جاهلٌ غرّهُ جهلُه




ما أضرّ الناسِ الجاهلُ الذي يعلمُ جهله، ولا العالم الذي غرّه علمه، ولا المرء الذي خو علىٰ الأعراف بينهما، إنما أشدّ الناس ضرراً، وأعتاهم أثراً؛ ذاك الجاهل الذي حسب نفسه أعلم الناس.
وأشدّ منه من غرّه جهله حتىٰ صار مستمسكاً برأيه، معرضاً عن مشورة غيره، غير آبهٍ لنصحهِم، ولا مُعطياً لفكرهِم نظراً، ولا لقولهِم سمعاً. وتراه فوق ذلك ينافح عن جهله ذاك الذي حسبه علماً بل ويُسّفه من قول ناصحهِ، ويصغّر من كلامهِ، ويستخّف بأحاديثهِ. ويجالدُ عن ما يقول وكأنّه حقيقةٌ مثبتةٌ، وآيةً منزلةٌ. فكأنّه قولٌ لا يشوبه شكٌّ، ولا يحوبه ظنّ، ومن اشتبه به؛ فقد اقترف إثماً مبيناً، وأتىٰ بأمر جللٍ، وفعل زللٍ.

وإنما المرء من علِم أن فوق كل ذي علمٍ عليم، وكل ذي حكم حكيم، ومن لم يسمع لغيره؛ فقد أتىٰ بقاصمة ظهره، ألم تسمع قول الله ﷻ علىٰ لسان فرعون: ﴿ما أُريكُم إلا ما أرىٰ وما أهديكُم إلا سبيل الرشاد﴾. فكيف شاءت أقدار ربي أن يكون رأيه ذاك وبالاً عليه، بل وبالاً علىٰ آله كلهم: ﴿أدخلوا آل فرعونَ أشدّ العذاب﴾؛ وما ذاك إلا أنهم رضوا بالجاهل أن يُسمعهم جهله، فأمّروه عليهم، وسمعوا له وأطاعوا= فعقوبوا بما جنوه علىٰ أنفسهم.

وعلىٰ جانبٍ آخر، ترىٰ تلكم المرأة التي ملّكها قومها مملكتهم، ورضوا بحكمِها، وخضعوا لسلطانِها، فنجوا لما كان لها من الرأي السديد، والقول الرصين، والحكم الحصيف، فقالت حين وصلها كتاب سليمان -عليه السلام-: ﴿يا أيها الملؤ أَفتوني في أَمري ما كُنتُ قاطعةً أمراً حتىٰ تشهدون﴾، فكان منهم أن تركوها وما أرادت، فنجت بنفسها وبهم إذ ألهمها الله حسن الرأي بالمشورة أولاً، وأُتبعت بالثانية أن رضخت لحُكم الله لمّا رأت من حال أمرها مع سليمان.
فلِمَن دام الملك؟ أللجاهل الذي ظن نفسه علىٰ علمٍ؟ أم للعالم الذي تواضع واستشار أهل العلم؟ فما الرأي أن يستبد الكل برأيه، بل إن تواضع الناس علىٰ أن يدلي كلٌّ برأيه كان لهم تحمّل ذاك الرأي= فتشاركوا بالمغنم والمغرم علىٰ حدٍّ سواء، وذاك خيرٌ من أن يعصبوها بواحدٍ فيكون لهم مهلكة.

وإنك لتعلم أمر حنين، حين تركوا أهل الطائف أمرهم لمالك بن عوف النصري، وهو شابٌ غريرٌ، وفتىٰ جهولٌ، وولّوه علىٰ أنفسهم وديارهم وأموالهم. فلمّا خرج بهم إلىٰ حرب رسول الله ﷺ بعد أن جمع قبائل هوازن وثقيف وسعد بن بكر ومضر وجشم وبعض بني هلال، وأمرهم بأن يحملوا أولادهم ونساءهم ومتاعهم معهم إلىٰ أرض المعركة؛ ليكون لهم ذاك ردءاً أن يُهزموا، وحماسةً ألا ينقلبوا علىٰ أدبارِهِم. فنهاهم دريد بن الصمّة عن ذلك، وهو رجلٌ شاخ في ميادين القتال، وبلغ من العمر المائة أو ما يزيد، وتمرّس في الحكم والسيادة، فحذّرهم من عاقبة فعلهم؛ فما أطاعوه، وما ألقوا له بالاً، بل وغرّهم حديث السن، ضيّق الرأي، عن كبيرهم ومستودع شورتهم.
فما صنعوا؟ بل ما صُنِع بهم؟ انقلبوا إلىٰ شرّ منقلب، ولقوا من الهزيمة النكراء ما سُبي من ذراريهم وأموالهم؛ حتىٰ عادوا بعدها خائبين مدحورين يستغيثون بالنبي ﷺ عند المسلمين.

أفرأيت ما صنع رأي الجاهل الذي غرّه جهله، فحسب نفسه ذا علمٍ وحكمٍ؟ بل وأكثر من ذلك، أرأيت ما صنع رأيُ من حسب نفسه أهل للسياسة، وباباً للدراية، فأودىٰ بقومه المهالك والمدارك، وأباحه للغريب يغزوها ويموحها، حتىٰ أهلك الحرث والنسل. أعني صدام بن حسين التكريتي، الذي حسب نفسه علىٰ علمٍ، وظن نفسه في موضع القوّة، طغىٰ وتجبّر، فأمر جيشه باقتحام جاره، فاندحر، وحُوصِر قومه عشر سنين، ثم غزاها أهل الصليب بعد أن فرغت من رجالها، وضعفَ جُندها، فاستبيحت حتىٰ يومنا هذا.
وكذا منه رجالٌ من التاريخ، كنابليون بونابارت حين دخل روسيا، وأدولف هتلر حين كرّر ذات الخطة. وقبلهم قلنسوة الغوري وما فعل مع سليم يافوز. وقبله كعب بن أسد حين أودىٰ بقومه بني قريظة لمّا تحالف مع الأحزاب علىٰ رسول الله ﷺ؛ المهالك.. وغيره الكثير من الصور والنماذج التي ما خلّدها التاريخ إلا ليعتبر من يعتبر، ويمتثل من يمتثل.
فهل من مجيب؟

أوما نعلم قصّة موسىٰ -عليه السلام-، لمّا سأله رجلٌ من قومه عن أعلم أهل الأرض، فأشار إلىٰ نفسه، فعاتبه الله علىٰ ذلك وأمره أن يذهب إلىٰ من هو أعلم منه. فوجد نفسه لم يستطع معه صبراً. وموسىٰ -عليه السلام- هو هو من العلم؛ ولكن رأىٰ من هو أعلم منه. وعلىٰ هذا فهناك أيضاً من هو أعلم من العبد الصالح -الذي تقول عنه العامة: الخضر-. كما قال ربنا ﷻ: ﴿وفوق كل ذي علمٍ عليم﴾.
نختم بقول عظيمنا ﷺ: ‏‎”إن الله لا يقبضُ العلم انتزاعاً ينتزعه من الناس؛ ولكن يقبضُ العلم بقبضِ العلماء، حتىٰ إذا لم يُترك عالماً؛ اتخذ الناس رؤوساً جُهّالاً، فسُئِلوا؛ فأفتوا بغير علمٍ؛ فضلّوا وأضلّوا.“

أحبَــرَها أبو هاشمٍ الأُمّي، فــــي كوتاهيا، تركيا
صباح الجمعة، ٢ صفر ٤٥ه‍ الموافق ١٨ آب ٢٣م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١