غضبٌ ففجور
إنّي والله لأعرفُ الصاحب من العدو، والأخ من اللدود؛ حين الغضب. ففيه ألتمسُ صدق نواياه، وصفاء سريرته، ونقاء روحه. فإنّ الغضب يضع المرء علىٰ حقيقته الكامنة، ويُظهر علىٰ لسانه ما استتر، وبأفعاله ما خُفي. فما رجلٌ يكمُنُ الحقد، وهو يُظهر الصدق، فقال مقالته وهو غضبان= إلا ظهر الحنق الذي بداخله علىٰ فلتات لسانه. فكأنّ المرء ساعة الغضب تلك: قد غُيّب عقله، فما عاد يعقل قوله، ولا يُدرك فعله. قد صارت حركاته وسكناته تنمّ عن دواخله اللإراديّة.
وي كأنّ ربّه أنطقه.
وقد يقول قائل: إن غياب عقل المرء عند الغضب؛ أدعىٰ بك أن تصفح عن فعله، وتتغافل عن قوله، فما قالها إلا لذهاب عقله فهو كالسّكران، الذي لا سُلطة له علىٰ جسده في خمرة وغره تلك.
وأقول إن هذا يرحمك الله فيه من الصواب كما فيه من مجانبته. فالصواب: أنْ نعم.. خمرة الغضب لا تزول إلا وقد زال العقل لحظاتٍ وسويعات، فالواجب علينا؛ أن نعذره فلا نُحمّل الأمر فوق طاقته من ردّة الفعل في لحظته تلك.
وأما مجانبته: أنّه إنما لم يُحمّلنا ربنا ﷻ فوق طاقتنا من حِملٍ لسنا له أهلاً، وما جعل علىٰ ظهورنا ما يَثقل علينا وما نحن به كفؤاً، فلا نقدر معه من حِراك. فحين لا يقدر المرء أن يسيطر علىٰ نفسه، وأن يقوّمها بميزان الحكمة والرويّة؛ فهذا امرؤ لا تُؤمنُ عُقباه، والجاهل من لا يعمل معه الحذر والريبة. فما صنعه أمامك مع أحدهم إذ أغلظ له بالقول، وأشدّ عليه في الكلام؛ فلا شكّ هو صانعه معك غداً، أو بعد غدٍ، أو بعد شهرٍ، أو بعد سنةٍ أو اثنتين أو عشر. سيصنعه معك عاجلاً أم آجلاً.
ثم وقد حادثتُ صفيّي أبا الحسن منذ حين، وقال لي: لو أن المرء لا يملك علىٰ غضبه من حيلةٍ؛ لما أوصىٰ عظيمنا ﷺ صاحبه ألا يغضب. فعن أبي هريرة -رضي الله عنه-، أن رجلاً قال للنبي ﷺ: أوصني.
قال: لا تغضب. فردد.
قال: لا تغضب.¹
فأخبرني حبّاً في الله.. هل كان عليه الصلاة والسلام ليوصيه علىٰ أمرٍ ليس له سلطانٌ عليه؟
وإن الرجل إن يقدر علىٰ نفسه ساعة الغضب؛ فيُحكّمها بميزان الرويّة وطول البال، وسعة الفكر= هان عليه من بواقي أمر الدنيا. من سياسة الناس، ومخالقة الأقارب، ومجالسة الصِّحاب. وكان أجدىٰ الناس أن يُولّىٰ علىٰ الناس، ذاك أنه لا تحرّكه الغرائز الفطرية، والعواطف النفسية، فيحيدَ عن العدل، ويجانب الصواب فيوديه ذاك إلىٰ قعر الفجور بالخصومة.
فإن الرجل الذي لا يحدّ نفسه= فغرّة أمره أن يغضب، وخاتمته أن يفجر. وما فجوره إلا تبعاً لترك حبل النفس علىٰ الغارب، فكل قطرةٍ تتبعها قطرة، وكلّ ذرّةٍ تجاورها ذرّة؛ حتىٰ لتنظر فترىٰ بحراً من تلكم القطرات وكرةً من الذرّات تجمّعت في قلبه. فيصير وقد أَوَّلَ لكل مسألةٍ ألمّها خصيمه -الذي كان منذ زمن رفيقه- علىٰ نحوٍ لا يرضي الله من مساءة الظن، فيأتي له الشيطان يقول له: أرأيت حين ما ألقىٰ السلام عليك؟ إنما كان يقصد مجاهلتك، وما أراد بها إلا استصغارك، والحطّ من شأنك.
أوما رأيت حينما عبس في وجهك قبل خمس سنين ونيّف؟ ما عبس إلا حقداً عليك، وحسداً علىٰ ما في يديك.
أوما تذكر حينما طلبتَ منه مالاً تستدينه، فما أعطاكه؟ إنما لم يعطك خشية تفوّقك عليه في المال.
أوما تذكر حينما طلبتَ منه مالاً تستدينه، فما أعطاكه؟ إنما لم يعطك خشية تفوّقك عليه في المال.
وهكذا يمضي إبليس يُسعّر نار الحقد في قلب الغضبان، تعاونه نفسه الأمارة بالسوء، وكذاك بعض عوالق الدهر التي تبقىٰ في القلب بغير إرادةٍ. فتتراكم حتىٰ تصير جبلاً يخنق المرء في سعير غضبه. فلا يحرقَ إلا نفسه قبل أن يُحرق غيره.
واللهِ.. وباللهِ.. وتاللهِ.. إن تأويل القول بسوء الظن، أعظم وأشدُّ جُرماً من سوء الظن الذي قُصد فيه أن لا تلتمس لأخيك عذراً في غيابه.
وما ذاك إلا أن المرء هاهنا يجعل للقول السليم الذي ما فيه من بأسٍ؛ عُتِيٌّ من الأقاويل المرصوصة التي ما قصدها صاحبها علىٰ هذه الشاكلة، وصِوانٍ من كتبٍ ومجلّداتٍ؛ ما أرادها صاحبها علىٰ هذا نحو.
إنما هي نفثات الشياطين.. الغارم من يقبلها علىٰ صورتها دون تمحيصها.
ثم أين الغضبان ذاك من نعيم الجنّة إنْ لم يروّض نفسه علىٰ كضمها. فقد جاء عن أبي الدرداء -رضي الله عنه-، أن عظيمنا ﷺ قال لرجلٍ: ”لا تغضب ولك الجنّة.“²
فانظر كيف أن الجنّة تُدخل بإحكام النفس، وترويضها عن أنْ تنتهك الأمانة التي حُمِّلْها الإنسان. وكيف يستقيم لنا أن نحيله إلىٰ جنس الرجال إن فجَرَ في خصومته، وغلا في غضبه. ذاك أن الرجال تحكمهم عقولهم، والمرأة تُسيرها قلبها، وتسوسها عواطفها. فإن سار الغضبان بهدي القلوب كان من جماعة حوّاء³.
وإنّ فساد حال الغضبان يكمُنُ في أنّه صار يُتّقىٰ لما فيه من تلك الخصلة الشنعاء، والمثلبة الضرّاء، التي لا تُبقي بجانب صاحبها من صديقٍ ولا قريب. يهجره الناس هجر مودّعٍ، فكانت عاقبته الخُسران.. أن غدا وحده في حياته. وكما قال جدّي علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-: ”أوّلُ الغضب جنونٌ، وآخرُه ندمٌ. وربما كان العطبُ في الغضبِ.“
وهنا أشار أمير المؤمنين إلىٰ تلكم الفكرة: الندم. فإن الغضبان ما إن يصحىٰ من غفوته تلك؛ حتىٰ يعُض علىٰ أصابعه ندامةً وحسرةً علىٰ ما كان منه. وقضىٰ عمره يذكر لحظاته تلك بشيءٍ من الأسىٰ الذي ما يفارقه. فيبيت قائلاً: ليتني ما فعلتُ كذا وكذا، ولا قُلتُ ما قلتهُ.. ولو ولو ولو..
و"لو" لا تغني من الحقّ شيئاً. وما ينفع براقش بعد ما جنت علىٰ نفسها، ولا ابن العلقمي بعد خراب بغداد. تنقضي تلك اللحظة؛ وتبقىٰ مواجعها.
أما وقد علمتَ أمارة الشر كلّه، فخيرٌ لك تجنّبه، وإن تسأل عن العلاج فنجاعته في الدين. فقد روي عن عظيمنا ﷺ: ”إذا غضِبتَ؛ فإن كنتَ قائماً فاقعد، وإن كنتَ قاعداً فاتّكئ، وإن كنتَ مُتّكئاً فاضطجع“. وأنه قال أيضاً: ”إن الغضبَ من الشيطان، وإن الشيطان خُلِق من النار، وإنما تبرُد النار بالماء؛ فإذا غضِبَ أحدكم فليتوضأ“⁴.
وإني لأذكر في مطالع حياتي حين سمعتُ قصّة هارون الرشيد وجاريته، إذ قامت بسكب الماء الساخن علىٰ الخليفة يتوضّأ، فسقط الإبريق علىٰ رأسه، فغضب، والتفت إلىٰ الجارية يهمّ بعقابها.
فقالت له: والكاظمين الغيظ.
فقال الخليفة: كظمتُ غيظي.
فقالت: والعافين عن الناس.
قال: عفوتُ عنكِ.
فقالت: والله يحبّ المُحسنين.
قال: اذهبي، فقد أعتقتكِ لوجه الله.
﴿والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين﴾⁵.
نختم بقول عظيمنا بأبي هو وأمي ﷺ: ”ليس الشديدُ بالصّرعة، ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"⁶.
أحبَــــرَها أبو هاشمٍ الأُمّي فــي كوتاهيا، تركيا
شفق الأربعاء ٧ صفر ٤٥ه الموافق ٢٣ آب ٢٣م 
ــــــــــــــــــــ
¹: رواه البخاري في صحيحه.
²: رواه الإمام الألباني في جامع أحكامه.
³: لا أقصد بهذا إهانة النسوة، إنما بيان الأمر علىٰ حقيقته، وعلىٰ مقتضىٰ ما جاء به عظيمنا ﷺ. وما تفسيري لهذه النقطة وهي (تافهة)؛ إلا سيراً علىٰ قوله ﷺ: ”علىٰ رسلكم إنّها صفيّة“.
⁴: رواه الإمام أحمد بن حنبل في مسنده
⁵: سورة آل عمران، الآية ١٣٤.
⁶: رواه البخاري في صحيحه.

 
 
 
تعليقات
إرسال تعليق