وهم الثقافة بالسين

 

أمسك كتابه، وأشعل سيجاره، وشغّل أنغاماً لفيروز أو لأم كلثوم أو لعبد الحليم، وراح يقرأ كتاباً يتحدّث عن نيتشه وأثره علىٰ النازيّة الحديثة في فكرها العنصري القائم علىٰ تنزيه بقايا العرق الآري وورثائه الشرعيين، بعد أن أغلق كتاباً يسرد التفارق بين زيوس كبير أساطير الرومان وأودين قبيله عند الإسكندنافيين. أو عن مغامرات جلجامش في دحره لخصوم الآلهة البابلية والسومرية. أو تراه أبصر كتاباً قبلها يؤسس لمفهوم الجدلية وتباين الآراء في الوجودية المحضة، وعلاقتها بالفردانية التي آل إليها البشر في عالمنا هذا. أو عن تنافح النيوليبرالية مع الليبرالية القديمة، وتلافحها في سبيل النهضوية التي ارتأتها الدول وأخصّ بالذكر الولايات المتحدة الأمريكية ومن تبعها في إجماع واشنطن. أو روايةً لفيودر دوستويفسكي يُؤصّل لمفهوم الكآبة وفقدان الأمل من تغيّر المجتمع ..إلخ

وشيئاً من تلك الثقافة المزعومة. أو كما أحب أن أسميها السّقافة، وأقصد بالسقافة معنيَين، الأول؛ كسر الغلو القائم عند معاشر من يُسمّون بالمثقفين علىٰ تعظيم ذاك الطقس القرائي، وذاك الجو الذي يبعث علىٰ إعظامه، لا لشيءٍ إلا لشكل المظهر فحسب؛ إلا أنّه كان ينقصه إبدال ألوان الشاشة باللون الأبيض والأسود، ورسائل عليها طوابع العقد السادس من القرن الماضي، أو أقلّها أن تكون الإضاءة مائلةً للون البني، مع شيءٍ من عتيق الغبار الذي ملأ صِحاف المجلّات والجرائد، وطغىٰ علىٰ ملمس صوان الكتب= هذا الشعور بالطغيان المعرفي حريٌّ بكل واحدٍ منها نقضه من عراه، ونقبه من جذوره، وثقبه من أصله.

أما ثانيها (وهي أصل موضوعنا)؛ ذاك أن أبدلتُ ثاء الثقافة بالسين، فكانت: السّقافة.
وهي من السقف، أي ارتطام عقل المرء بسقفٍ، وعلىٰ دنوّ ذاك السقف، إلا أن صاحبنا قد حسب نفسه وصل إلىٰ ما دون السدرة، فرأىٰ نفسه بلغ من العلم مبلغاً، وانتهىٰ إلىٰ سنام المعارف فحازها واصلاً كما ذاك الصوفي الذي ادعىٰ علماً إلٰهياً أغناه عن التعبّد بالعبادات، والازدياد رفعةً ودرجةً وثواباً بها.
فكان هذا السقف الذي أوصله إلىٰ ذاك الغرور؛ عليه من الضرر ما علىٰ الحمار من حمل الكتب وهو لا يدري ما يحمله، وفيما يحمله، وإلىٰ أين يحمله.
فإني لأسأل، وأنا بهذا مُلِحٌ بالإجابة، باحثاً عنه بحق: فيما يقرأ المرء عن أساطير الحضارات القديمة؟ وأيّ شيءٍ إن قرأ عنها صار مُثقّفاً؟
دعنا نقل إن الإجابة عن السؤال الأول بسيطةٌ وليست صعيبة الفهم: ذاك أنما المرء يقرأ عن فضول العلم ذاك بحثاّ عن شيءٍ يجهله؛ فيحبّ أن يغذي استقصاءه ذاك ولهفته إلىٰ الجديد بشيءٍ غابَ عنه؛ فوجده. وأن القراءة فيه تجعل المرء مُلمّاً بما حوله أكثر فأكثر، وبما قبله من الأزمان، فيعرف حاضر أرضه بماضيها، ويستشرف به مستقبلها.
ولكن مازلت أسأل: لمَ يُحسب من جمع هذه المعلومات والمعارف عن حقبةٍ تاريخيّةٍ مُعيّنة علىٰ زمرة المُثقّفين؟

دعنا نؤصل لفكرة الثقافة من ومسلك اللغة، فالثقافة لغةً: من تثقيف الرمح، أي صقله وصلده علىٰ نحوٍ يحتد فيُؤتىٰ أُكُله. فهو بذلك وإن يحدّ بها رمحه، فمثله انطبق علىٰ العقل؛ فحدّه وصقله، وحذقه، فصار الحذق. يقال: ثقَفَ الشيء ثقفاً وثُقوفةً: أي حذقه. ورجل ثقِفٌ، وثقَفٌ، وثُقُف: أي حاذِقٌ فهِمٌ. وقال ابن السكيت في ألفاظه: رجل ثقِفٌ لقِفٌ؛ إذا كان ضابطاً لما يحويه قائماً به. ويقال: ثقْفُ الشيء؛ وهو سرعة التعلم. وثقفتُه: إذا ظفرت به. قال ربي ﷻ: ﴿فإما تثقفنهم في الحرب﴾؛ أي إذا ظفرتَ بهم.

فبعد أن علمنا معنىٰ الثقافة لغةً، أفلا أنبأتني عن اصطلاحها في استيعاب تاريخ البشر ما قبل الميلاد، وتلكم الحضارات إن تعرف مؤسسها، وباني نهضتها، وآخر عنقودها؛ فما يُغني عقلك معرفتها، وكيف يقوّم حسّك، ويصلت نظرك، ويُثري رأيك، ويُرجح ذهنك؟ أمعرفة مولد حمورابي أجدىٰ من مناقشة قوانينه بذاته، أم اقتفاء عمرِ خوفو عند موته أنفع من استجداء أساليب بناء الأهرام؟ وعلىٰ هذا سِر وتقدّم.. ترىٰ من رؤوس المُسقّفة قد ارتطمت بسقف الغرور، فحسبوه منتهىٰ الطلب، وغاثة الإرب، فَعَلَوا به علىٰ ربوع الناس، ورأوا أنفسهم أحكم أهل الأرض، ومن زمرة خاصّة الخاصّة، فظنوا أنفسهم من الفلاسفة الذين اختارهم أفلاطون في مدينته يحكمونها. ولو أمعنوا النظر قليلاً لربما رصفوا أنفسهم بشيءٍ الحق، أنهم إنما هم: موسوعيّون. قد صارت أذهانهم كالموسوعات التي تذهب إلىٰ مكتبة فتجلبها لتلقي نظرةً خاطفةً علىٰ معلومة= حِفظُها أو نسيانُها لا يُذهب من القدر شيئاً، ولا يُنقص من العلم ذرّةً. فيستجدي تذكُّرَها ليبني عليها رأياً لربما قام به أو بغيره، أي زيادته أو نقصه واحدٌ.

ركّز معي يحفظك الله، أنا لا أتحدّث هاهنا عمن يصنع ما صنع من الطقوس الغابرة الرامدة (الكلاسيكية) طلباً للشهرة والرياسة، وتصدّر المجالس.. لا، فذاك رجلٌ سقفُه ما خطىٰ عن الأرض شبراً ناهيك عن أن يعلىٰ قليلاً إلىٰ ما فوق السحاب.
إنما قصدتُ من حسب نفسه بعدما صنع أنّه بحقٍّ وصدقٍ علىٰ شيءٍ من الثقافة والمعرفة والدراية. وأنّ له من الحصافة والرصانة ما تخوّله إبداء الرأي، ومعاملة ذاك الرأي علىٰ أنّه أوجّ الآراء، وأضوءها، وأقربها إلىٰ معنىٰ الحقيقة الصرفة، والنظرية المثبتة= فذاك بلغ من الجهل مبلغاً أن حسب جهله علماً. زيّن له شيطانه أمره، فاغترّ به حتىٰ ما عاد يُبصر جهله ذاك.

فهل حسب نفسه إن جلس في بيته، ثم ذهب إلىٰ صالونٍ اجتمع فيه من هم علىٰ شاكلته من أهل السّقافة، فشرعوا يتحدّثون بأحاديثٍ لا يُغني علمها، ولا يضرّ جهلها، ولا ينفع العامة نشرها، ولا يضرّهم كتمها. ثم خرجوا ولكلّ واحدٍ فيهم رأيٌّ في قضايا الأمُّة يخالف وجه الحق، ويُناقض ما هم فيه من الدراية المزعومة، فصاروا وكأنّهم في برج عاجٍ، يمنّون علىٰ الناس بمقالاتٍ ولقاءاتٍ علىٰ الروائي (التلفزيونات)، فباتوا أضحوكةً للناس، وبان أثر جهلهم علىٰ فلتات ألسنتهم، ونظرات أعينهم، وسكنات أفعالهم. فلو أنّهم بقوا في دواوينهم تلك، وصالوناتهم الأدبية الثقافية؛ لكان ذاك أنجع لنفسهم، وأحفظ لهالتهم التي أحاطوها بذواتهم.

وما أعجبٌ من رجلٍ قرأَ وتعلّم، وخبرَ وجرّب، واعتركته الحياة واعتركها، وتمرّستها وتمرّسها، فنطق بما رآه صواباً. وتفهّم مع ذلك تباين آراء الناس، وأنّ لكلٍّ فهمه وعقله، وأنّ الاختلاف سنّة الله في أرضه؛ ولكنني أعجبُ كلّ العجب ممن اغترّ بنفسه علماً ومعرفةً وحنكةً وبصيرةً، فاستفتح بها علىٰ الناس؛ فخاب واهويَ إلىٰ دركات النسيان. ‏‎”فلا تخف من العالم إن جهِلَ، ولا من الجاهل إن علِمَ؛ بل من الجاهل الذي حسب نفسه علىٰ علمٍ.“

وأختم بما رُوي عن جدي جعفر الصادق بن مُحمد الباقر بن علي زين العابدين، أنّه قال: الرجال أربعة: رجلٌ يعلم، ويعلم أنه يعلم؛ فذاك عالمٌ فتعلّموا منه. ورجلٌ يعلم، ولا يعلم أنه يعلم؛ فذاك نائمٌ فنبّهوه. ورجلٌ لا يعلم؛ فذاك جاهلٌ فعلّموه. ورجلٌ لا يعلم، ولا يعلم أنه لا يعلم؛ فذاك أحمقٌ فاجتَنِبوه.

أحبَرَها أبو هاشمٍ مُحمّد الأُمّي في كوتاهيا، تركيا
ضحــىٰ الثلاثاء ١٣ صفر ٤٥ه‍ الموافق ٢٩ آب ٢٣م 

تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١