الشمال؛ سأقول لا تترددوا، كما سيقول كثيرٌ من العرب والإسرائيليين. لكن التاريخ لم يكن رحيماً بمغامراتِ إسرائيل في لبنان، فهي لم تحلّ الكثير، وسببت في الغالب مزيدًا من المشاكل».
يُعلّق نُعوم: ‏‎”بالمعايير البراغماتية، إذًا، يكون قتلُ العديد من المدنيين، وطرد مئات آلاف اللاجئين، وتدمير جنوب لبنان، مسألةً إشكالية.“

‫ باختصار.. الخطر هو الديمقراطية، داخل البلاد وخارجها، كما يبين المثال من جديد. الديمقراطية مسموحة، بل ومرحب بها؛ لكن مجدداً، بحكم النتائج لا الكيفيّة.


٥) انتفاضة زاباتيستا.
أدرك نيكسون في سنة ١٩٧٠م أن الولايات المتحدة لم تعد قادرة علىٰ أداء دور «المصرفي الدولي»، الذي عاد بنفع كبير علىٰ الشركات متعددة الجنسية فيها؛ فأبطل النظامَ الاقتصادي الدولي (نظام بريتون وودز)، بتعليقِ قابلية تحويل الدولار إلى ذهب، وفرضِ قيود علىٰ الأجور والأسعار ورسومٍ إضافية علىٰ الاستيراد، واتخاذِ إجراءات مالية وجهت سلطة الدولة نحو تحقيق رفاهية الأغنياء، علىٰ نحوٍ يفوق المعهود سابقاً. باتت هذه السياسات هي الموجّهة منذ ذلك الحين، وقد شهدت تطوراً سريعاً خلال سنوات ريغان وأبقىٰ عليها «الديمقراطيون الجدد». لقد كُثفت الحرب الطبقية المستمرة التي تشنها قطاعات الأعمال، بوتيرة متزايدة وعلىٰ نطاق عالمي.
 من هذا السياق العام، فقد بان لنا فهم انتفاضة الفلاحين الهنود في تشياباس جنوب المكسيك، يومَ رأس السنة، حيث تزامنت مع إقرار اتفاقية التجارة الحرة في أميركا الشمالية (نافتا)، التي سماها جيش زاباتيستا⁵ «حكماً بالإعدام» علىٰ الهنود، وهديةً للأثرياء من شأنها تعميق الفجوة بين الثروة المركزة والبؤس الجماهيري، وتدمير ما تبقىٰ من مجتمع السكان الأصليين.

وكان من سياسات الولايات المتحدة الأمريكية للسيطرة علىٰ الدول ما صُنِع في المكسيك؛ من تحويل الإنتاج الزراعي نحو التصدير والأعلاف الحيوانية وفقاً لتوجيهات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي، مما عاد بالنفع علىٰ الشركات الزراعية والمستهلكين الأجانب والقطاعات الغنية في المكسيك، بينما أصبح سوء التغذية مشكلةً صحية كبرىٰ، وتناقصت الوظائف الزراعية، وهجرت الأراضي الخصبة، وبدأت المكسيك باستيراد كميات هائلة من المواد الغذائية. انخفضت الأجور الحقيقية في قطاع الصناعة انخفاضاً شديداً، وبعد أن كانت حصة العمال في الناتج المحلي الإجمالي تشهد ارتفاعاً حتىٰ منتصف السبعينات، انخفضت منذ ذلك الحين بأكثر من الثلث. 


٦) السلاح الأقوىٰ.
والسلاح الأقوىٰ هو الانقلاب علىٰ تلكم الديمقراطية بصورةٍ ناعمةٍ تارةً، وقاسيةً طوراً آخر.
فمن مثل الصورة الناعمة: الخصخصة، وهي جعل أملاك الدولة خارجة عن إرادتها، تابعةً لجهةً لا تستند تلك الجهة بذاتها إلىٰ الديمقراطية. فكما قال نُعوم: ‏‎”كانت «خصخصة أميركا» خلال القرن الماضي اعتداءً علىٰ الديمقراطية وعلىٰ الأسواق، وجزءاً من الانتقال من شيء يشبه «الرأسمالية» إلىٰ الأسواق المنظمة بإحكام، المميزة لزمن (الدولة-الشركة) الحديث. يسمىٰ الشكل الحالي لذلك «تحجيم الدولة»، أي نقل سلطة اتخاذ القرار من الحياة العامة إلىٰ مكان آخر: «إلىٰ الشعب» في خطاب أصحاب السلطة، وإلى أنظمة الاستبداد الخاصة علىٰ أرض الواقع. كل هذه الإجراءات مصممة للحد من الديمقراطية ولترويض «الرعاع».“
ومن الأمثلة الأخرىٰ علىٰ تقويض الديمقراطية ما يسمىٰ بـ«اتفاقيات التجارة الحرة»؛ وهي مصممة لنقل عملية صنع القرار بشأن حياة الناس وتطلعاتهم إلىٰ أيدي أنظمة استبدادية خاصة تعمل في الخفاء دون إشراف أو رقابة شعبيين.

وثانيها باستخدامة القوة الجبارة، وذلك عن طريق التشاريع المستعجلة، وقد أورد نُعوم مثالاً قريب العهد عن قراراتٍ لاقت رفضاً قاطعاً من الشعب، ولكنّه أُقِرّ علىٰ أيّة حال: ‏‎”لقد شهدنا مؤخراً مثالاً آخر: المحاولات في الأشهر الماضية لإقرار تشريع «مستعجَل» من شأنه أن يسمح للسلطة التنفيذية بالتفاوض حول الاتفاقيات التجارية دون إشراف الكونغرس أو دراية الشعب؛ ببساطة، كلمة نعم أو لا ستكون كافية. حصل التشريع «المستعجل» علىٰ دعمٍ بإجماع شبه تام داخل أنظمة السلطة، لكن وول ستريت جورنال أشارت بأسف، إلىٰ أن معارضيه قد يكون لديهم «سلاح أقوى»: هو غالبية الشعب. استمر الشعب في معارضة التشريع على الرغم من الهجوم العنيف من وسائل الإعلام، معتقدًا بحماقة أنه يجب أن يعرف بما يحدث له وأن يكون له رأي في تحديده. وبالمثل، فقد أقرت اتفاقية نافتا رغم المعارضة الشعبية، التي ظلت حازمة على الرغم من الدعم شبه التام والحماسي من قبل قِوىٰ الدولة والشركات..“
تم تصوير التشريع «المستعجَل» علىٰ أنه مسألة تجارة حرة، لكن هذا غير دقيق. فأشدّ أنصار التجارة الحرة حماسةً سيعارض التشريع المستعجَل بشدة إذا كان لديه، أو لديها، إيمان بالديمقراطية، التي هي القضية المعنيّة.
وقد قال جيفري لانغ أن: السبب الرسمي للتشريع المستعجَل: «المبدأ الأساسي للمفاوضات هو أن شخصًا واحدًا فقط (الرئيس)يمكنه التفاوض نيابة عن الولايات المتحدة»؛ أما دور الكونغرس فهو المصادقة الروتينية؛ ودور الشعب هو المشاهدة.
فهذا التقرير تراه حياً جلياً في ديمقراطيات العرب وبلاد الإسلام عامةً، فمن إندونيسيا شرقاً، مروراً بإيران، فالعراق بزمن البعث وبزمن الأذناب، وكذا من هذا سوريا فمصر، وحتىٰ تركيا.. وغيرها. كان الهرم الديمقراطي من؛ مجلس شعب، وحكومة، وقضاء شكلي لا أكثر= فالسلطة الحقيقة متمثّلة بالقائد الزعيم، وبطغمته العسكرية ودائرته الضيقة من أعوانه وأقرائه وعساكره المخلصين.


٧) حشود حرّاس القانون.
سابع أسس السيطرة علىٰ بنية الدول، وحبال التجارة العالمية، هي كتابة القوانين، وتسييرها علىٰ الشعوب من وجهة نظر ديمقراطية، وبالإيهام بأن الشعوب هي التي تكتب دستورها، بانتخاب رجالتها، الذين يكتبون فيما بعد قوانينهم المتعلقة بالتجارة وتسيير أمور السوق، يقول نُعَوم: ‏ ‏‎” فالقوانين «تكتب من قبل المحامين ورجال الأعمال الذين يخططون للاستفادة منها» و«الحكومات التي تتلقى المشورة والتوجيه منهم»، في حين «يبقىٰ الشيء الغائب دائمًا هو صوت الناس»؛ هكذا وصفت صحيفة شيكاغو تريبيون بدقةٍ المفاوضات بشأن الاتفاقية، والجهود المستمرة «لصياغة قواعد» لـ«النشاط العالمي» في مجالات أخرىٰ دون تدخلٍ شعبي.“

علىٰ أن تلك القوانين تخضع لمتغيرات، ولعوامل تفررها الشؤون التجارية التي تتغير بدورها مع مرور الزمن، فهنالك جهود جارية بالفعل لتغيير ميثاق صندوق النقد الدولي من أجل فرض شروط علىٰ القروض؛ تحاكي أحكام اتفاقية الاستثمار متعددة الأطراف، فتطبق القواعد بذلك علىٰ الضعفاء، أي علىٰ الآخرين. أما الأقوياء حقاً فسوف يتبعون قواعدهم الخاصة، كما حدث عندما قاطعت إدارة كلينتون دعواتها المتحمسة للتجارة الحرة كي تفرض رسوماً جمركيةً باهظة علىٰ الحواسيب اليابانية العملاقة التي كانت تضعف شركات التصنيع الأميركية (التي توصف «بالخاصة» بالرغم من اعتمادها الكبير علىٰ الدعم والحماية الحكوميين.
وتماماً كما صنعت إذ فرضت رسوماً جمركياً في عهد إدارة دونتلدد ترامب علىٰ الصلب والحديد القادم من الصين. ومثله حينما تحدّد عقوبات بالجملة علىٰ دولةٍ ما مثل إيران؛ عدا السجّاد والغاز والزعفران!

نهايةً.. فمن الواضح أن الربح علىٰ حساب الناس يقوم علىٰ مسألتين:
فالأولىٰ؛ ديمقراطية جفواء شكلية، تُظهر بها الدول للعامة أن هناك مساحةً من الحرية وإبداء الرأي، والتشارك في الحكم؛ وما هو إلا استبدادٌ خفي.
والثانية؛ هي نشر فكرة الأسواق الحرّة، فتنقضي معها نجاح الأسواق المحلية، بتسلّط حيتان الأسواق العالمية علىٰ التجارة الداخلية للدول، فتكسد بضاعتهم، وتبور أعمالهم، فيعرمدون بعدها علىٰ البضائع الخارجية، التي تكون كما نعلم مُسيطرٌ عليها من قبل شركات ومؤسسات الولايات المتحدة الأمريكية، فيكونوا عرضةً للحصار إذا ما أقدموا علىٰ خطوةٍ تخالف الأمر الأمريكي.


ــــــــــــــــــــــــ
¹: أي تغليب رأي الشعب العاطفي، علىٰ رأي أصحاب الكفاءات.
²: وهي حزمة مساعدات أقّها الكونغرس والرئيس الأمريكي تومان، وقد استيعض باسمه من اسم رئيس الأركان جورج مارشال، أرادت بها الولايات المتحدة الأمريكية مساعدة الدول ال التي عانت من ويلات الحرب العالمية الثانية؛ ألا تنجر إلىٰ الحلف الشرقي الذي تزعمه الإتحاد السوفيتي.
³: إني لأشعر أن هذا المصطلح «القبول دون قبول» ليس له معنىٰ واضحاً في لساننا العربي، فأحبّذ أن يكون علىٰ هذا النحو: «القبول بالتسيير»= أي تسيير العامة علىٰ قرارٍ في مصلحة الخاصة، دون وعي كاملٍ منهم بصنيعهم ذاك.
⁴: الفردانية: فكرة فحواها أن الفرد ينبغي أن يسمح له أن يصيغ مصيره بنفسه ويقرر ما فيه صالحه بنفسه دون تدخل حكومي. ويقوم الاقتصاد الحر علىٰ الفردية، فإذا حقق كل فرد ما فيه مصلحته يزدهر المجتمع ككل.
⁵: يُعتبر جيش زاباتيستا للتحرر الوطني (بالفرنسية:Ejército Zapatista de Liberación Nacional، أو اختصاراً EZLN)، والذي يُشار إليه غالباً بالـ«زاباتيستا»، مجموعة سياسية وعسكرية ليبرتارية اشتراكية تتحكم بأقاليم كثيرة في تشياباس، وهي ولاية تقع في أقصىٰ جنوب المكسيك. وتخوض هذه المجموعة منذ عام 1994 حرباً مُعلنةً ضد دولة المكسيك، والغارات العسكرية، وشبه العسكرية والمشتركة على تشياباس، وقد كانت دفاعية بشكل رئيسي، لكن ركّز جيش زاباتيستا في السنوات الأخيرة علىٰ إستراتيجية المقاومة المدنية. تتألف البنية الرئيسية لزاباتيستا من شعوب أصلية قروية بالغالب، بالإضافة إلىٰ بعض المؤيدين في المناطق المدنية وعالمياً، ويُعد نائب القائد المتمرد غاليانو، والمعروف سابقاً بنائب القائد كارلوس (يُلقّب أيضاً بالرفيق غاليانو والمندوب رقم صفر فيما يتعلق بـ«حملة زابتاتيستا الأخرىٰ»)، المتحدث باسم زابتاسيتا، وعلىٰ عكس المتحدثين الآخرين، لا ينتمي ماركوس لشعوب المايا الأصليين. (ويكيبيديا)

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١