الجدال



يحدث أن أشتدّ في الجِدال، ونفسي قد سهت عن فِعلي أنذاك، وكأنما الوعي بحال النفس في لحظة المناقشة والمناظرة يُغيّب، فالعقلُ موجودٌ لتُقرع الحُجّة بالحُجّة، ويُردّ الفكر بالفكر، والرأي بالرأي. لكنّ المرء إن يبصر حال أمره، ويعي مآله بصورةٍ شاملةٍ حاويةٍ للموضوع من عدّة جهاتٍ؛ زهدَ في الجدال، وانطوىٰ علىٰ نفسه، وارتدع عن الكلام إلىٰ السماع، والحديث إلىٰ الإنصات. وهذا من عدّة أوجه:

فأوّلها: أن النفوسَ إنما تتفاوت في الأطباع، وتتباين العقولُ في الآراء، وتختلف القلوب في الأهواء. وفي ذلك قال عَلمُ الدين ابنُ الهاشميَّة: ‏‎”كنت في سابق عهدي أتمرّس الجدال، وأخوض فيه -تحت طائلة اقناع جليسي-؛ خوض من جُبِلت عليه رسالةٌ فلا يُعفىٰ من أمره حتىٰ يؤديها. حتىٰ أدركت بعد ردحاً من الزمن: أن الأصل في الدنيا تدافع الآراء، واختلاف الفكر، وتباين الرؤىٰ، وهٰذه سنة الله يين خلقه. وكما قيل "لولا اختلاف الأذواق لبارت السلع". وكذا من هذا لو اتحد الناس بالرأي، وهم ليسوا علىٰ كمال الرسل؛ لظهر خللٌ في الفكرة وتطبيقها، فما عرفوا الصورة الكاملة، وما قدروا علىٰ لمس النقض فيها، وإصلاح عيّها. وإن من تمام الحكمة أن يزهد المرء فيما لا ينفع فيه جهد، فإن لم يُجِبك أحدهم إلىٰ رأيك؛ ﴿فلا تذهب نفسك عليهم حسرات﴾.“
فحين يكون في الرجل من سعة الاطّلاع، ما يغدوا يُحدّث، ويُسرف في بيان فكرته؛ ثم يأتي له من لا يفقه في مسألته تلك شيئاً، أو أقلّها قد غابت عنه أشياءً من تلك المسألة فيجهد المرء أيما جهدٍ في ردّ حجّةٍ قاصرةٍ من نظيره؛ فتجفّ عروقه، ويحترّ دمه، ويتصبّب عرقه لفساد تلك الحُجّة القاصرة في ذاتها. فيكون حينئذٍ سكوته انتصاراً؛ أكثر من انتصاره في المناظرة ذاتها. إذ أن سلامة العقل مقدّمةٌ علىٰ سلامة النفس= سلامة العقل في دفع الضرر عنه، وسلامة النفس في الإنتصار لها. يقول عَلمُ الدين ابنُ الهاشميَّة: ‏‎”دع عنك الناس وأراجيفهم؛ فإنهم ينطقون بما يجهلون، وإن يعلموا؛ فلا يغدو حديثهُم إلا وجهة نظرٍ، لا حقيقةً صِرفةً لا تقبل الجدال. وأقوال الناس فضفاضة الحق، ورأيهم يحتمل الخطأ كما الصواب. ورُبّ امرئٍ نهاك عن فعلٍ تُقدم عليه، لتجربةٍ خاضها؛ إلا أنها ليس بالضرورة تسري علىٰ غيره كما عليه“. وما رأيت عاقلاً يُخاطب مجنوناً أو طفلاً أو سكراناً فيضعه موضع القبيل اللدود الكفؤ. وإن الجاهل= فيه من أولئك الثلاث صفةً من كل واحد؛ فالجاهل له من المجنون حمقه في الكلام في مسألة يجهلها، ومن الطفل سذاجته في الحديث في كل مسألةٍ وأمرٍ، أفاده ذلك أم أضرّه، ومن السكران بذاءة التصرّف إذا ما قُرِعت حُجّته أرضاً، وأُردي بها في قعر الغباوة والنواكة.

فأما ثانيها: فإن النفس ميالةٌ للإنتصار لذاتها، وإعلاء شأنها علىٰ غيرها، وتبجيلها وتجليلها، ووضعها في صدر المجالس، وأُبّهة المطارح. وإنما تشعر بقيمتها إن تنتصر في الجدال؛ لا لمعرفة الحق، وبيان العدل في المسألة، واتباع سبيل الهدىٰ والرشاد؛ إنما دأبها كل الدأب أن تهزم نظيرها في ذلك، ولو كلّفها من الأمر أن تظهر بصورة العاجز، وأن تستخدم أقبح العبارات، وأنتن الكلمات، وأسوء الأمثال والألفاظ، وأن تخالف الحق، وتحيد عنه إلىٰ الباطل.. كل هذا جائزٌ عندها مادامت في آخر الجدال قد كسبته، وصارت حديث الناس، ومدار ألسنتهِم، وفحوىٰ مجالسهِم.
يقول ابن خفاجة:

دَرَسوا العُلومَ لِيَملِكوا بِجِدالِهِم
فيها صُدورَ مَراتِبٍ وَمجالِسِ


وَتَزَهَّدوا حَتّى أَصابوا فُرصَةً
في أَخذِ مالِ مَساجِدٍ وَكَنائِسِ


وثالثها: وهو مُكمّل للثانية بلونٍ آخر، وهذا اللون أعني به: أن النفس كما أسلفنا تُحبّ العُلا، تطمح إلىٰ الشهرة، وتصبوا إلىٰ الحضرة والمكانة الرفيعة، فإن يكسرها المرء بتركه الجدال، ونزوعه عنه إلىٰ الصمت، وتفضيله السكون علىٰ الإقدام عليها؛ كان هذا سبيلاً له لتزكيتها، وتنقيتها من شوائب الكبر، وأمذار الفخر، وسفاسف الغرور. يَؤولُ به هذا إلا أن يزن نفسه بميزان عقله، لا بميزان قلبه ونفسه. علىٰ أن هذا أيضاً يجعل صيته بين الناس مُشتهراً بأنه إنما تُحرّكه أفكاره وعدلهُ، لا أطباعه وأهواءه. ولك في حديث عظيمنا ﷺ: ‏‎”أنا زعِيمٌ ببيتٍ في ربضِ الجنةِ لمن ترَكَ المِراءَ وإن كانَ مُحقّاً..“ فانظر كيف يقول بأبي هو وأمي أن الجدال للنفس مهلكةٌ وإن كنت فيه مُحقّاً؛ فهو إضناءٌ للعقل واللسان والدم والقلب ولكل جزءٍ وجارحةٍ في جسد المرء.

ورابعها: أن النفس إنما تكون قاصرةً في فهم المسائل، وعاجزةً علىٰ الاستدلال بالأدلّة في موضعها، فلا تقدر أن تسند رأيها لا بمنطقٍ يجمّله، ولا بأمثلةٍ يُدعّمها. فإن خسر الجدال وهو محقٌّ؛ صار ذكره بين الناس في ذمٍّ وتسفيه. وبقيت عليه المنقصة حتىٰ يُثبت العكس،وهذا العكس قد يطول؛ فلا يكفيه مناظرةٌ أو اثنتين أو ثلاث.. بل ربّما عشرةً. والتحدّث بجهلٍ مذمومٌ في كتاب الله ﷻ: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ﴾، ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلا هُدًى وَلا كِتَابٍ مُّنِيرٍ﴾.
يقول ابن الرومي:

لذوي الجدال إذا غدوا لجدالهم
حججٌ تَضِلَ عن الهدى وتجورُ


وُهُنٌ كآنية الزجاج تَصادمتْ
فهوتْ وكلٌّ كاسِرٌ مكسور


فالقاتل المقتول ثَمَّ لضعفه
وَلوَهْيِه والآسرُ المأسور


وقال عَلمُ الدين ابنُ الهاشميَّة: ‏‎”تبصّرتُ أكثر فأكثر في الجدال بعد حينٍ من الزمن، وقد كنتُ آنفاً أفرغُ طاقتي فيه حدّاً يُشفق خصمي عليّ. حتىٰ بان لي بعدئذٍ أن طرف الجدال يكون بين أمرين: رجلٌ يتحدث بعقله، أو بقلبه. أما الذي بقلبه فذاك لا حاجة لك به، فلا منطقٌ ينفع معه، ولا حقيقة تُبرهن له، إنما هو لفكرته تلك مؤمناً إيمان من لا يزعزه شكٌّ أو شبهةٌ، فخوضك معه جدالاً؛ لا يُرثي إلا أنفاسك، ولا يحرقُ إلا دمك. أما الذي يتحدّث بعقله، فذاك تنظر له؛ إن كان يملك من قواعد المناظرة ما تقدر معها أن تبيّن له ثوابت فكرتك، دون تعاليه صارخاً، ولا مكيلاً السباب، ولا مشخصناً للمسألة= فذاك أهلٌ للجدال والحوار. والأحرىٰ بك، أن لا تسمع لرأيي هذا أو ذاك، وأن تزهد في الجدال. فرُبّ جدالٍ أورَثَ أمرين: إما خصومةٌ وعداوةٌ، وإما رَهقٌ وعي. والعاقلُ من نأىٰ بنفسهِ عن مساءل لا تُغني شيئاً في مقياس الدنيا بأسرها. والأجدىٰ له أن يعمل، لا أن يتحدّث حتىٰ يتبينُ له وجوب خوض الجدال؛ عندئذٍ فقط يُقدم.“

أحـــبَرَها أبو هاشمٍ الأُمّيّ، كوتـــاهيـا، تـركـــيا
صباح السبت، ١٨ مُحرّم ٤٥ه‍، ٥ آب ٢٣م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١