نظرةٌ علىٰ كتاب فلسفة الحياة لـروائينا ليو تولستوي



حسِب «علّان» أن ⟨روائيه⟩ ما هو إلا روائيٌ، أوتي من حكمة القول، ورجاحة العقل ما خلطه بأسلوب القصصي الحكائي، فنتج عن ذلك أماثيل خلّدها التاريخ، وعبَر استشهد بها خَلَفه علىٰ موضوعاتٍ ذات صلةٍ. فقد يندُر مثلاً أن تجد من لم يسمع بروايته العُظمىٰ، الذي ودّ ⟨نجيب محفوظ⟩ لو كان له مثلها: رواية ‹الحرب والسلم›. ومن عرَف من الأدب الروائي الشيء القليل، لم يجهل روايته الخالدة: ‹آنا كارينينا›، ولم يغب عنه تلك الاسطورة الحيّة رواية: ‹البعث›. وإنّك لترىٰ أحد فطاحلِ الأدب، ونوابغ الأدب العالمي: ⟨ستيفان زفايغ⟩، قد جعل ⟨روائينا⟩ نبراساً له في أدبه، ومسلكاً له في رواياته. وتراه عظّم من شأنه، حدّاً غلا فيه، وغلوّه ذاك لعمري ليس بغلوٍّ مكروه، ولا مبالغةٍ مذمومة.
كان «علّان» يحسب أن ⟨روائيه⟩ إنما هو مجرّد روائي، وإذ به يلقاه فيلسوفاً في الفكر، ومفكّراً في الفسلفة، مُبجلاً لفكرة الدين، ومعظماً للموروث، علىٰ اختلافه معه في أشياء، لكنّ ما يتّفق به معه أكثر مما يختلف. هذا ما جعله في حيرةٍ من تباين الأقوال فيه، واختلافها في أمره، إذ علىٰ وُلُوجِه في الحقّ، واعتناقه لمبادئ الوحدانية التامّة لله ﷻ، واتخاذه معبودّاً بحقٍّ، لا شريك له في أمره، ولا منازع له في ملكه، بعكس عقيدة التثليث، التي تثبت لله ما نفاه عن نفسه ﷻ، وتشرك مع الله ما لا يليقُ بجلال وجهه، وعظيم سلطانه.. بعد كل هذا، أكان روائينا مسلماً؟ أم كان موحّداً لله فحسب، معترفاً بنبوّة الأنبياء والرسل علىٰ الجملة، بما فيهم صاحب الوسيلة والفضيلة مُحمّد بن عبد الله ﷺ، وروح الله وكلمته عيسىٰ بن مريم -عليه السلام-؟
أم إنّ الرجل إنْ أحبّ فِكْرَ آخرٍ، أحبّ أنْ يُدنيه من جماعته، وأنْ يدخله في قومه، وأن يجعله في أمّته، وأن يشهد له برأيٍّ يحبّه، -علىٰ رأي صاحبه يحتمل الأمرين-؟ أم هي حقيقةٌ أُخفيت لمكانة روائينا في قومه هو، وعِظم منزلته في أصحاب ديانته التي رُبّيَ عليها؟ علىٰ أننا حين نسمع سيرته نرىٰ رجلاً أحب ثقافة العرب، وروح الإسلام، وأخلاقهم ومبادئهم، وأحبّ نبيهم حتىٰ أفرد له كتاباً يُعدّد محاسنه، ويُبرز خصائله، ويُبيّن فضائله، إذ أن روائينا كما نعلم قد كتبَ كتابه: ‹حكم النبي مُحمّد ﷺ›!

لعلي أطنبتُ في مُقدمتي هذه، واعذروني يرحمكم الله، فإني محبٌّ لفكر الرجل، وأسأل الله أن يكون خبر إسلامه صحيحاً، فإن أسلم فليرحمه ربي، وإن لم يفعل فأمره إليه ﷻ. وديننا يأمنا بالقسط مع أهل الكتاب، ما لم يطغوا علينا ويبغوا، علىٰ أنني لا أوالي ولا أعادي إلا بالله ولله. فالله ﷻ أحبّ إليّ من نفسي، وما كنت لأُشرك أحداً غيره في أمرٍ أَمرَنيه. إنما هذا شيءٌ من خلجات النفس، والله أعلم بمكنونِ نفسي، وبما دار في خُلدي.
أما كتابه هذا، فإن ⟨روائينا⟩ قد أخذ موقف المستميت في محاربة أدعياء الفلسفة، وفي كيل التهم للفسلفة عموماً، ويونانيّها خصوصاً، لما جعل -ممن هاموا بالفلسفة وعلم الكلام- لأربابهم الفلاسفة هالاتٍ من التقديس والتعظيم؛ ازدروا به الأديان، واحتقروا أهل الأديان، وأتباع الأديان، وصوّروا أن المجتمعات إنما فسَدت بالدين، وأنه قد زُيّن للناس الحياة بأن الأصل فيها التعاسة، وأن خير المرء يكمُن في بذل الكرائم والفضائل فيها؛ علىٰ أن يُجزىٰ بها خيراً في آخرته= وهذه كما نعلم يُنكرها المُتفلسفة.
وإن من تحامل روائينا عليهم -وأنا معه- أن أهل الفلسفة قد احتكروا فهم الحياة لذاتهم، ونفوا منطقية فهم الأديان للحياة، إذ رأوا أن جُلّ أتباع الأديان فيهم من الجهل، ما نسبوه بذلك إلىٰ أصل الأديان. وكذا من تحامله عليهم؛ أن المُتفلسفة ما قدروا علىٰ أن يأتوا بمعنىًٰ يَطمئِن به المرء إليه= حول مفهوم السعادة، ومعنىٰ الحياة، والغاية منها. وكذا من هذا أنهم قد جعلوا السعادة إنما تكون بالفردانيّة، وحُبّ الأنا والذات، وتعظيم النفس وازدراء الآخرين، وتجاهل مشاعرهم، وأفراحهم وأتراحهم، والإنشغال بالملذّات عن مساعدة الناس، وتحصين النفس بغرورها وكِبرها، وطيشها وهيشها= مما ينتج مجتمعاً منغلقاً علىٰ نفسه، وأفراداً إن يُوضَعوا وسط الحروب والكوارث يكونوا في ما يُشبه غابةِ الحيوان؛ لا يردعهم ضميرٌ ولا حسٌّ ولا أخلاق.. وهذا كلّه نتاج الحداثة، والتقدّم المزعوم، والتطوّر الذي دُعي بأنه حضارة. نعم، هذا إن كانت تُقاس بعُمرانِ الأحجار دوناً عن عُمرانِ الأخلاق.

وما شدّ عيني، وأخذّ بلبّي، وأزهىٰ نظري قول ⟨روائينا⟩ في الفلاسفة إذ حصروا الحقيقة فيما لمسوا، ونفوا ما لم يعلموا: ❞يفهم المُبصر طبيعةَ ما يراه فيصفهُ، وأما الأعمىٰ فلا يعترف إلا بوجود ما يلمس بعصاه التي يتوكّأ عليها❝ صـ٣٩، ولعمري إني ليُخيّل إلي أن ⟨روائينا⟩ قد استوحىٰ ذاك لا ريب من قوله ﷻ: ﴿صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ﴾، فإنما العمىٰ ليس عمىٰ البصر، بل البصيرة. ورُبّ أعمىٰ يرىٰ ما لا يراه المُبصرُ.

وقد عزا ذلك ⟨روائينا⟩ إلىٰ أن الناس باتوا ينظرون إلىٰ الحياة كما ينظر أرباب التعليم الحديث، الذين استمدّوا نظرياتهم من المتفلسفة، إذ يقول: ❞إن حالة الانقسامِ التعيسة التي وصل إليها الناس عندما اكتشفوا في أنفسهم الوجدان الحسّاس، قد نَتَجت عن التعليم الفاسد الخاص بالحياة البشرية، القائل: بأنّها حياةٌ حيوانيةٌ؛ أولها الميلاد، وآخرها الممات. إن هذا التعليم قد رسخ في عقول الناس؛ لحدٍّ جعلها تقسو. فالإنسان الواقع في هذه الغلطة، يتصور أن حياته قد انشطرت إلىٰ قسمين.❝ صـ٥٥. وهذا مما جاء في حديث عظيمنا ﷺ: ‏‎”إذا مات ابن آدم؛ انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٌ جاريةٌ، أو علمٌ ينتفع به، أو ولدٌ صالحٌ يدعو له“. وهذا الحديث إن تبصر فيه ما ليس بظاهره، ترىٰ أن أثر تلك الأعمال يُبقي اسم المرء بعد مماته، أي أن الإنسان يخلُد ذكره وإن انقضىٰ أجله. يرشدنا ذلك إلىٰ حقيقة أن جعل الخير للناس واجبٌ لا مُراء فيه، فقد قال عظيمنا ﷺ أيضاً: ‏‎”إنْ قامتِ الساعةُ وفي يدِ أحدكُمْ فسيلةٌ، فإنِ استطاعَ أنْ لا تقومَ حتىٰ يغرِسها فليغرِسهَا“.

وحذا بي حينما قرأت أن أتفكّر في كل معقولٍ أورده روائينا، فأجده منقولاً عن عظيمنا ﷺ، ما نطق عن الهوىٰ بأبي هو وأمّي.


ومن ذلك أني حينما قرأت قول روائينا: ❞يمكن للإنسان أن يُحبّ حُبّاً حقيقياً، لا غِشّ فيه؛ متىٰ رفض سعادة شخصيتهِ الحيوانية. ولا يُحبّ الإنسان؛ إلا إذا فهِمَ أنّه يُحبّ ليس طمعاً في إسعاد شخصه. ومتىٰ فهِمَ ذلك وأحبّ؛ أصبحت حياته صالحةً لكل شيءٍ فيه، وبه بنيان أخلاق الإنسانية الراقية؛ لأنها تحوّلت كلها إلىٰ حُبٍّ، والحُبّ هو الكل في الكل، ومن وجدهُ فقد وجد الحياة.❝ صـ١٠٧. فحين قرأتُ هذا الكلام ذكرتُ قول عظيمنا بأبي هو وأمي ﷺ: ‏‎”لا يؤمِنُ أحدكُم حتىٰ يُحبَّ لأخيه ما يُحبُّ لنفسهِ“.
وأيضاً أن يزيدَ بن أسدٍ القسري قال له رسول الله ﷺ: ‏‎”أتُحبُّ الجنّةَ؟“، قلتُ: نعم، قال: ‏‎”فأحِبَّ لأخِيكَ ما تُحبُّ لنفسِكَ“.
وكذا قوله ﷺ حين سُئِل عن أفضل الإيمان: ‏‎”أفضلُ الإيمانِ أنْ تُحبَّ للِه، وَتُبغضَ في الله، وتُعمل لِسانكَ في ذكر اللهِ“ فقيل له: وماذا يا رسول الله؟ قال: ‏‎”وأن تُحبَّ للناسِ ما تُحبُّ لِنفسكَ، وتكرهَ لهُم ما تكرهُ لنفسكَ، وأنْ تقولَ خيراً أو تصمُتَ“.
ومن هذا قول عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-: إني لأمرّ علىٰ الآية من كتاب الله، فأودّ أن الناس كلهم يعلمون منها ما أعلم! ولما أراد محمد بن واسع -رحمه الله- أن يبيع حماراً له، قال له رجل: أترضاه لي؟ فرد عليه: لو لم أرضهُ لك؛ لم أبِعهُ.
وختام الختام، وفصل الكلام قوله ﷺ: ‏‎”أحبُّ الناسِ إلى اللهِ أنفعهُم للناس، و أحبُّ الأعمالِ إلىٰ اللهِ ﷻ؛ سرورٌ يدخلهُ علىٰ مسلمٍ، أو يكشفُ عنهُ كُرْبَةً، أو يقضي عنهُ دَيناً، أو تطرُدُ عنهُ جوعاً، ولَأن أمْشِي مع أَخٍ لي في حاجةٍ أحبُّ إليَّ من أنْ أعتكِفَ في هذا المسجدِ، -يعني مسجدَ المدينةِ- شهراً، ومنْ كفَّ غضبهُ سترَ اللهُ عورهُ، ومنْ كظَمَ غيظهُ، ولو شاء أنْ يُمضيَهُ أمضاهُ ملأَ اللهُ قلبهُ رجاءً يوم القيامةِ، ومنْ مشىٰ مع أخيهِ في حاجةٍ حتىٰ تتهيَّأ لهُ؛ أثبتَ اللهُ قدمهُ يوم تزُولُ الأقدامِ ،وإنّ سُوء الخُلُقِ يُفسدُ العملَ، كما يُفسدُ الخلُّ العسلَ“.

أحبرها أبو هاشم الأُمّي، في كوتاهيا، تركيـا
ضحىٰ ١٢ محرّم ٤٥م، الموافق ٣٠ تموز ٢٣م

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١