قصّة قصيرة: صاحب العمل الذي يخاف الله
- ألم تتأخر عليّ في إعطائي أُجرتي يا معلم؟
- ماذا تقصد؟ ما زلنا في الثامن من شهر آب هذا.
- قصدتُ أجرة الشهر الماضي شهر تموز، وليس الشهر الحالي.
- حسبتني أعطيتكها.
- لا، لم تفعل. لقد قلتَ لي أن أنتظر قليلاً.
ينادي ‹صُهيب› وهو صاحب العمل، يملك سوقاً شعبيّاً حجمه يزيد عن ملعب كرة قدمٍ بنصف حجمه، وهو مُرتّبٌ مُزيّنٌ علىٰ أحسن شكلٍ، وعلىٰ أبهىٰ نظامٍ؛ ينادي علىٰ محاسب السوق، ويسأله عن نيل موظّفه ‹جاسراً› لمرتّبه لشهر تموز.
- لا، لم نعطه مرتّبه يا معلم.
- أيوا.. إذن أن سأرتّب معه الأمر، أعطني الأوراق وانصرف لعملك.
- سلام عليكم.
- إذاً أخبرني يا ‹جاسر›، كم نحسب لك من المال؟
- راتبي الذي اتفقنا عليه ٢٥٠ ديناراً.
- ألم يكن ٢٠٠ ديناراً؟
- لا، لقد كان ٢٥٠، وبإمكانك أن تُطالع كشف الرواتب للشهور الماضية، ستجد أنها جميعها ٢٥٠، تماماً كما كان يحاسبني المحاسب.
- انتظر لأرىٰ.. نعم شهر حزيران ٢٢٠..
- هذا لأنني استلفت حينها ٣٠ ديناراً.
- نعم.. شهر أيّار ١٠٥
- هذا لأنني كنتُ أداوم نصف يومٍ بسبب تلمدرسة صباحاً. وأيضاً غِبتُ ٥ أيام بسبب أحوال الهُويّة والمعاملات الحكومية الطارئة، وأيضاً بسبب عيد الفطر.
- نعم.. نعم.. وشهر نيسان ٢٥٠
- هنا لم أغب ولا يوم ولله الحمد. (قالها وعليه علامات الفرح، ولا يدري علّة ذلك)
- الآن اتضحت المسألة، راتبك لدينا ٢٥٠ ديناراً.
- نعم صحيح.
- ولكن هناك بعض ما سيُخصم منه.
- بالطبع هذا حقّكم.
- نعم.. هنا منصوصٌ علىٰ أنّك استلفت منّا ٢٠ ديناراً.
- نعم كان ذلك لأجلب الدواء لأخي فقد كان مريضاً.
- عافاه الله. إذن يصير راتبك ٢٣٠ ديناراً.
- صحيح. جزاك الله خيراً.
- وهنا نُصّ علىٰ أنّك كسرت طقم الفناجيل الذي حملتَهُ للعميلة إلىٰ سيارتها، ويقدّر ثمنه بـ٧ دنانير ونصف.
- هذا صحيح، ولكنّي لم أكسره، حينما وضعته في السيارة، لم يكن مكسوراً، عادت بعدها واتهمتني بأني كسرته، ولم أفعل.
- هذا لا يمكن، منصوصٌ هنا علىٰ أنّك كسرته، ثم لماذا ستقوم سيدةٌ بعمرها بالكذب لأجل ٧ دنانير ونصف! هل ترضىٰ ذلك علىٰ أمّك أن تُتّهم بالكذب؟
- أنت محق، لا أرضاه.
- أرأيت؟ دعنا إذن نعُد إلىٰ موضوعنا، يصير الناتج ٢٢٢,٥ ديناراً.
- صحيح. جزاك الله خيراً.
- وهنا نُصّ علىٰ أنّك اشتريت من السوق فرشتين، وغطائين، ومخدّتين. الفرشة الواحدة تُقدّر بـ٧ دنانير، والغطاء الواحد بـ٥ دنانير، والمخدة الواحدة بـ٤. فالمجموع ٣٢ ديناراً.
- صحيح، ولكن أليس لي خصماً باعتبار أني موظفٌ في السوق؟
- لا، لا يمكنني ذلك يا ‹جاسر›، إذا صنعتُ ذلك لك سأجدني مُرغماً لأصنع لغيرك، عندها سيقول الناس أنني أخصّ بعضهم دون بعضهم بالخصومات والتنزيلات، وسيظنّونني متحيّزاً وغير عادلٍ. هل ترضاه لي؟
- لا، لا أرضاه. ولكنني حينما عملتُ في سوقٍ آخر، لرجلٍ أعطاني بعض الحاجات بنصف الثمن لكوني شغّيلاً لديه.
- ذاك قد ظلم الناس إذا أعطاك دون غيرك بتلك الأثمان، وأنا أخاف الله.
- لكنّه نصراني.
- أرأيت؟ لذلك هو ظلم، لو كان مسلماً لما بدّاك علىٰ غيرك، بل لساواك بالناس.
- ولكنّه كان يعطي تلك الأثمان لكل الموظفين. أما الزبائن فلهم الأسعار كما هي دون خصمٍ مثل الموظّفين.
- لقد ظلم الناس، وهذا لا يرضي الله. (قال تلك العبارة وهو يخلخل لحيته الكثّة.)
- ربما..
- علىٰ أيّة حال.. يصير راتبك المتبقّي ١٩٠,٥ ديناراً.
- أريد أن أنوّه علىٰ أنّني داومت ٣ ساعاتٍ إضافيّة ليلة عيد الأضحىٰ.
- ولكنني لم أقل أني سأعطي أموالاً إضافية علىٰ ذلك.
- ولكنّك تعلم القانون. أن الساعات الإضافية يأخذ الأجير بها حقّه.
- أنا لم أسمع بهكذا قانون.
- هكذا مكتوب في لوائح وزارة التجارة.
- لم أطّلع عليها.
- ولكن كيف لن تحسب لي شيئاً. هل هذا يرضي الله؟
- أنا لم أتّفق معك علىٰ شيءٍ من ذلك، فكيف تريد مني أن أهبك مالاّ إضافياً ونحن لم نتّفق عليه، سيكون هذا صدقةً مني، هل تريد أن تأخذ صدقةً؟ هل هذا يرضي الله؟
- نعم؟ صحيح. جزاك الله خيراً.
- أرأيت؟ ثم إنّك يا ‹جاسر› ابن السوق، أنا أحسبك منّا وفينا. وإكراماً لك سأعطيك ديناراً إضافيّاً.. فيصير الراتب ١٩١,٥ ديناراً.
- ولا تنسىٰ أني لم أعد إلىٰ المنزل في ذلك اليوم، وأفطرت يوم الوقفة في السوق علىٰ حسابي الخاص، بعد أن قال لي المدير ألا أعود وأنّه سيعوضني ذلك.
- نعم.. صحيح.
- إذاً نصف دينارٍ إضافيٍّ..
- كيف.. ولكن أقل وجبةٍ هي بسعر دينارٍ واحد!
- لماذا تتصرف بغير القواعد، أُقسم غير حانثٍ أنّي رأيتُ وجباتٍ بنصف دينار.
- لا، لا يمكن أن تكون هناك وجبات طعام بنصف دينار.
- بلىٰ يوجد.
- أخبرني إذن.
- إذا اشتريت: شطيرتي فلافل، وشطيرتي بطاطا بالكاتشب والمايونيز مع علبة بيبسي، يصير سعرهم نصف دينار.
- من الذي يفطر فلافل بعد تعبٍ وكدٍّ وجهدٍ لمدة عشر ساعات.
- أليست نعمةً من الله. كيف تجحدها؟ هل تريد أن تكفر بالنعمة!
- لا، معاذ الله. كل ما في الأمر أننـ..
- إذن احمد ربك على هذه النعم. الناس لا يلقون لقمةً يهنأون بها. انظر إلىٰ الأطفال في المخيمات وفي الصحاري، لا يجدون حتىٰ الماء ليشربوه.
- صحيح. جزاك الله خيراً.
- إذن يصير الراتب ١٩٢ ديناراً.
- حسناً.. نعمة الكريم.
- انتظر قليلاً.. يوجد أيضاً قرابة ٣٠ ديناراً سنخصمها منك.
- ولماذا؟ لم أتسلّف مبلغاّ آخر! ولم أكسر شيئاً إضافياً!
- نعم صحيح، ولكننا قد دفعناها لموظف التفتيش التابع للبلدية لأجل أن لا يضعوا غرامةً علىٰ السوق بسبب عملك هنا. فكما تعلم أنت ما زلت طالباً في المدرسة. ولا يصحّ أن تعمل إلا بإذنٍ.
- ولكن ما شأني؟
- كيف ما شأنك! لو رأوك هنا، لقبضوا عليك، ولوضعوا غرامةً علىٰ السوق!
- قد عملتُ في سوقٍ آخر وما وضعوا غرامة. أخذوني نعم، ولكن كتّبوني علىٰ تعهدٍ أن لا أعمل بعد الآن إلا بإذنٍ من البلدية. أضف إلىٰ ذلك أنني لم يُقبض علي لعشرات المرات. كنت أستطيع أن أهرب، فلمَ دفعتَ لهم؟!
- لأجل حمايتك. أيرضيك أن نُسلمك لهم؟ أهذا يرضي الله؟
- صحيح. جزاك الله خيراً.
- إذن يصير راتبك ١٦٢ ديناراً.
- حسناً.. نعمة الكريم.
- انتظر لحظة.
- ماذا؟
- مكتوبٌ هنا أنّك قدمتَ متأخّراً إلىٰ العمل بنصف ساعة لثلاثة أيام، ومرةً لساعتين.
- صحيح، ثلاثٌ منها كان بسبب زحمة الطريق. وواحدةٌ لم أتأخّر فيها، بل قدمتُ مبكّراً ولكن آلة البصمة كان معطّلة لساعتين.
- لم يُكتب أنّها كانت معطّلة.
- بلىٰ لقد كانت، والجميع يشهد.
- ما علاقتي بالجميع، أنا أرىٰ المكتوب فقط.
- هل هو منزّلٌ من عند الله؟
- هل تستهزئ بالدين!
- لا، ولكنّ الورق ليس قرآناً. سآتيك بالشهود.
- لا حاجة لذلك، ولكن حتىٰ لو كانت معطّلة، ما يدريني أنّك قدمت مبكّراً؟
- لقد كان الجميع هناك يشهد.
- وما علاقتي بالجميع.
- إذن كيف أُثبتُ لك؟
- هل سنقضي اليوم كله في الجدال بهذه المسألة؟
- حسناً إذن.. كم يصير الراتب؟
- بعد خصم ١٦ ديناراً..
ماذا؟ ١٦ ديناراً!!
- نعم هكذا القانون المنصوص من وزارة التجارة، من يتأخر عن العمل ولو لنصف ساعة يخصم من يوميّته نصفها.
- لم أقرأ ذلك!
- ما شأني أنا.. هذا يعني أنّك لا تقرأ.
- حسناً إذن.. كم يصير الراتب؟
- يصير راتبك ١٤٦ ديناراً
- حسناً.. نعمة الكريم.
- انتظر لحظة..
- ماذا؟
مكتوبٌ هنا أنّك أخذت إذناً في مُنتصف اليوم وخرجت، وذلك لمرتين..
- نعم صحيح.. ذلك أنني ذهبتُ مُسرعاً لأخي قد اصطدم بسيارةٍ فأسعفتُهُ إلىٰ المستشفىٰ.
- واليوم الآخر؟
- كان لدينا عرساّ لابن عمي، وقد أخبرت المدير بذلك، وهو وحيدٌ ونحن له عزوةٌ وسند.
- إنّك ابن عمٍ كفؤ.
- شكراً.
- إذن بعد خصم ١٦ ديناراّ آخر، يصير راتبك ١٣٠ ديناراً.
لم يعلّق جاسر علىٰ أن صاحب العمل لم يقدّر ظرفه، لكنه انتقل إلىٰ موضوعٍ آخر، فقال: ولكنني عملتُ لنصف يومٍ في كل اليومين، فلماذا لا تُعطني حقي فيهما؟
- مكتوبٌ في قوانين وزارة التجارة، أن العمل لنصف يوم دون إشعار صاحب العمل بذلك قبل ثلاثة أيام؛ يخوّل صاحب العمل أن يخصم الأجرة كاملةً.
- ولكني حين وصلني خبر حادث الإصطدام كان في نفس اليوم، فكيف أخبركم بذلك قبل ٣ أيام.
- لا أدري.. هكذا ينصّ القانون.
صمت ‹جاسر› بُرهةً.. ثم قال: حسناً.. نعمة الكريم.
- انتظر لحظة..
- ماذا بعد؟
- مكتوبٌ هنا أن اليوم الخامس عشر لم يكن هناك عمل، إذ أن الناس كانوا يحتفلون بيوم الإستقلال، فلم تبذلوا جهداً.
- ولكنّنا رتّبنا السوق، ثم إنكم لا تسمحون لنا بالإجازة في يوم الإستقلال!
- ما شأني بذلك.. هكذا مكتوب. إذن يصير راتبك بعد خصم ٨ دنانير: ١٢٢ ديناراً
- لا حول ولا قوّة إلا بالله. حسناً.. نعمة الكريم.
- سأعطيكها انتظر قليلاً.
يفتح صهيب الدرج، ويُناول ‹جاسراً› المال، فيعدّها، وإذ به يراها تنقص ديناران. فأشار له إليها، فقال صهيب: لم أجد معي فكّة.. سأعطيكها لاحقاً لا تقلق.
أذّن العصر، وانطلق صهيب مسرعاً إلىٰ المسجد، وهو يسوك أسنانه بسواكٍ مدني. ومعه مسبحته يحمد بها ربّه.
تعليقات
إرسال تعليق