دعوىٰ الجاهلية



إن نتانة النفس البشرية تبلغُ ذروتها في العصبيّة الجاهلية، والحقد الأعمىٰ دون خلّةٍ بائنة يكرهها، أو عارضٍ أبغضه وتمنىٰ بُعاده. إنما الكره لأجل الكره، والحقد لأجل الحقد، والنفور والبغضاء لأجل سبب مجهولٍ، أو لربما وضع في عقله سبباً -علىٰ سلاكته وركاكته- إلا أنه له حجةً يُسند فكره بها. وإن تلكم المثلبة نابعةٌ من اثنين: الكِبر والجهل. فإن المرء يُزرع فيه منذ الصغر تقديس قومه، وتعظيمهم دون الأمم، وتنزيههم عن الخطايا والبلايا؛ فيصير إلىٰ حالة استصغار الغير، ووضعهم دون منازلهم في أدنىٰ الرُّتب، وتحقيرهم وتسفيلهم؛ وهذ أساسه من التربية والتعليم= كأن ينبت في بيئةٍ تبعث علىٰ استحقار الناس، وتوضيعهم، فيربّيانه أبويه علىٰ البغضاء، فيصير في أصل نفسه ومكنونها الكره لا المحبة، عندئذٍ تنهار العلاقاتية بين البشر، وتصبح أساس تعاملاتهم قائمةً علىٰ مصالح معيّنةٍ، دون وجودٍ لعلاقات المودّة والتراحم، وربما لا يكون تواصلهم إلا بحدّ السيف، وفتك الحسام، وشدّ القبضة بالقبضة؛ فيعدو بعضهم علىٰ بعضٍ، ويستبيح القوي منهم الضعيف= فحين إذن تتوالد البغضاءُ بينهم أضعافاً مضاعفةً، ويتوارثُ الأبناءُ الحقدَ عن الآباءِ منهم عن الأجداد. وثانيها: التعليم، فتقرير مصطلحات القومية، والشعور بالانتماء إلىٰ ثقافةٍ معيّنة، وتبجيلها، بل والغلو حتىٰ أن تجعل هي وحدها أصل الحضارات، ومنبع الهدايات، فيرىٰ الجاهل بانتمائه إلىٰ تلكم الثقافة شرفاً يذاته، ويصير لزاماً عليه ألا يقبل غيره في تلكم الثقافة، إذ يُرِد بهذا أن يستفرد بالشرف وحده دوناً عن غيره، وأن يختصّ به، فيُقسّم العالم إلىٰ ثلاث رُتب: الشرفاء، والأواسط، والوضعاء. فحتىٰ الأواسط من الناس يحيلهم إلىٰ الرتبة الدُنيا مع الوضعاء! لذاك أقرّ عظيمنا ﷺ رأيه في العنصريّة؛ العرقيّة من جهة، والقبليّة من أخرىٰ، والشرف في القبيلة الواحدة من طورٍ آخر، وذاك حين أقرّ أن: ‏‎”لا فضل لعربيٍّ علىٰ عجميٍّ، ولا لعجميٍّ علىٰ عربيٍّ، ولا لأبيض علىٰ أسود، ولا لأسود علىٰ أبيض؛ إلَّا بالتقوىٰ. الناسُ من آدمُ، وآدمُ من ترابٍ“، ومن ذلك ما رواه ابن هشام في سيرته الشهيرة، عن زيد بن أسلم -رضي الله عنه- قال: مرَّ شاس بن قيس -وكان شيخاً يهوديا قد بقي على جاهليته، عظيمَ الكفر، شديد الضغن الحقد علىٰ المسلمين شديد الحسد لهم- علىٰ نفرٍ من أصحاب رسول الله ﷺ من الأوس والخزرج في مجلسٍ قد جمعهم يتحدثون فيه، فغاظه ما رأىٰ من أُلفتِهم، وجماعتهم وصلاح ذات بينهم علىٰ الإسلام بعد الذي كان بينهم من العداوة في الجاهلية، فقال: قد اجتمع ملأ بني قَيْلة -الأوس والخزرج- بهذه البلاد، والله ما لنا معهم إذا اجتمع ملؤهم بها من قرار، فأمر فتىًٰ شاباً معه من يهود، فقال: اعمد إليهم، فاجلس معهم، ثم ذكّرهم يوم بُعاث وما كان قبله، وأنشدهم بعض ما كانوا قالوا فيه من الأشعار -وكان يوم بُعَاث قبل الهجرة بثلاث سنين يوماً اقتتلت فيه الأوس والخزرج، وكان الظفر فيه للأوس علىٰ الخزرج-؛ ففعل. فتكلم القوم عند ذلك، وتنازعوا، وتفاخروا حتىٰ تواثب رجلان من الحيّين: أوس بن قيظي أحد بني حارثة من الأوس، وجبار بن صخر أحد بني سلمة من الخزرج، فقال أحدهما لصاحبه: إن شئتم والله رددناها الآن جَذَعَة -حرباً-، وغضب الفريقان، وقالوا: قد فعلنا، السلاحَ السلاحَ، موعدكم الحَرَّة -مكانٌ في المدينة-، فخرجوا إليها، وانضمت الأوس بعضها إلىٰ بعض، والخزرج بعضها إلىٰ بعض علىٰ دعواهم التي كانوا عليها في الجاهلية. فبلغ ذلك رسولَ الله ﷺ، فخرج إليهم فيمن معه من المهاجرين من أصحابه حتىٰ جاءهم، فقال: ‏‎”يا معشر المسلمين! الله الله.. أبدعوىٰ الجاهلية وأنا بين أظهركم! بعد إذ هداكم الله إلىٰ الإسلام، وأكرمكم به، وقطع به عنكم أمر الجاهلية، واستنقذكم به من الكفر، وألّف به بينكم، ترجعون إلىٰ ما كنتم عليه كفاراً!“. وكذا من هذا قوله ﷺ: ‏‎”دعوها فإنها نتنة“

أما الأخرىٰ وهي الجهل؛ فالجهل سنام أمره تغييب العقل عن تباين الناس في الطّباع، وتنميط الخير والتقدّم في معانٍ اعتنقها هو وقومه، فصار مُعتبِطاّ إياها، ملزماً غيره بها، فإن يأبوا؛ ففد استحقوا بنظره تلك الدنيّة في الرتبة. إذ الحق مكنونٌ في فكره هو، يستعصي عليه فهم الاختلاف بين البشر، وأن الاختلاف رحمة، والتفارق نعمة: ﴿وكذلك جعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم﴾. فلو ملك من عقله شيئاً مما وهبه الله؛ لعلم أن الأصل في الناس تظاهر المرء عن الآخر بصفةٍ اختُصّ بها، ولو توحّد الناس في المأكل والمشرب والملبس، والطباع والأخلاق، واختير للنفوس هوىٰ واحداً؛ لبارت حياتهم وسلعهم، ولفسدت أخلاقهم تبعاً للاعتياد، فإن النفس ميّالةٌ للملل، محبّةٌ للتغيير. ألم ترىٰ تلك القبائل البدائية في غابات إفريقيا والأمازون، كيف إن يلقوا رجلاً غريباً عن جنسهم أحاطوه بهالةٍ من التعجّب والذهول، ذاك أنهم اعتادوا علىٰ بعضهم، وحسبوا أن الكون دائرٌ حولهم، وأن العالم هو قريتهم ولا قرىًٰ غيرها.

وشيءٌ آخر أختم به، اعلم يرحمك الله أن داعي الجاهلية والعنصرية والقومية إنما هو رجلٌ قد فرغُت حياته من نجاحٍ في عمله وعلمه، وخربت أخلاقه ونأت عن الصلاح. وإنّك لترىٰ العنصري فاشلٌ في علاقته مع أمّه وأبيه، وصاحبته وأخيه، وصديقه وبنيه، فتبصره يوجّه طاقته علىٰ غيرهم بعد أن فرغ منهم. إذ لربما أحبّ الشهرة، ولفْتَ الأنظار، واعتلاء المنابر؛ فلقي ذاك في الكره والضغينة.

أَحبَــرَها أبـو هـاشم مُحمّـد الأُمّـي. كوتاهـيا، تركيـا
في ضحىٰ السبت، ٢٢ تموز ٢٣م ، ٤ محرّم ٤٥ ه‍

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١