دواخل الكُتّاب، وحوائجِ الكتابة

 

نأىٰ بي الزمن أن وجدتني لا أقدر علىٰ الكتابة متىٰ ما هممتُ، لا تواتيني القدرة عليها، وقد تلمّ بي ما تسمىٰ بـ"حبسة الكاتب". فأجدني أمتنع عن الكتابة، وكلما هممتُ بذلك عكفتُ عنها، وكلما أقدمت امتنعت، وأنا علىٰ هذا في ردحٍ طويلٍ من الزمن. أُمسك القلم، وأَفرُد الورقة، وأُشعل المصباح إن كنت في ليلتي، ولي من النشاط وفرةٌ، ومن الجهد غمرةٌ، وما بي من نعاسٍ ولا كسلٍ ولا فتور= ولكن هي النفس الأمّارة بالسوء، التي تحجر علىٰ صحابها الجدّ والاجتهاد، وتميل به إلىٰ الدّعَة والخمول. وقد بدّت راحة الجسد، علىٰ راحة الروح؛ فراحة الجسد في السكون، وراحة الروح في النشاط.

وقد جعلتني أُقّلب الآراء في عقلي، وألتمس أفكاراً تدفع عني ذاك التوانِ، وتحجب عني دوافع التراخي. حتىٰ هداني ربّي إلىٰ سُبُل المرام، وأرشدني إلىٰ غاية الإرب، ومنتهىٰ الطلب. فعلمتُ أن بادئ ذلك الأمر هو العزم، وأوسطه الحزم، وآخره ينتهي المرء إلىٰ ما أراد المرء.

فأما العزم= أن يرسم المرء لنفسه غاية ما يطلب، فما همّه بالكتابة إن شرع فيها؟ أتقويةٌ لفهمه، وإنماءٌ لنهوه؟ أم مجداً يجمع فيه الشرف والعزّة بين الأنام، أن يقال: هذا الخطيب البليغ المفوّه الرتيب؟ أم إنما الغاية من الكتابة شرح دواخل النفس بحبرٍ سيّال يُغنيه عن كثرة الكلام، والإسهاب فيما لا مقدرة له علىٰ شرحه للعامة، فقد يُختزل قوله في معنىٰ ما أراده إذ خانه لسانه، ونحىٰ به عن قصده الذي بغاه؟ إذاً، فقد تختلف الغايات من الكتابة، فخيرٌ للمرء أن يحفظ غايته، كي يرسم لنفسه خارطة ذلك الشأو.
وأما الحزم= فإنه به قد ذلّل لنفسه الصعاب، بأن عبّد طريقه لتلك الغاية، وأما هذا الطريق الذي عبّده وأسلكه، فهو علىٰ عجينة مخلوطةٍ مدعوجةٍ، قوامها:

١) القراءة فالقراءة ثم الإكثار من القراءة:
ولا أعني هاهنا قراءة أدب الرواية، أو العلوم الحديثة: من الطبيعة ولواحقها، أو علوم النفس والإنسان التي جُلبت جُلّها من الغرب، فهي وإذ تُرجمت إلىٰ لساننا العربي فقد اختلّ نظامها التي كانت عليه¹، فتغيب عنه تلك المساءل والثروة اللغوية التي أراد بها أن يُثري ذهنه، ويشدّ من لسانه، ويعالج حصيلته. إنما قصدتُ الأدب، وأخصّ بالأدب؛ الأدب القديم، كأعمال الجاحظ وابن قتيبة وعبد ربّه، والأصفهاني، والقالي، وابن المقفّع، وسهل بن هارون، وعبد الحميد الكاتب.. وأضرابهم ممن عُرِف عنهم حجّة القرينة، وبلاغة القول، وفصاحة المنطق. يقول عَلمُ الدين ابن الهاشميّة: ‏‎”لا أعرف سر ومكنونِ كتب الأدب التي تجعلك تهيم بها! تأخذ شيئاً من قلبك وروحك، وتعطي لك في عقلك ما لا تقدر عليه نفائس العلوم الأخرىٰ. كفاها بنا تقريظ اللسان، وسبك الكلام، وإضفاء البلاغة والفصاحة علىٰ أسماعنا؛ فلكأنك تشعر بارتباطٍ وثيقٍ بين ماضينا الغابر السحيق، وحاضرنا هٰذا المُعتم“.
ولا يغيب عنه مع كلامهم ذلك وما لهم من الرسائل والكتب والمجلّدات؛ ما لدىٰ الشعراء من معانٍ عديدة، وأسس ركيزة في استهداء الألفاظ، واستخراج المفردات. فقد كان للعرب حضارةّ قوليّة، لا فعلية، فتراهم وهم ما خطوا بالقلم كلمةً، ولا ألّفوا كتاباً في فكرةٍ؛ علىٰ أنّك تجدهم فلاسفةً حُكماء، عرفوا الصواب من غيره، والصحيح من الخطأ، فلربما التزموا به بما شهدوه من الحق، وربما ناخوا عنه كما تنوخ البعير. علىٰ أنّك تستشفي من كلامهم نفسك، وتقوّمها برأيهم وحكمتهم؛ تارةً بمعان النفس، وأخرىٰ بمرادفات الكلام. يقول عباس محمود العقّاد: ‏‎”الأدب هو ترجمان الحياة الصادق؛ فكما يكون الأدب تكون الحياة“.
أما من عصرنا هذا فإن أئمة الأدب فيه هم من علىٰ شاكلة المنفلوطي، الذي أجاد بنظراته وعَبراته، حتىٰ استزل منها العَبرَة إثر العَبرَة، وما تكفّ دمعة أحدنا إلا أن يكفّ هو بنفسه عن الكتابة، يقول فيه الزيّات: ‏‎”إنَّه -أي المنفلوطي- موتلف الخلق، متلائم الذوق، متناسق الفكر، متسق الأسلوب، منسجم الزيّ، لا تلمح في قوله ولا فعله شذوذ العبقرية، وكان صحيح الفهم في بطءٍ، سليم الفكر في جهدٍ، دقيق الحسّ في سكونٍ، هيوب اللسان في تحفُّظٍ“.²
وقال فيه أديب الفقهاء أديبنا علي الطنطاوي: ‏‎” فأما المنفلوطي فهو سلس العبارة، ضحل المعنىٰ، ليس لأفكاره عمقٌ، ولكن ألفاظه طلاوةٌ، كثير الترادف، خطابي الأسلوب، ومقالته (تأبين فولتير) التي صاغ فيها ما ترجم له عن (فيكتور هوغو) هي في رأيي النموذج الكامل للأسلوب الخطابي، الذي كان الغالب على نثر هوغو. ولو أتقن هوغو العربية وكتب بها تأبينه فولتير لما جاء بأعظم ولا أكرم مما كتب المنفلوطي. هذا رأيي أنا. وما أحد ممن كان من أبناء عصرنا إلا متأثر يوماً بالمنفلوطي ونظراته“³
ثم إن لكَ من الأعلام مصطفىٰ صادق الرافعي، الذي وان وجدت في بعض كلامه تكلّفاً زاد عن الحد، ومعانٍ تشدّق فيها، وأقوالٍ تفيهق فيها حتىٰ لربما يسأم المرء حيناً، فإن له علىٰ ذلك رأياً حسناً يأخذ به المرء يعضد به كلامه حتىٰ لتشعر أنّك تستلب من كتبه شذراتٍ من حبر الجاحظ، إذ يقول أديبنا علي الطنطاوي فيه: ‏‎”الأدب العربي أربعة عشر قرناً شيء، وأدب مصطفىٰ صادق الرافعي شيءٌ آخر“. وفي موضعٍ آخر يقول فيه: ‏‎”ثم عرفتُ الرافعي وقد أصدر كتابه ( تحت راية القرآن) -رفع الله به درجاته في الجنة-، فعلمتُ أن الله قد خلق من هو أبلغ من المنفلوطي. إي والله.. ومن عبد الحميد، وابن المقفع، وابن العميد.“ ويتبع كلامه كما قلتُ فيه أن له من الكلام الشيء الحسن الجم، ولكنّه فيما بعد قد طغىٰ أسلوبه حدّ التكلّف: ‏‎”علىٰ أن رأيي في الرافعي قد بدّلته الأيام؛ فلم اعد أستحسنُ من الأساليب؛ إلا مما قارب الطبع وبعُد عن الصنعة“⁴.
ولو أردت أن أجلب لك من الأمثال عدّة لما فرغنا، ولكن حسبك أن أقول، أن: المنفلوطي، والرافعي، والزيّات، وزكي مبارك، والعقّاد، والمازني، وأحمد أمين، وعلي الطنطاوي، وشكيب أرسلان، وسيد قطب، وطه حسين= لهم من حلاوة القول، وطلاوة الكلام، ما يرقّ به لسانك، ويُسيل قلمك، ويشتدّ حبرك. فالزمهم تغنم.

٢) استخدام تلكم المفردات: فإن المرء وإن قرأ ما قرأ، فقد ينسىٰ، ما هذا بضارّه، فلكلٍّ منّا عقله وذهنه وأسلوبه في الحفظ والتذكّر، فإن حفظ يوماً شيئاً فلربما نسيه غداً، وإن تذكّره غداً فسينساه بعده غده ذاك. فأجدىٰ ما يصنع أن يُمرّ لسانه بتلكم الكلمات، ويستعملها كلما سنحت له الفرصة، وواتته اللحظة. فيكتبها تارةً بجملةٍ؛ ليست بالضرورة أن تأتِ بمعنىًٰ جديدٍ مختلفٍ، يكفيك استعمالها مرةً واثنتين وثلاثاً وعشرةً وعشرون. المهم أن يُكثر من استعماله ما لقي إلىٰ ذلك سبيلاً. وكذا من هذا أن يتلفّظ بها في كل حادثةٍ ألمّت به، أو مسألةٍ أصابها؛ ذلك أدعىٰ أن يكون حيّاً معها، وعائشةً معه.

٣) أن تعوّد يدك علىٰ الكتابة: فإنّك متىٰ ما هجرت الكتابة، كسلت يدك، وضعُفت، فخارت قواها، وأعجزتك عن المضي قدماً في إكمال صفحةٍ واحدةٍ علىٰ الأقل، وأعوزتك إلىٰ أخذ قسطٍ من الراحة كل خمس دقائق، فكأنّ تلك الراحة تذهب ببعض الأفكار التي في ذهنك، والتي ارتصفت متجمّعة خلف بعضها، تنتظر المهرب علىٰ عَرَصَات صفَحاتك. فعوّد يدك علىٰ الكتابة، حتىٰ لو كنتَ رامياً بالكتابة خطّ سيرة حياتك، أو يوميّاتك، أو نسخ بعض الكلام إلىٰ الورق، فذاك أدعىٰ أن تدوم أصابع يدك علىٰ ما تحبّ. إن المساءل إن تطول تبرد، فتفتر، فتنقضي، فيكون استرجاعها عسيراً مريراً.

٤) ورابع الأمر وآخره -كما أرىٰ-= أن تجعل لنفسك تحدّياً: فقد رأيتني منذ عزمتُ أن أكتب في كل يومٍ مقالةً، أو خاطرةً، أو قصّة قصيرةً، أو مراجعةً لكتابٍ أو روايةٍ، وجدتني بعدها قد تمرّست في الكتابة، وما عادت عسيرةً عليّ، ولا بتُّ الآن بعد انقضاء واحدٍ وثلاثون يوماً من بدئي بهذا التحدّي، فكتبت ما يقرب من: ٣٢ مقالاً، وهذه التي أكتب هي الأخيرة، فتصير: ٣٣.
وجدتني الآن وقد استهسلت من دون ذلك من الكتابة اليوميّة، وفي سرد أفكاري ومعاني التي أردتُ شرحها.
فإن لزمتَ ما قلتُ فقد ظفرت.. فاللهَ الله.. اللهَ الله في الكتابة فإنها اختبار القارئ، وعلامة الفاهم.

أحـــبَرَهـــا أبو هاشمٍ الأُمّي فـــــي كوتاهيا، تركيا
ضحىٰ الخميس ١٥ صفر ٤٥ه‍ الموافق ٣١ آب ٢٣م

ــــــــــــــــــــــــ
¹: هذا إن أحسن الظن طبعاً؛ وإلا فإن لغات الأرض قاطبةً تعجز عن بيان اللسان العربي، وليست معه إلا كرهان الفرس إلىٰ السلحفاة؛ أعلىٰ حرزها أوطأ أقدام الخيل.
²: كتاب تاريخ الأدب العربي لأحمد حسن الزيّات.
³: ذكريات محمد علي الطنطاوي، المجلد ٣، صفحة ٢٣٥.
⁴: من حديث النفس لأديبنا محمد علي الطنطاوي، صفحة 204.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١