دوري أبطال الكذب

 

قد استحلّ الناس الكذب، وأصابوا منه مغنماً، وصارت لهم عادة بها، لا تفتأُ عنهم، ولا يفترون عنها. وما أدري كيف هَمّ أقوامٌ باقتراف تلك المثلبة التي ليس لها من خصال المسلم الحق نصيب؛ وهم علىٰ ذلك تُبصرُهم قد احترفوه، ودخلوه به معترك دوري الأبطال، حتىٰ صاروا فيه إلىٰ ربع النهائي فنصف النهائي، وما أراهم إلا أنّهم يكونون للرافضة خصوماً في نهائي البطولة، ومن يدري فلربما كان الفوز من نصيبهم.

وما أدري رجلاً اقترف الكذب واستحلّه، إلا وهانت عليه ما سواها من الذنوب والمعاصي، فإن الكذب لا يُعمل عند المرء إلا أن يواري علىٰ شيءٍ لا يُحبّذ للناس معرفته، ولا يرىٰ أنه خيرٌ فيكون منعه عن الناس ما بأس فيه= إنما ما استحلّه إلا وقد وجد أن ما صنعه في شرٌّ محضٌ، أو شبهةٌ يدفعها. فمن تمرّس بالكذب؛ لا يصرفه شيءٌ عن الزنىٰ، ولا السرقة، ولا القتل، ولا أيّاً مما يُغضب ربي ﷻ. أتراه وقد سرق، فهل يضرّه بعدئذٍ أن يكذب، أرأيتَ لو قتل، أيسوؤه لاحقاً الكذب، أترىٰ لو زنىٰ، فهل عليه من بعد ذلك أن يكذب من بأس؟
لا، فقد ظهر للناس ما هو أشد، وبان عنده أن الكذب صار أهون الذنوب، فلا حرج عنده أن يستعمل تلكم المثلبة لتحقيق مآربه.

أتعلم من أشدّ الناس كذباً؟ الذي جعل يُفضي إلىٰ الناس قائلاً: أنا لا أكذب.
وقد يقول قائل: كفاك يا مُحمّد أن عمّمت ولم تخصّص، فلا تأتي لنا لتحدّثنا، ثم تشتم جماعةً كبرىٰ من الناس لأنّك جرّبت منهم بعضهم فكان منهم ما رأيت.. أنصف يرحمك الله.
وأقول: فإنكم وإن قلتم ما قلتم، فاجعلوا مفردة التعميم واضحة العيان. لا يعني أنّي جعلت قاعدةً عامةً هي الأصل أن ينتفي معها الشاذّ منها. أتراني لو قلت لكم إن نصف اللبنانيين أو الأتراك أو.. أو.. عنصريين؛ أينتفي مع هذا أن النصف الآخر لهم من الإنسانية ما لهم؟ كذا الأمر سيانٌ مع ما ذكرت.

ما رأيتُ أحداً يرحمكم الله يقول لي: أنا لا أكذب.. إلا ودار الزمن فرأيته يكذب. وكأن الله يوقع كل امرئ بشباك غروره. فمن غرّته نفسه بالصدق؛ وقع في الكذب، ومن غرّته في الأمانة؛ سقط في الخيانة، ومن غرّته في الشجاعة؛ سقط في الجبن، ومن غرّته في الكرم؛ سقط في البخل.. وعلىٰ هذا سِر.

كلما جعلتني أقرأ الحديث الشريف الذي أُثِر عن عظيمنا ﷺ، إذ روىٰ صفوان بن سُليم -رضي الله عنه-: " أن النبي ﷺ سُئل: أيكون المؤمن جباناً؟ قال: ‏‎”نعم“، ثم سُئل: أيكون المؤمن بخيلاً؟ قال: ‏‎”نعم“، ثم سُئل: أيكون المؤمن كذاباً؟ قال: ‏‎”لا“¹.
فلا يتحرىٰ المرء الكذب إلا وقد خرج من الإيمان، فلا يجتمع صدق الوحي الإلهي، مع الذات النبوية، وتلك الشريعة التي جاءت صدقاً بصدقٍ، كابراً عن كابرٍ، لا يجاز الرجل بحديثٍ إلا أن يكون قد شُهِد له بالصدق بين الناس.
وإن من اقترب من الكذب شعرةً، فقد أتىٰ بخصلةٍ من خصال المنافقين، واقتفىٰ بذلك أثرهم، أن أظهروا ما لا يبطنوا، وجعلوا لألسنتهم مهرباً من الحق، ومواربةً عن العدل. وفي هذا مما رواه أبو هريرة -رضي الله عنه- عن النبي ﷺ أنّه قال: ‏‎”آيةُ المُنافق ثلاثٌ: إذا حدّث كذَبَ، وإذا وعد أخلفَ، وإذا ائْتُمنَ خان“². وكل تلكم الصفات أصلها واحد، وهن له فروع. فإن أصلها جميعاً هو النفاق، وهو تعبيرٌ واضحٌ عن الكذب. فمن حدّث بحديثٍ وهو كاذب طاله من النفاق درجةً، ولو كان إنما أراد فيه المزح والفكاهة. ومن أخذ يعد الناس ويعاهدهم المواثيق، ويحلف لهم بالأيمان ثم نقضها وأخلف موعودها؛ فقد كذب علىٰ أصحابه أن أوهمهم بحفظ الأيمان. ومن جُعلت له أمانةً أن يحفظها، ثم استعملها بغير إذن صاحبها؛ فقد كذب علىٰ صحبه أن أوهمهم بأمانته، وأنّه ليس بخوّان.

وإن كثرة تعرض المرء للكذب تعوّده علىٰ عادته تلك، فلا ينفكّ عنها، وإن أراد بعدئذٍ أن يصرف نفسها عنه ما قدر، ولربما أعوجه لسانه، وأحوجته نفسه إلىٰ مدارستها تارّةً أخرىٰ. فعن ابنِ مسعودٍ -رضي الله عنه-، قال: قالَ رسُولُ الله ﷺ: ‏‎”إن الصدقَ يهدي إلىٰ البِرّ وإن البرِّ يهدي إلىٰ الجنةِ، وإن الرجُل ليصدُقُ حتىٰ يُكتبَ عند الله صدّيقًا، وإن الكذِبَ يهدي إلىٰ الفُجُورِ وإن الفجُور يهدي إلىٰ النارِ، وإن الرجل ليكذب حتىٰ يُكتبَ عند الله كذَّاباً“³.

أحبَــــرَها أبو هاشمٍ مُحمّد الأُمّي في كوتاهيا، تركيا
في مغيب الأربعاء ٦ صفر ٤٥ه‍ الموافق ٢٢ آب ٢٣م
ــــــــــــــــــــــــ
¹: موطّأ الإمام مالك بن أنس ٢/٩٩٩.
²: صحيح البخاري ٣٣.
³: متّفقٌ عليه.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

صخرةٌ فُلِقت: في أدبيات الاعتيادِ والتّناسي والأُلفةِ والتجلّد