ازدراء العقول
”إن الإنسان عدوّ ما يجهل“ وإن من الجهلِ تحقير الأفكار، وتسفيه أصحابها لمجرد غياب بصيرة المرء عنها، واختفاء النظرة العقلانية منها، فيهُمّ الرجل باستخفاف فكرة قبيله تلك، ووصمها بأقذع العبارات، وأقذر الأوصاف؛ وما ذاك إلا أنّه نظر إلىٰ الرأي من صورته هو، صارفاً النظر عن تباين الناس في العقول والمذاهب والأهواء، وأن الله ﷻ جَبَلَ الناس علىٰ الاختلاف، وطبعهم علىٰ التضاد، وما تضادوا في شيء واختلفوا فيه إلا كان رحمةً من الله، فإن من سُنن الله وحكمته في خلقه تدافع الآراء. ولو اتّفق الناس في الرأي؛ لهلكوا. إذ وإن صدف أنهم تعاضدوا في رأيهم علىٰ حقٍّ -كائن ما كائن هذا الحق- فلربما كانوا ذات مرة علىٰ خطأٍ، فيبور اتحادهم من حيث أحسنوا به، ويذهب سعيهم في الإصلاح= فكان ”الاختلاف رحمةً“ كما ورد في الأثر.
وأعظم العلم أن يُقسط المرء مع من دونه في القول واللسان، فلا يستهزئ بغيره لمجرد تسفسف قوله عن الحق. وأن يكُنّ له من التواضع الجمّ كما صنع أحد التابعين الذي قال: والله إني لأعلم المسألة الذي حدّثني فيها جليسي قبل ذاك بزمن، ولكن لا أحب إخباره بها بقطع كلامه.
هذا من التوقير، وتجيل الناس بتبجيل عقولهم وأفئدتهم. وعرفان حقّ إبداء الرأي للناس جميعاً علىٰ سواء. ودون التعرض لهم بما يذهب من هيبة تلكم الأمانة التي حُمّلها الإنسان. فإن له رأيٌّ دون المنطق بكثير، فخيرُ ما يجابه به ليس السبّ والشتم، إن إدلاء البراهين، وإرساء الأدلّة، ومقارعة الحُجّة بالحُجّة.
وإن العالِمَ لا يبلغ درجة العلم إلا وقد كان له من سعة العقل، ونقاهة البال، وتصابر الحكمة أن أنصف الناس، ووضعهم علىٰ درجاتٍ ومراتبٍ، فكان مع الطفل طفلاً، ومع الشاب شاباً، ومع الشيخ شيخاً، لا يحدث جليسه إلا تبعاً لمستوىٰ عقله، ولا يجادله إلا وقد علم حدّه من لعلم، فيخاطبه لقدر سنّه وقدر علمه.
وإن المرء إن يزد علمه، قدّر الأمور بمقاديرها، ووزنها بأوزان التعدّد. ولكَمْ راق لي قول الإمام محمد بن إدريس الشافعي -رضي الله عنه-: ”من زاد علمه قلّ إنكاره“. فما يزيد علمه إلا أنّه قد اختبر معادن الناس، وقاس صفاء أذهانهم، فعرَف أن لكلّ رجلٍ مشربه، وكل مشربٍ له طعم فيه من الحقّ شيئاً، لا يعدو ذاك الحقّ علىٰ غيره. وأن لكل عقل صفةً وزعها الله ﷻ فيه لتكون آيةً وصورةً مثلىٰ.
وأذكر حينما كنتُ غِرّاً¹، وقد جعلتُني أسفّه مِن كُلّ رأيٍ أُدركه، وأحقّر من قول صاحبه، وأصغّر من مقامه، وأوضّع من كلامه؛ وما ذاك إلا أنّه خالفني -أو دعني لا أحمّل نفسي فوق طاقتها فأقول- أو خالف أهل العلم ممن أن تبعٌ لرأيهم في عقل الأمور وتصويبها. فكان ذاك الجهد الذي أبذله في الإخساس لا يأتي إلا ومعه ذاك القدر من الجدال والنقاش، فيُذهب بنفَسي، ويُنشّف دمي، ويُرهق ذهني فيما لا طائل منه. وما علمتُ فيمن علمتُ من يدخل جدالاً وهو يبحث الحق، لا النصر لذاته. فما الطائل من الجدال عندئذٍ؟ وما جدواه وقد علمت غايات الناس وأمانيّهم؟
كما أختم كما هو دأبي بصورةٍ لعظيمنا ﷺ، إذا أقبل مرّةً أعربيٌّ علىٰ مسجد رسول الله، والصحابة جلوس حوله ﷺ، فقام الأعرابي فصلىٰ ركعيتن، ثم تذكّر نعمة عظيمنا ﷺ، فرفع يديه يدعوا ربّه: "اللهم ارحمني ومحمداً، ولا ترحم معنا أحداً". فاستنكر ممن حضر من الصحابة والناس، ونظروا رسول الله ﷺ يرون ما يصنع، فما صنع شيئاً إلا أنه علم ما في الأعراب من غلظة الحياة، وجفاء الطبع، وقسوة العيش، وأنّهم طبعوا علىٰ شيءٍ من الجهل، فقال له: ”ضيّقت واسعاً“!
ثم انصرف بعدها وقد علم الأعرابي خطأه، فأراد قضاء حاجته، فذهب إلىٰ حائط المسجد، فبال عليه، فثار عليه الناس يمنعونه، وقد همّوا أن يبطشوا به، وأن يردعوه عما هو فيه، فانتهرهم عظيمنا ﷺ، وقال (كما رواه أنس بن مالك -رضي الله عنه-): ”دعوه وأهريقوا علىٰ بوله ذَنوباً من ماءٍ -أو سجلاً من ماءٍ-؛ فإنما بُعثتم مُيسّرين، ولم تُبعثوا مُعسّرين.“². ثم التفت إلىٰ الأعرابي يسأله: ”ألست بمسلمٍ؟“ فقال له: بلى! قال: ”فما حملك على أن بلت في المسجد ؟“ ، فقال له صادقا: "والذي بعثك بالحقّ، ما ظننتُ إلا أنه صعيدٌ من الصعدات؛ فبلتُ فيه.³ فقال عليه الصلاة والسلام: ”إن هذه المساجد لا تصلح لشيءٍ من هذا البول والقذر؛ إنما هي لذكر الله، والصلاة، وقراءة القرآن“.⁴
أحـبَرَها أبو هاشمٍ مُحمّد الأُمّي فـــي كوتاهيا، تركيا
بُعيد مغيب السبت ١٠ صفر ٤٥ه الموافق ٢٦ آب ٢٣م
ــــــــــــــــــــــــ
¹: وما أحسبني رشدتُ.
²: صحيح الترمذي.
³: رواه أبي يعلىٰ.
⁴: متّفقٌ عليه.
تعليقات
إرسال تعليق