ليالي اثنينية: في صحبة العباس بن الأحنف ١
ما حسبتني قد تعصف بي الأيام حتىٰ أكتب في الشعر، أو دعني أقل أن أكتب ما جالت به نفسي حين قرأت الشعر، وأنا أزعُم أن الشعر لا يُقرأ؛ بل الواجب أن يُرىٰ، ولا أن يقاس الشعر بموازين قراءة المرء للنثر، فإنه مكانه ليس العقل، بل لعلّ منبعه الروح، ودعامة هذا؛ أن الشاعر ما يطغىٰ بعنفوان شعره، ولا تجود قريحته، ولا تجلو خواطره، ولا ينظم الأبيات الحِسان إلا بعد أن تفيض فيه المشاعرُ حدّاً تتساقط الكلمات دون تروٍ، حدّاً تثور معه قريحته الشعرية، والتي هي حتماً ما نبعت من العقل. وإني مع العباس في عالمٍ خاصٍ سعِدتُ به، وما رجوت أن أرىٰ شعره إلا أن أحيا بالعربية كما حيا من قبلي. وحسبك به -أي العباس- قد أجاد وأوفىٰ في مجاله حتىٰ برع فيه، وصار واحد زمانه، بل والأزمنة التي تلته إلىٰ يومنا هذا في باب الغزل والعشق، وقد قلتها وأقولها أخرىٰ: ”حُقّ علىٰ العذريين أن يفخروا بسيادة ابن الأحنف عليهم“!
وإن يسأل فلاناّ عن سر ذاك التشبيح، وطول ذاك التسحيج= فدونه ديوانه، ليفتحه، وليبصر أبيات شاعرنا، وليختر منه أنىٰ شاء، وليتلوه علىٰ غيره ممن لا خبر له باللغة، وليس باعٌ في العربية، ومن كان خطبه في امتحان الإعراب والنحو الصفر. وحين يفرُغ، فليسأله صاحبنا هذا عن ما عسر عليه فهمه، وقصر فيه شرحه، أرأىٰ ما يغمّه فيه، وهل أبصر ما لا يطرب المرء معه. لعمري لا أحسبه يجد، ولو وجد ما وجد فليعلم فلاناً أنه ليس بعربيٍّ بتاتاً! أما قصيدته هذه التي اخترتها لليلتنا الإثنينية الثالثة، فقد التمست فيه بيتاً منذ أن شريت الديوان، وبتُّ مساء وأصبحتُ صباحي وأنا أردّده، وأعيده إنشاده، حتىٰ حفظه صحبي يأسٍ مني؛ لكثرةِ ما سمعوه، وأخالهم حفظوه لجمال صورته، وحسن كلامه.. وربما لجمال إنشادي إياه! وهو:
قالت: قعدتَ فلم تنظُر! فقلت لها:شغلتِ قلبي؛ فلم أقدِر علىٰ النظرِ!
الله.. الله.. الله.. أما ترون حلاوة البيت، أعيدوا النظر إليه، ثم رَوْهُ ثالثة، ورابعة، وخامسة. أنا ما مللتهُ، ولا أحسبني أملّه أبداً!تخيلوا معي العباس يدخل مجلساً، وفيه فوز، وتروه يغض طرفه مرةً حياءً، وتارةً مداراةً لحبّه عن الحُسّاد والحقدة، وطوراً لما شغلت قلبه، حتىٰ نسي النظر إليها، أو كأنها ما التفت إليها إلا لأنه رآها في قلبه، علىٰ صورتها التي يكتفي بها عن واقع أمره. وكأنه فرط حبه بات الخيال والواقع جسداً واحداً، فما عاد يدري أفوز التي في قلبه، هي هي فوز التي أمامه. حتىٰ أن أعنت التي في قلبه عن مرآهُ، فصار في شغلٍ عنها.. وهو علىٰ كل هذا يعتذر له انشغاله عنه، ويحملّها هي بذاتها سبب تلك المشغلة. فهي الجاني والمجني عليها، وهي المذنب والبريء، وهي الخصم، وهي الحكم. دعني يا فلان أبدأ لك القصيدة من أوّلها. يقول شاعرنا:
عيناي شامت دمي والشؤمُ في النظرِبُعداً لعينٍ تبيعُ النومَ بالسهَرِ
يا من لظمآنَ يغشىٰ الماء قد منعوامنه الورود، وأبقوه علىٰ الصدَرِ
أُخفي الهوىٰ، وهو لا يخفىٰ علىٰ أحدٍإني لمُستَتِرٌ في غيرِ مُستَتَرِ
فأكثروا أو أقلّوا من ملامكِمُفكلّ ذلك محمولٌ علىٰ القدَرِ
تراه وقد شأمت عينه دمه لكثرة النظرِ، فيحمّله علىٰ الذي أضنكه البصر، فصارت عينه تلك التي أمتعته بالنظر، تؤرق عليه ليله فلا يلقىٰ من النوم نصيباً، ولا ينال من لذة إغماض الجفن ما يلقىٰ من لذة فتحه. وصار وإياه كظمآنٍ في وسط بيداء، وتحت قيظٍ لا ينفع مع من فرجٍ إلا شربة الماء، فتراهم يمنعوه عن تلكم الشربة. فصار الظمآن والساهر جلساء الألم، وأنساء الأسىٰ. وصار علىٰ إغماضه الجفن، وإقصاره النظر نحو الحِبّ غيرُ مُجْدٍ، ولا فيه نفعٌ، صار كما غُطي بغير لحافٍ، وتُدثّر بغير دثارٍ. فكيف يستُر المرء مع ظهر في اللواحظ، وما بان عليه من شقاء العشق، وتعاسة الوله. وكيف ينفع العذل والمُلام، وهو قد أُتي من حيث ما احتسب، وجيءَ به علىٰ غفلةٍ من أمره، حتىٰ عشعش الحب في نفسه، واستوطن قلبه، وملك عليه جسده؛ والمرض أن يستشري في الجسد، فلا دواء يشفيه!
ويكمل:
لو كان جدّي سعيداً لم يكن غرضاًقلبي لمن قلبه أقسىٰ من الحجرِ
إن أحسن الفعل لم يُضمر تعمُّدَهُوإن أساء تمادىٰ غير معتذرِ
وأخلفُ الناس موعوداً وأمطلهُم وعداًوأنقضُهُم للعهد ذي المِرَرِ
تراهُ يُعرّض فيها تماديها عليه، وتعاليها علىٰ أن تأتيه، وترفّعها عن مواصلته، وما لقىٰ منها الصدود والإساءة وهو علىٰ ذلك صابرٌ متجلّدٌ، لا ينفكُّ عنها، وإن أساءت جاءها هو معتذراً. وأن أقوىٰ من يحنثِ الوعود، وينقضُ الأيمان، ويخلّ بالمواثيق؛ المريرُ الجليد، وذي المِرر منه المرير، وهو: ما لطُف وطال واشتدّ فتلُه من الحِبال.
ويكمل:
إذا كتبتُ كتاباّ لم أجد ثقةً
يُنهي إليكِ ويأتي عنكِ بالخبَرِ
ما ضرّ أهلُكِ ألا ينظروا أبداً
ما دمتِ فيهم إلىٰ شمس ولا قمَرِ
إذا أردتُ سُلوّاً كان ناصركم
قلبي وما أنا من قلبي بمنتصِرِ
وما عاد يستأمن علىٰ ما بينهما أحداً، خشية التلاعب في كلامه، ومخافة تفشي أمرهما علىٰ ألسنة الناس، وهو يُتبعُ كلامه بالتغزّل بها؛ فالنظر إليها يُغني أهلها عن الشمس والقمر. وإذا أردتُ أن أسلوا عنكي، وأسهو أمركِ، وأنسىٰ حبّكِ؛ كان قلبي لكِ ناصرٌ ما ينسىٰ، ولن ينسىٰ. فأعظمه من ناصرٍ مُعين.
هل تذكرين -فدتكِ النفسُ- مجلسنا
يوم اللقاء فلم أنطِق من الحصرِ
لا أرفع الطرف حولي حين أرفعهُ
بُقيا عليكِ وكل الحزم في الحذَرِ
قالت: قعدتَ فلم تنظر؟ فقلتُ لها:
شغلتِ قلبي فلم أقدر علىٰ النظَرِ
غطىٰ هواكِ علىٰ قلبي فدلّههُ
والقلبُ أعظمُ سلطاناً من البصرِ
وحين جالسها، والناس حوله، فما أطرف إليها إلا بقدرِ اللحظة؛ ألا يفطن الناس لأمرهما، وهو علىٰ ذلك، ما نطقَ من عيّهِ في الكلام، هذا وهو الخطيب المفوّه، والشاعر الذي ذيع صيته، والذي يجالسه الملوك والأمراء، وما مكانته إلا في عليةِ القوم ودار الخلافة؛ صار محصور الكلام، عيّ البيان! فانظر يا فلان العشق وأمارته. وحين سألته عن صرف النظر إليها، وإطراقه إلىٰ غير وجهها؛ جعلها علة ذلك الأمر منه، أن شغلت قلبه عن ما حوله، حتىٰ عنها بنفسها! وقد غطىٰ هواه علىٰ صورتها، فاكتفىٰ بالشعور المرهف، ولذته عن الرؤية، ولو صار أعمىٰ لما فرق عن حال شيئاً!
وضعتُ خدي لأدنىٰ من يُطيف بكم
حتىٰ احتُقِرتُ وما مثلي يمحتقرِ
لا عارَ في الحبِّ إن الحبَّ مكرمةٌ
لكنّهُ رُبّما أزرىٰ بذي الخطَرِ
وفي آخر أمره، يصف سطوته تلك، وجبروته القائم بذاته، وقد انهارت دعائمه، وخرّ بنيانه، وتهدّمت أركانه، أمام مَن صرعت لبّه وهي أضعف خلقِ الله أركانا!
تعليقات
إرسال تعليق