نظرةٌ علىٰ كتاب يوميّات آدم وحوّاء لـمارك توين



ما كان كتابنا هذا لِيلفِتَ نظري لولا أن قرأتُ مماثلاتٍ له قام بها الأديب الكبير ‹ابراهيم بن عبد القادر المازني›. ذلك في كتابه «صندوق الدنيا». إذ جمع فيه مقالاتٍ شتّىٰ، كان قد وزّعها علىٰ عدة أيامٍ في جرائد ومجلّاتٍ، جمعها في كتابه ذاك، بأسلوبٍ يحمل من السخرية اللاذعة، والواقعية الفظّة الشيء الكثير. وقد أعجبني كتابه ذاك، وراق لي حبره فيه، كان سيّالاً إلىٰ الحدّ الذي صرتُ أُحبّ الأدب الساخر. ولا أنفي أن أديبنا أديب الفقهاء الشيخ ‹مُحمّد علي الطنطاوي› -نعم اسمه مُركّب مُحمّد علي- كان له الأثر الأكبر لحبّي لهذا النوع من الأدب. لحظةً واحدةً.. هل قُلتُ حُبّاً؟ لا.. أقصد ولعاً، ولهاً، هياماً.. عشقاً وجوىًٰ. هكذا أَنطَقَ في التعبير، وأصدقُ للمعنىٰ. وكذلك ‹زكي مبارك›، ‹ومحمود السعدني›.. وغيرهم

لا حول ولا قوّة إلا بالله، أطنبتُ في الإستطراد، ولا عجب من رجلٍ قرأ لـ‹لطنطاوي›، ووصفه بأنًه أديبنا؛ أن لا يكون إلا مثله:
‏‎”عن المرء لا تسأل وأبصِر قرينهُ
فإن القرينَ بالمُقارن مُقتدي“

ومن سخرية القدر، ولَذعة الأيام، أن أديبنا كان يُحمّل تبعات استطراده علىٰ كاتبنا -وأعني به أول من جعل للكتابة معنىٰ يليق بها-: ‹أبي عثمان الجاحظ›. دار الزمان، وأذاق أديبنا ما ذوّقه لغيره، فصرتُ أُحمّل استطرادي عليه:
‏‎”وعذرتُهُم وعرفتُ ذنبي أنني
عيّرتُهُم فلقيتُ فيه ما لقوا“

قد لاقىٰ أديبنا الجزاء من جنس عمله، فلا يغضبنَ علينا؛ فما أنا إلا ما كان هو عليه. حسبي من ذلك عُذرٌ بعد عذلٍ.
لنعد إلىٰ حديثنا.. كان ‹المازني› قد كتب عدّة مقالاتٍ في كتابه ذاك -الذي لعلّكم نسيتم اسمه من شدّة استطرادي- «صندوق الدنيا»، قلّد فيها كتاب ‹مارك توين› الكاتب الأمريكي الشهير، وجعل يسردُ متخيّلاً حال أبوينا آدم وحوّاء عليهما السلام في الجنة، وما صنعا فيها، وكيف كان تعارفهما، وما صنع إبليس، وما آل بهما الأمر لإنصاتهما إليه.. وشيءٍ من قبيل هذا. 

إنّ الكاتب الحصيف، والأديب الرصين لتظهرُ عليه أمارات الخيال الواسع، ذلك في اختراعه لأدبٍ تخيّليٍّ لم يعهد الناس مثله. نعم، تماماّ مثل ‹أبي العلاء المعري› وتحفته «رسالة الغفران»، و‹ابن سينا› وروايته «حيّ بن يقظان»، و‹وليام شكيسبير› ومسرحيّاته، و‹جورج آر. آر. توكلين› وفنتازيّته، و‹أجاثا كريستي› وغموضها. وشيءٍ من قبيل هذا.

فإني يوم قرأتُ مقالات ‹المازني› تلك التي جعل يُقلد بها ‹مارك توين›؛ عزمتُ علىٰ أن أقرأ الأصل والفصل. وقد أخذت بلبّي، وذهب بأحشاء صدري أي مذهب. وصارت عندي مُقدَّمةٌ علىٰ قِصرها من حيث الطول، وخطأها من وجهة ديننا الحنيف ورسالة عظيمنا ﷺ.
ذاك أن الكاتب وإذ إنّه من طائفة النصارىٰ، فإنهم يقرؤون العهد القديم، وفيه أن آدم مُبرّأٌ من تهمة الأكل من تلك الشجرة، وأنّ اللوم كل اللوم لحوّاء وجنس الإناث. وهذا مُخالفٌ للنصّ القرآني، الذي جعل آدم هو المُذنب الأساسي، فهو صاحب الأمر والنهي علىٰ زوجه، التي هي تبعٌ له، تأتمِرُ بأمره، وتنتهي بنهيه. إذ يقول ربّي في مواضع شتىٰ: ﴿فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ۚ وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ﴾، ﴿فَتَلَقَّىٰ آدَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ﴾، ﴿وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىٰ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا﴾، ﴿فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَىٰ شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَّا يَبْلَىٰ﴾، ﴿فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَـٰذَا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَىٰ﴾.
فالواضح أن آدم -عليه السلام- هو المخطئ، وهذا لا يُبرّأ أمنا حواء -عليها السلام- من الذنب. ولكن الراعي مسؤولٌ عن رعيّته، وهو عليها راعٍ ومسؤول.

علىٰ أنّك تلقىٰ في هذا الكتاب حلاوةً، وهو الذي أتىٰ علىٰ شكل يوميّات؛ فصلاً علىٰ لسان آدم، وآخر علىٰ لسان حوّاء. وعن العلاقة بين الذكر والأنثىٰ، وأخصّ أكثر؛ بين الزوج وزوجه، بين الخليلِ وخلّه، والحبيب وحِبّه. وعن التناقض والتنافر الذي زرعه الله في الجنسين، فكان اختلافهما رحمةً، وصار الواحد مكملاً للآخر، ما نقص من جنسٍ أكمله الآخر، وما زاد عن أوّلٍ كان رُقعةً لصاحبه. فهذه هي سنة الله في أرضه، وزَعَها بين عباده، ليكونوا في حاجة بعضهم، وأن لا يستغني الناس عن الناس، وأن يكونوا شعوباً وقبائل ليتعارفوا.

وأن يرىٰ الزوج مثالب زوجه؛ فيتقبّلها كما هي، تماماً كما فرح بمناقبها. فما مِن إنسانٍ حاز صفات الكمال إلا الأنبياء والرسل -عليهم السلام-. وما من زوجين كانت حياتهما كميلةً مُكمّلةً لا عنت فيها. حسبك أن تقرأ في سيرة عظيمنا ﷺ، وفي أحاديثه الواردة، أن تعرف أنّه مع زوجاته كان كأيّ إنسانٍ طبيعيٍّ، وأي بشرٍ له من الجهد مع زوجه ما له. فكيف يبلغ بالمرء أن يحسب بزواجه من واحدةٍ؛ أنما يطلب حور عينٍ قد خُلقت له بأحسن أحسن تقويم، وأبهىٰ خَلقٍ وخُلُق!

العاقل من قوّم حياته مع امرأته كما يرضي الله، أن يُحسن إليها، وأن يرفق بها فهي أدنىٰ منه درجةً في العقل والحكمة في تغليبهما علىٰ القلب والهوىٰ. أن لا يشتدّ حتىٰ يلين، فهو بذاك يكون له سلطانه الذي لا تنازعه فيه الأنثىٰ، وذاك الرفيق الذي تأنس إليها كلما ألمّ بها خطبٌ، وأودىٰ بها حزن.
هذا مذهبي، ولكلٍّ مذهبه ومشربُه. والله من وراء القصد.

أحـــبَرَهــا أبو هاشمٍ الأُمّي، فــي كوتاهيا، تركيا
صباح الجمعة، ٢٤ مُحرّم ٤٥م، ١١ آب ٢٣م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١