طفولته ١


 
في ليلةٍ قد شابَهُ فيها خوفٌ وانكماش، واعتراه من نوازع القلق الشيء الكثير، آوىٰ إلىٰ فراشه، وتوتره قد فاضَ فيه، وحُمّل منه في أواخر رَسَق الليل ألواناً من الأرَقِ والهمّ. وبينما تتصارع في نفسه تلك الهواجس، غَفَت عيناه وأُغمِضتا علىٰ صباحٍ يفيق فيه، ما عرفهُ من قبل.
كان ذلك في إحدىٰ صباحات خريف ٢٠٠٦م، في الكويت، علىٰ أنّ مُقيمها لن يخبر بتاتاً طقساً اسمه الخريف، ولا قبيله الربيع، كان هذان الفصلان يمُرّان علىٰ الناظرين مرور الكرام، وكقيقٌ عليّ أن أقول أني لا أحسب ذانك الفصلان من الكرام، فأي كرمٍ أن تمرّ دون مكوثٍ وقرار. علىٰ عكس الصيف والشتاء. وحتىٰ الشتاء ليس بتلك القسوة من البرد، أحسبه من الجمال ما جمع في بواطنه ثلاثة فصولٍ؛ ازدهار الورود، واصفرار الأوراق، ونعيم الأنساق، كلها في فصلٍ واحد، ومن قصره ما كان أخفّ ظلاً من الأنيس الجليس، الذي يملّ ولا يكلّ المرء من صحبته. أما الصيف، فما أشأْمَهُ علىٰ عين المرء، وما أثقله ظلاً، وأنكده وجهاً، وأنتنه مقاماً. إن المرء ليكون من أحلمِ الناس عقلاً، وأجلدَهُم نفساً، وأصبرَهُم علىٰ نفوس الخلق؛ حتىٰ يأتي الصيف بما حَمَل، فيكون لجميل الصفات راداً، ولخير الأخلاق صاداً. وأشقىٰ الناس من سعد فيه، وإني لأشكّ في صحة عقله. ولو جُعِل لي أمره؛ لما قبلت له شهادةً، ولا أخذت منه رأياً!
كان تلك الأيام مُحمّلةً بالحَرّ الشديد، ضاقت عليه حقيبته علىٰ خفتها، واشتدّ عليهه خناق ياقته علىٰ وُسعها. أُدمِل تارةً بالقيظ الصبيب، وأخرىٰ بذاك القلق. إذ سيُدخِله والده المدرسة. فلأول مرةٍ سيدخل المدرسة. وقد كان كثيراً ما أخذته الحماسةُ واللهفةُ لدخولها، ولَكثُر ما أشقىٰ والديه بإلحاحهِ عليهما تسجيله فيها. فحينَ حانَ الحينُ، واقترب الوعد الحق؛ انكمش وانهمش، وارتدّ إلىٰ بيته محتجّاً بوجعٍ في بطنه. علىٰ أن والده فهِمَ مغزىٰ كلامه، وعلِمَ أنها حيلةٌ يلتمس فيها الصّدود عن المدرسة. فلم يأبهُ له، وأخذ بيده، ووضعه في السيّارة، وانطلق إليها.
كانت اسمها: مدرسة أمّ القرىٰ¹، كانت لا تبعد عنه الكثير بالسيارة، "لحفةُ حجرٍ" كما يقال، لهذا كان مستاءً؛ أحبّ أن المسافة تطول، وأن الطريق يمتدّ إلىٰ ما شاء الله له أن يمتدّ. ولكنهما وصلا علىٰ أيّة حال. دخل وإياه المدرسة من بابها الأمامي، الذي يصل طولاً إلىٰ الإدارة. وهناك عرَضهُ علىٰ الآنسة، التي ستوصله إلىٰ فصله. كان قد ألمّ به الخوف أن يترك والده سريعاً. لهذا عزم أبوه علىٰ أن يوصله إلىٰ الفصل بنفسه. دخل الفصل، ثم وإذ فجأة تبتعد يد أبيه شيئاً فشيئاً، حتىٰ يفارقه، وهناك، ترىٰ العَبرات قد حُبِست بقشّةٍ علىٰ قفلٍ جفونه، وتلكم الرموش قد ابتلّت، وصارت دموعه حاجزاً يمنع الرؤية، تكونت ككراتٍ غبّشت نظره، فما عاد يُبصر جيداً. ربّتت يدٌ أخرىٰ علىٰ منكبه، وأمسكتَ أخرىٰ بساعده، وأخذت تسير به تجلسه في مقعده. وراح وقد أصغىٰ مسامعه، وشدّ انتباهه، وأطرقَ ملياً في قرارة نفسه حائراً، مستغرباً.. كل ذاك في آنٍ معاً.
ذاك الشعور بالوحدة، وضيمُ أن تلقىٰ نفسك لوحدك، لا أحد معك، إلا الله. لكنّك في طفولتك تلك أبعد ما تكون عن فهم الإيمان، وإدراك فكرة: أنّ الله معك، أن الله غيرُ تاركك، وأن لا معين لك إلا هو، ولا مواسٍ لحزنك إلا إياه، ولا لغربتك أنيساً إلا ذكره سبحانه وتعالىٰ. فكان في وحدتهِ تلك خائف أولاً، ولفقده في تلك اللحظة لأمه وأبيه خوفاً آخر، ولكثرة الوجوه الغريبة عليه خوفاً ثالثاّ، ولكل تلك المخاوف خوفاً رابعاً. خوفٌ علىٰ خوفٍ علىٰ خوف. مخاوفَ بعضها فوق بعض، إذا خرج له خوفٌ آخر لَمْ يكد يراه. قد امتلئ بمخاوفه تلك حدّه، وأخذ نصيبه وحبّة مسكٍ فوقها! وقد تكررت معه تلك الوحدة مِراراً وتكراراً، كان يسقط في ذات الشعور، حتىٰ اعتاده. وإن المرء إن اعتاد الشيء؛ تبلّد، وإن تبلّدت مشاعره، فلا تحسبن نفسك تخيفه بأُخر.
مرّت أياماً وأسابيعَ علىٰ ذلك، وهو قد اعتاد شيئااً فشيئاً، بل واستعاد همّته ونشاطه التي كانت فيه قبل إذعانه للمدرسة ونظامها السلطوي. وما خفّف عنه حمله، وأناخ به سعده؛ أنه عرَفَ أن تلكم الآنسة إنما هي جارةٌ لهم في سوريا. هناك في أرض حَوران. فهو من قرية أم ولد التي -لا تقع وإنما- تكون في غرب سهل حَوران، وعلىٰ جوارٍ منها تلقىٰ قرية الكرك الشرقي. وهي لمن لا يعلم، مسقط رأس صاحبكم، أي أنّه لم يولد في قريته الأم، إنما في الكرك الشرقي². يعني أنه ألفىٰ في المدرسة آنسة تحنو عليه، وهي فوق ذاك من نفس ناحيته، ومن قبيل طبعه، وشبيه عاداته، يا لَسَعده ويا لِفرحتهِ.
لم يدُم هذا طويلاً، فقد بان له بعدئذٍ أن والده عزم علىٰ السفر إلىٰ ألمانيا، سفرةُ عملٍ وشغل، لذاك قرر أن يُكِله إلىٰ رجلٍ يغدو ويروح به إلىٰ المدرسة والبيت. فذات صباحٍ، وقد رأىٰ أمّه توضّب حقيبةً كُبرىٰ، فسألها عن ذاك فأخبرته أن والده ذاهبٌ إلىٰ ألمانيا في عمل. وقد حسب أن ألمانيا تقع بجوار خيطان³، أو أنها بينها وبين الفروانية⁴. كان خائب الظن كما سيكون لاحقاً. وفي خضمّ ذلك أومأت إليه أن يستحم، وأن يلبس ثيابه، ريثما تجهّز له طعامه، وترتّب له جدوله الدراسي، كي ينزله أبوه إلىٰ الرجل، فيوصله إلىٰ المدرسة. نزل.. وحين نزل رأىٰ ما رآه.
وعلى هذا الموال تمضي الأيام.. نُكمل لاحقاً إن شاء الله.

أحـــــبَرَها  مُحمّـــد  الأُمّــي،  كوتاهيـــا،  تركيـــا
في ضحىٰ الخميس، ٢٧ تموز ٢٣م، ٩ محرم ٤٥ه‍
 ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
¹ مدرسة أم القرىٰ: ولعلّه مع اسم قريته: أم ولد، وقبل ذاك لقب نبيّه: الُأمّي، وبعده الاسم الجامع للمسلمين: الأُمّة= كان قرار تسمية صاحبكم نفسه وتلقيبها بالأُمي؛ عللاً لذاك.
² قرية الكرك الشرقي: وهي غير محافظة الكرك في الأردن، وإنا قريةٌ تتبع ناحية المسيفرة في محافظة درعا في سهل جوران جنوب سوريا.
³ خيطان: وهي منطقة تتبع إدارياً لمحافظة الفروانية في الكويت.
⁴ الفروانية: وهي محافظة تقع جنوب العاصمة في الكويت.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١