وقفةٌ مع مختارات أنطون تشيخوف القصصية القصيرة: المجلد الأول
لم أكُن مع القصص القصيرة في وئامٍ، ولم أكُن كذلك مع الروايات المطوّلة في هيامٍ، بل حتىٰ كنتُ كارهاً لاثنتيهِما. فالقصص القصيرة لا يعيش الراكب -أو دعنا نقل القارئ- مع شخصيّاتها كما يُستحسن، لا يعرف خبايا تلكُم الشخصيات، لا ما تُحب ولا ما تكره، ما تفكّر به وما لا تفكّر به، كيف غضبها وكيف سكونها، كيف عيشها ومعاشها، ونومها ومنامها. لا يعرف عنها إلا كما يعرف القابع في البادية عن حوادث العالم المتحضّر، الشيء القليل اليسير، الذي لا يُغني ولا يُسمن من جوع.
أما الروايات الطويلة المطوّلة، فإن المرء ليسيرُ معها رحلةَ قريشٍ الشتاء والصيف، إذ يضنيه طول الطريق وإن كان فرحاً، ويهلكه عناؤءه وإن كان مرحاً. فذاك الطول يزعُ في النفس مللاً، يعوزه أن يتركها في منتصف الطريق، وأن يدعها إلىٰ غيرها، حتىٰ تراه يكرهها؛ علىٰ جمال الرواية وحلاوة سرهاد، ورونق قلمها. لكن الطول مُسئِمٌ له علىٰ أيّة حال.
وهنا يأتي ‹أنطون تشيخوف›، فيغيّر بعينك نظرتك نحو القصص القصيرة، يُحسّنها ويُجمّلها، ويقلّبها بقالب المتعة، وبهاء النظرة. فتصير للقصص محبّاً بسببه، ولا تنفكّ حتىٰ تغدو وقد أحببتَ أن تقلّده، وأن تصنع ما يصنع، ويحدث أن تشرع أنت بنفسك تكتبُ قصصاً قصيراً. وإذ بكَ ترىٰ أنّك صرت ولعاً بهذا النوع من الأدب. وبات ‹أنطون تشيخوف› واحد عشرةٍ من المؤثرين فيك في مجال الأدب عامّة، وواحد خمسةٍ في أدب الروايةِ خاصّةً.
وعلىٰ ذكر الرواية، فالمطوّالات منها، ما أَحَبّها يوماً صاحبكم هذا صاحب النظرات، بل وأبغضها، وكان ما يشرع في روايةٍ إلا وتمنىٰ خلاصها. حتىٰ جاء روائينا ‹ليوتولستي›، وبدّل رؤيتي تلك، وجعلتُ أقرأ له الرواية فأتمنىٰ لو أنها طالت قليلاً! فقرأتُ «الحرب والسلم» وكأني عشتُ معهم في تلك الحِقبة. وعشت مع «آنا كارينينا» فرأيتُ انكسارها وخيانتها وخذلانه، فغضبتُ عليه، ولنتُ لها. ورأيتُ «البعث»، فسايرتُ «نيكليودوف» في شقائه ذاك، وعلمتُ آثامها وسعيه نحو تخطّيها. أفرأيت تلك الروايات الثلاث، لو لم قرأتها لما حسبتني أميل إلىٰ قراءة من علىٰ شاكلتها من الطول!
فإن كان ‹تولستوي› هو روائينا، فإن ‹تشيخوف› حكّواتينا. وعذراً لحكواتي حارة الضبع ‹أبو عادل›، فإن ‹تشيخوف› يأبىٰ أن يكون خلفك في الترتيب.
وأدعكم مع جزءٍ قليلٍ من اختياراتي حول القصص التي سردها، ونظراتٍ لي عليها:
فرحة ميتيا كولداروف في قصة ‹أنطون تشيخوف› «الفرحة» بأنه صار حديث الإعلام ولو بكونه مجنيّاً عليه فطُرح وعُولِج، لكنه صار مشهوراً كما زعم؛ إنما كانت لحُبّ المرء للشهرة، وتقديسه للأنا، بأن يكون ذكره علىٰ كلّ لسانٍ. كذاك الذي بالَ في بئر زمزم بِغِية أن يُخلّد ذكره في التاريخ!
كثرةُ الغلبة لإيفان ديمتري فيتش في قصة «وفاة موظف»، بأن يغدو ويروح معتذراً للجنرال العجوز لأنه عطس، وطاله بعض ذاك الرذاذ= إنما هو في نفس المرء من شعوره في أنّه ما أدّىٰ واجبه علىٰ النحو الصحيح؛ من اعتذارٍ واستكبارٍ، أو حبٍّ وكرهٍ، أو كرمٍ وبُخلٍ.. ومثل ذلك.
تعظيم ميركولوف للنقيب، وتبجيل أفعالهِ وأقوالهِ، ووضعه فوق ما يستحقّ من المقام في قصة «حُلّة النقيب»؛ فيه شيءٌ من تحقير الذّات وازدرائها قبل تقديس أصحاب الرّتب والمناصب. فالشعور بالدّونيّة يكمن خطره في أن المرء يُقرّ ذلك التقسيم الطبقي أول ما يقرّه علىٰ نفسه!
في قصة «الذئب»: كان خوف نيلون -علىٰ قوته الجسمانية- من عضة الذئاب المسعورة؛ جعله يُغشىٰ بما خافه فـ"البلاء موكلٌ بالمنطق". وهذه العضة دفعته بكل ذعرٍ أن يرهن ثروته كلها، وأن يرىٰ الإنتحار خلاصاً له وفرجاً= كان هذا الخوف نابعاً من الجهل وغياب الوعي. فالجهلُ أم العِلل.
إني لأبغض المرء الدبلوماسي، يتكلّف في أمره وقوله، ويحسب لكل خطوةٍ ثمنمائة حسابٍ، فهو؛ كأناة القط حتىٰ زاد عنه، ولو علم القط صنعه لمرّغ وجهه في التراب غيظاً، تماماً كأريستارخ إيفانوفيتش في قصّة «الديبلوماسي»؛ فلو أنّه أخبر كوفالدين بموت زوجهِ مباشرةً لكان أخفّ وطأةً.
أَحـــبَرَها أبو هاشم الأُمّي، فـــي كوتاهيا، تركيا
ضحىٰ الأحد، ٢٦ مُحرّم ٤٥ه، ١٣ آب ٢٣م

 
 
 
تعليقات
إرسال تعليق