نظرةٌ علىٰ رواية «البعث» لروائينا تولستوي


ما حسبتُني قبل اليوم أقرأ رايةً تصل صفحاتها إلىٰ٨٦٠ صفحة، بمجلّدٍ واحدٍ، وبهذه السرعة التي ظنّها من ظن أنها تشوبها عجلةٌ أو تسرّع؛ وإنما هي لعمري تروٍ تحمل في طيّاتها حب إنهائها شوقاً لقادم الأحداث، وولعاً بحبرٍ فاح من أقلام روائينا تولستوي. حبرٌ لا يحملك إلا علىٰ مداومةِ القراءة، والإنهماكِ في التفكّر، والاعتكاف علىٰ التدبّر.

لم يكن تولستوي كغيره من الروائيين مولعاً بذكر تفاصيل زائدةٍ عن الرواية، لا يُزادُ بذكرها شيءٌ، ولا ينقص من إيرادها آخر. بريب أنّك تراه هاهنا يُفرد لك أدقّ التفاصيل، وألَمّ المُلمّات، جنباً إلىٰ جنبٍ، حتىٰ لتقول: ما باله قد خرج من عادته في إقصار الكلام، وتسارع الأحداث، والزّهد في الروي كما في صغره؟ أبعد الكبرة جبّة حمرا!

ذاكم فيه صوابٌ من جانبٍ، والصواب هنا أعني ذكره لتلك التفاصيل، وقد قلتُ هذا سابقاً: ‏‎”ترىٰ #تولستوي يُسهب في روايته «البعث» في تصوير واقعِ القرية التي مرّ بها صاحبها (نيكليودوف)، أن تُبصر حال سفلة القوم، وفقراء المجتمع، وحقيقة حالهم وأحوالهم. فيعمد إلىٰ ذكر أدّق تفاصيلهم، حتىٰ تقول: ما الفائدة من كل تلك التفاصيل التافهة! لكنها كعُقد حبلٍ؛ لا تجتمع صورة الحبل إلا بها.“ كما قُلتُ: هي كعُقد حبلٍ؛ لا تجتمع صورة الحبل إلا بها. وحسبك علماً ودرايةً أن هذه الرواية ليست حبلاً واحداً، بل هي لعمري حِبالٌ كُثر، كلها تجتمع في مربطٍ واحد، وإن كان هنا المربط هو (نيكليودوف)؛ فالحبال هي الأحداث الجانبية للقصة. والتي تدور في فلكِ:

رجلٍ تداعت له أركان الدنيا لغناهِ وثرائهِ، ودان له أهل بلده لمنصبه الرفيع، ولمكانته الموقرة، فكان لا يُردّ له طلبٌ، ولا يُرفضُ له أمرٌ، ولا يُستنكر منه فعلٌ. وكان علىٰ هذا متقلّب الحال، متذبذب المزاج، يروح مرةً بين طغيان النفس وتحرّرها من تبعات الأخلاق، والمبادئ، ورُتب الشرف، والمروءة، وبين زهدٍ في النعيم، وانصرافٍ عن ملذّات الحياة تصوّفاً، وتنقيةً للنفس من شوائبها. حتىٰ يلقىٰ وهو في بيت عمّتيه، وصيفتهما وخادمتهما (كاتيوشا) أو كما قيل لها بعدُ ( ماسلوفا). فيروادها عن نفسها، في بادئ الأمر حبّاً، وعاطفة النفس للنفس، والروح للروح. وكما أسلفنا فإن (نيكليودوف) كان متقلبّاً بين الخير والشر، فكانت فاتحة أمره مع كاتيوشا خيراً، وحباً لا يصل إلىٰ درجة الفساد. سرعان ما انقلب لاحقاً، وصار حباً فيه من الفساد والشر؛ ما جرّ علىٰ (نيكليودوف) حسرةً وندماً عظيماً! أغواها، وأوقعها في حبائل مصيدته، ثم تركها تُعاني ويلات الندامة وحدها، وخيبةَ الحبيب ومجافاتهِ، وأيضاً خداعهُ. وكي يُمعن في إذلالها، ويزيد من نوائب الدهر عليها، رمىٰ لها بمئة روبلٍ. وكأنها صنعت ما صنعت من أجل المال! ثم تركها، وخرج إلىٰ من البيت إلىٰ معاركه، فهو ضابطٌ قائدٌ لا يُشقّ له غبار.. لكن في ميدان الحروب فقط. أما (كاتيوشا)، فقد ناءت بِحملها ذاك، فحَملت منه طفلاً، فمات من فرط جُهدها، ثم طُرِدت من عملها بعد اتهامها بالخزي والعار. أخبروني أنتم.. إلىٰ ماذا سيؤول أمر فتاةٍ انتُهِك عرضها، واستبيح شرفها، ودُنّست كرامتها؟ نعم صحيح، إلىٰ الدعارة والانحلال. هذا ما حدث، تنقّلت (كاتيوشا) بين منزلٍ وآخر، وبيت وثانٍ. وهكذا حتىٰ أوقعتها امرأةٌ قابلتها في طريق الدعارة وبيع الأجساد.

ثم تمرّ الأيام، ويعود (نيكليودوف) إلىٰ البيت من حربه، فلا يلقىٰ (كاتيوشا). وكنا قلت سلفاً، كان كثير التقلّب بين الخير والشر، وكان نصيبه من هذه العودة؛ الخير. وحين أراد أن يستدرك ما فوّت، ويعالج ما صنع، ويصلح ما اخترب؛ ما وجد (كاتيوشا)، وقد أومأت عمته إليه أنها فاسدةُ الأخلاق والشرف، وقد طُرِدت لما صنعت. فحزن قليلاً، ثم نسي. وكيف له ألا ينسىٰ وهو هو ما فيه من العز والجاه، وإن كان يملك من بعض الخلق، فلا ريب أن مراتب الثراء تُنسي العبد مدارك الفقراء.

حاج به الوقت أن صار من زمرةِ هيئة المحلّفين، وهُم قومٌ في عُرف «الأنجلوسكسونيين» يحكمون في جرم القاتل والسارق الذي ما وُجِد عليه دليل يُدينه بلا شبهةٍ أو شك، وقد عمل به الروس ومن قبلهم الأمريكان تيمناً بالإنجليز. وكان قد صدف أن (نيكليودوف) وجد المتهمة هي هي صاحبته تلك. عرفها، ونسيته، وكذلك صنعت بها الحياة أن نسيت من كان حبّها الأول، وعذابها المر! تيقن نيكليودوف أنه السبب في حالها ذاك، وأنه صنعه جرّ عليها الويلات، فدفعها إلىٰ الدعارة، وإلىٰ الوقوف بين يدي المحكمة، وهو يعلم أنها بريئةٌ من تهم القتل والسرقة.

لكنهم حكموا عليها: بالأعمال الشاقة لثمان سنين في سيبيريا. فركب أمره أن يعينها ما استطاع، وأن يمدّ لها يد العون ما قدر قدره، وجهد جهده. بل.. وحتىٰ أن يتزوجها ليكفّر عن صنائعه السابقة، من إغواءه أولاً لامرأةٍ متزوجة، ثم لخادمةٍ مسكينة، وأحسب القائمة كانت لتطول.

كان هذا هو محور الأحداث، ولا تحسب الرواية كلها تدور في هذا الجانب، وفي هذا الفلك من المواضيع، بل تعدّدت الرواية كما عادة روائينا بتنوع الأحداث، وتباين القصص فيها، وتشابه الحكايا بين الواقع والإفتراض؛ حتىٰ لتحسبن أن هذا من ذاك. فما بين مشاكل الفلاحيين، ومصاعب القضاء، ودوافع النفس، وخوافت الروح، ومظان الريبة، ويقين الحق. وبين قانونٍ وُضِع فيه من لبس الظلم ما هو أقرب من منهاج العدل. ترىٰ في هذه الرواية نتاج فكر روائينا تولستوي، مناقشة فكرة الإيمان واليقين، وبيان منزلة العفو، ودرجة الصفح، وذكر معايب الناس والدول، ومضارهم علىٰ حدٍّ سواء، وأن الناس هم من صنعوا لأنفسهم دولةً، لتقوم هذه الدولة بظلمهم، فكأن صنيعهم انقلب عليهم.

وإفراده لنا معاناة (نيكليودوف)، وتزحزحه تارةً بين النفس اللوامة، وطوراً إلىٰ الأمّارة بالسوء. يخرج من الأولىٰ إلىٰ الثانية، ومن الثانية إلىٰ الأولىٰ= فيتبيّن لك في ذيل الحكاية؛ أنه ما قُصِد بـ«البعث» إلا بعثُ النفس من موتها الكائن في ظلمات الجور والطغيان، ومبيتها في دركات الفساد والإنحلال= وأن تُبعث إلىٰ مشارق الرحمة والعدل، والحب والتقوىٰ والإحسان.. ذلكم هو بعث تولستوي.


أبي هاشمٍ، مُحمّد الرّفاعي الأُمّي
٠٦:٤٣ | بُـعـيد مـشـرقِ المشـمـس

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١