نظرةٌ علىٰ رواية المحاكمة لفرانز كافكا

 


تعلو علىٰ وجهه أمارات الذهول، لا لعظمة الرواية فحسب -وإن كان فيها من العظمة ما يُنصف المرء به-؛ إنما لتلكم الجلبةَ والفوضىٰ التي جرّتها الأحداث. هي حقّاً كما قيل في صاحبها رائد العبثية في زمانه، ولا يكذب المرء إن قال في كل زمانٍ ومكان.

"تشعر أن كافكا في روايتيه المسخ والمحاكمة يُعرّض بمؤسستين كلتاهما غامضة التوجّه، مُبهمة الغاية، متناقضة الرؤية حول واقع الفرد، ووعيه بذاته وبمن حوله: الأسرةُ والدولة."

منذ أول لحظةٍ يستيقظ فيها ‹جوزيف ك›، ويلقىٰ فيها جثتين، جاحظةً أبصارهما نحوه، يخبرانه بوجوب مثوله أمام المحكمة؛ دون بيان موقع المحكمة وتاريخ المحاكمة. وإيذانه بأنه متهمٌ؛ ودون بيان التهمة. تاركينه في مكانه بدلاً من اقتياده إلىٰ السجن؛ ودون بيان علّة تركه. ثم إشارتهم إليه بالتجهز للدفاع عن نفسه؛ وكما في كل قولةٍ: دون بيان عما يدفع عن نفسه به.

"هل كان كافكا في روايته المُحاكمة، حينما غيّب عنّا علّة تلك المحاكمة، وفحوىٰ تلكم القضية يومئُ إلىٰ أن غاية الحياة غير معلومةٍ (باعتقادهم الغربيّ طبعاً)؟ أم أن تسلّط الحكومات علىٰ رعاياها مجهولُ السبب؟ وأراني أميلُ إلىٰ فكرة جهلِ المرء، وغياب وعيه بمحيط قبل الإحتمالين الأُخر."

وتستمر الأحداث.. فخُيّل لبطل الرواية المجهول الكنية واللقب، إذ أومأ إليه ‹الروائي› بحرف ‹ك›= فكأنّ البشر صاروا دون هُويةٍ تنمٌ عن مكنون الشخص، وعن حاله وأحواله. تماماً كالسجين الذي انصرف سجّانه عن ذكر اسمه، إلىٰ ترميزه برقمٍ، فصار ليس السجين فلان؛ بل السجين رقم كذا..
نعم، خُيّل إلىٰ ‹ك› أنما هذا ما هو إلا مزحةٌ من أصداقائه في عمله في البنك -حيثُ يعمل-، إذا أن يومه هذا هو يوم ميلاده، فلا ريب من أن يكون ظنّه صحيحاً. علىٰ أنه التقىٰ بسيدةٍ تقربه، أخبرته أنه لربما اتّهم لعلاقته المشبوهة بجارته، فانطوىٰ إليها يحادثها، علّه يرىٰ مخرجاً من تلكم القضية. وما أشكل عليه، وأشبك عقله= تركه دون اعتقالٍ! ما عاد يُدرك عقله واقعه، غيره أنه يسعىٰ بكل سعيه، ويجهد بكل جهده لمعرفة خبايا معضلته هذه. والذي زاد من يقينه بصحة قول تلك السيدة، أن فتاةً قد انتقلت إلىٰ سكن جارته تقيم معها؛ فتوجّس ريبةً، وشعر أنهم يبعدونه عنها.
كان ‹ك› قد أُخبِر بوجوب مثوله في المحكمة، لكنه -وكما أسلفنا- يجهل مكان المحكمة وزمانها، لذلك تأخر عليها، وحين قدم إلىٰ المحكمة بعد تعنّتٍ وكَبَد، وجدها بعيدةً كل البعد عن الشكل الانطباعي الاعتيادي للمحاكم، ورأىٰ قاعة المحكمة في علّية البناء، فصعد إليها، ورأىٰ أفراد المحاكمة قد أكالوا له الزجر والتوبيخ لتأخّره، دفعه ذاك للتهكم عليهم، وانبرىٰ يدفع عن نفسه التهم بتسخيفها، إذ -وكما أسلفنا- لم يكن علىٰ بيّنة من حقيقة التهم وماهيّتها.
ثم تمحصت في عيناه معالم القاعة، فوجد امرأةً كانت تفتعل جلبةً طِوال المحاكمة، وما انتهرها القاضي بتاتاً. فحادثها رقد همّت بإغوائه. أنذاك اقتحم طالبُ محاماةٍ القاعة، واجتذها من يده خارجاً، مدعياً أنه عشيقها. بعدئذٍ تبيّن أن لها زوجاً، وهو يعلم صنيعها مع الطالب، مبرّراً سكوته بقوة المحامين، ودهائهم ومكرهم، فلا يأمن منهم شراً؛ لذلك تركه وشأنه. وصاحبنا ‹ك› ما زال في دهشةٍ مما يجري.
بعدئذٍ، يتوجه إليه ذانك الرَجُلان، اللذان أنبآنه بالتهمة، وطلبا منه الرشوة. فاشتكىٰ عليهم. وحين خرج لحظ جلّاداً يجلدهما، علىٰ أنه أشار عليه بتركهما وشأنهما.. لكنه لم يفعل، واستمر بجلدهما.
ثم أتىٰ عمّه، وسمع ما حلّ به، فذهب به إلىٰ محامٍ شهير، عُرِف عن حنكته في حلّ هكذا قضايا. وهناك، تعرّف علىٰ مساعِدتِهِ، ثم روادها عن نفسها. وحين علم عمّه بفعله: انتهره، وأغلظ له القول، ووصمه بانعدام المسؤولية ونحو ذاك من الصفات. لاحقاً علم أن هذا المحامي غير حسيسٍ، ومزاجيٍ، لذا لا يرجىٰ منه خيرٌ ولا منفعة. أرشده أحد معارفه إلىٰ رسام المحكمة، فالرجل له باعٌ طويلٌ في دهاليز المحاكم، علىٰ أن صاحبنا قد انتابه شكٌّ في قدرة الرسام. ثم إن الذي زاد في عجبه، أن الرسام علىٰ بعد تأثيره عن قرارات القضية؛ إلا أنّه ضليع بتفاصيل محاكمته، وملامساتها. زاده ذا عجباً علىٰ عجبٍ.

ترىٰ ‹ك› شدّ طريقه نحو الرسام، ثم علِم أن له علاقةً" وطيدةً مع المحكمة، إذ يرسم وجوه المتهمين والمحكومين؛ يُخيّل إلي أن الفن وما حواه من رسمٍ وغناءٍ، وأدبٍ وشعر يخضع إلىٰ سلطةٍ حاكميةٍ طاغوتيةٍ، تمتدّ أذرعها إلىٰ جميع جوانب المجتمع؛ مادّيهم ومعنويهم."

وعلىٰ أنّ الرسام أعطىٰ لصاحبنا نصائح تغنيه في مسألته، إلا أنّه ما لقي منها نفعاً. فعاد إلىٰ المحامي، فوجد عنده رجلاً، أخبره بتعاسة حاله، وأنّه لقي من المحكمة مثل ما لقي، وتركوه طِوال الخمس سنين السابقة في تخبّطٍ وتعثّر، وي كأنّه مثل المرأة التي لا هي معلّقة ولا مطلّقة، ما حذا به الحال أن افتقر، وآل به الأمر من من رجل أعمالٍ ذا عزٍّ ورفعة، إلىٰ معدومٍ مُشرّد؛ وجل علّة حاله هو بذل ماله للمحامي كي يُخلّصه من التهم. ذاك المحامي وصل به الأمر أن يعامل عميله ذاك مثل الكلب، دون أن يتقدّم في حل قضيّته.
في طريقه نحو المحكمة، وجد صاحبنا ‹ك› نفسه في كاتدرائيةٍ، لقي فيها قساً يعظُ الناس، وتحدث إليه بعد أن ناداه باسمه بمثلٍ مفاده: أن رجلاً قضىٰ حياته كلها يبحث عن القانون. وأنبأه القسّ أن هذا المثل هو أساس بناء المحاكم، والوثيقة التي استُعيظ بها لبناء المحكمة، وفسّرها كثيرٌ كلٌّ بحسب فهمه. فهم حينها صاحبنا ‹ك›: أن طول المحاكمة دون البت بقرارٍ، أشدّ وقعاً، وأحدّ فتكاً من ثبوت التهمة.
في ليلة ميلاده اللاحق، استيقظ صاحبنا ‹ك›، ووجد عنده رأسه رجلان آخران، اقتاداه خارجاً، وفي حقيقة الأمر هو الذي كان يوجّههما إلىٰ حيث يريد. إلىٰ حفرةٍ علىٰ نواحي المدينة، يخرج واحدهما سكيناً، يطعنه، والآخر يقول: مثل الكلب! انتهت.

يحتار «ثائب» في قراءته للرواية.. أكان كل ذلك الإبهام، له من الثورة الصناعية نصيباً؟ أم لأسلوب الدولة البيروقراطية الحديثة؟ أم لتعنت النفس البشرية، وتجبرها، وظلمها، واختمار السلطة في ذاتها فلا تحبّ إلا تطويع الغير لصالحها؟ تلحظ أن من مسانيد عدل البشر الضيم في تأخير اصدار القرار، ناهيك عن القرار بذاته.

أبو هاشم، مُحمّد الأُمي. كوتاهيا، تركيا
في ضحىٰ الجمعة، ٢١ تموز، ٣ محرم ٤٥

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١