اليوم الرّابع عشر: الفشل وشركاؤه
الأمر أعقد من أحدّثك عن الفشل، وأن أقول لك افعل ولا تفعل، وافهم ولا تفهم ذلك أني لربما أعيشه ولكن لم أتعرف عليه، وهو دأبي مع أشياء كثيرة، كالصداع مثلاً، لم أكن أعرف كيف يكون رغم أنّ في بعض الأحيان ينتابني شعورٌ كأنّ مخي قد صار يتخبّط علىٰ جوانب الحمجمة، وكذا الحرقة التي يزعمون أنها في المعدة، لم أصل إلىٰ نتيجة حتمية أتبيّن فيها شكلها وطريقتها. وعلّة جهلي به -أي الفشل- هو أنّني أتعامل مع الفشل بلونٍ مختلفٍ عما تعارف عليه الناس، لا أقول أن فلسفتي فيه لها وجه حقٍّ، ولكنني لا شكّ فيه أعتقدها إيماناً، لا مجرد كلماتٍ أَصُفُّها، أرىٰ أنّ الفشل يكون بحقٍ حين ينصرف المرء عن الإقدام دفعاً لحالة الهدوء الذي يعيشه، والرتابة التي يركن إليها، حين يكره المرء الخروج عن روتينه المعتاد، من منطقة الراحة تلك، إذ يستغني عن أي شيءٍ في سبيل متعته لا غير.
مازالتُ أجهل كيف يعتبرون الرسوب في الاختبار فشل! إذ لا أجد للاختبارات والدراسة المقلّبة في المدارس وحتىٰ الجامعات -في منطقتنا- أثراً هائلاً يصير الراسب في بعضها فاشلاً، ولا من يسعىٰ للمال والغنىٰ، ثم يقصر في بعضها، ولا من يخطّط لأمرٍ، أو يجهّز لمسألةٍ، ويبذل لها الأسباب والدوافع، ويعاين فيها الخير والمنافع، ثم لا يحسنها أنّه فشل! لا أحد لكلّ المعاني التي قولبها مجتمعنا، وجعل لها أساساً لا يحيد عنه أحد، ومن حاد فكأنما شذّ عن خارطة الطريق، وانحاز إلىٰ الفساد. وفي توصيف المجتمع للفشل، نجد أنهم عمّوا أنفسهم عن السعي، وجعلوا مادة توصيف الفشل منوطةٌ بالنتيجة. أي لا يهم مدىٰ سعيك وجهدك الَّذي بذلت، ولا المقدار العظيم من العنت الذي لقيت، ولا المصارف الَّتي تكلّفتها. بل يرجعون غاية منشودهم إلىٰ النتيجة، أأحسنت فيها أم أسأت؟ تخيّل ذلك بأنّ تحلّ المعادلة، باتباع خطواتٍ تفصيلية طويلة، حتَّىٰ أنها قاربت الصفحتين، ثم تصل إلىٰ خاتمة المعادلة، فتخطئ في الناتج، فيجعلونك فشلت، لا أخطأت. ولو توصّلت إلىٰ الناتج دون خطوات الحل التفصيلية بالتخمين والتوقّع؛ كان هذا عندهم نجاحاً وأي نجاح!
هذا النوع من التعامل مع الأسباب والنتائج من حيث ثنائية النجاح والفشل، لعلّها انصاغت علىٰ هذه الشاكلة تحت منظور: حتَّىٰ لا يقول الناس! فجعل المرء من الناس حكماً عليه، وصارت أقوالهم قواعد، وأحكامهم نافذة، وأراؤهم معصومة. فأصبح ليس الهدف ليس الانجاز بغيّة الانجاز لذاته، وحاجة النفس للنجاح حتَّىٰ تحقّق لذاتها شعوراً بالفرح والسرور، بل ألسنة النَّاس، ما قالوا وما عملوا. ولعلّ هذا التفكير هو فشلٌ بحدّ ذاته، إذ أنّك صرت فرداً معزولاً بنفسك وقرارك وإرادتك، وصرت منصاعاً للعوام، منطاعاً لهم، مؤتمراً بأمرهم، منتهياً بنهيهم، تجد قيمتك في مدحهم، وتخشىٰ ذمّهم. والحقيقة أنّ أحكامهم تلك بحكم غير المطلع علىٰ خطوات معادلتك، فلم يدركوا جهدك وسعيك، كلاعب الكرة في نهائي كأس العالم، يضيع الهدف وقد قدّم كل ما في وسعه طوال الهجمة، من استلامٍ وارتدادٍ، وتمريرٍ وتوجيه، ثم يصل إلىٰ المرمىٰ فيضيّعها، إما من الإرهاق، أو صوت الجمهور، أو ضغط الوقت، أو توتّر اللحظة، أو أنّ حذاءه ليس مناسباً، أو أن درجة الرياح عالية أو حتَّىٰ كونها نهائي كأس العالم. تضافرت أسبابٌ كثيرة، ولكن من الواضح أنّ اللاعب وقد ما صنع ووصل إلىٰ المرمىٰ فلعلّه يصل ثانيةً وثالثة ورابعة، فلا يقال له عند أول مرّةٍ فشلت، بل أخطأت، وعاود المحاولة. ثم إذا ما استنكف ذلك، وثُبِّطت نفسه عن القيام بها، حينها لربما ينطبق عليه الوصف.
أتفق، لكن الانصياع لرأي العوام لا يأتي دائما من اهتمام حقيقي لما يقولون. احيانا عندما يفقد الإنسان بوصلته، ويصبح لا يدري ما يجب فعله - وهو امر ليس بهين فالتوفيق أيضا رزق- يبدأ المرء بالاهتمام بمعايير النجاح التقليدي. من مبدأ ان لا يخسر كل شيء في آن واحد.
ردحذف