سياسة الاحتواء؛ مقايسة بين الانجليز والأمريكان
كانت ولازالت سياسة احتواء العدو حتَّىٰ يضعف شيئاً فشيئاً فتُجهز عليه أنجع طريقة في التعامل معه، ومقاربته علىٰ طول نفسٍ متباعدٍ، وبُعد نظرٍ، والنّظر إلىٰ المتغيّرات والمعادلات الإقليميّة، واستشعار التوازنات نصب الأعين، لا هزيمته هزيمةً مدمّرةً، أو محاصرته حصاراً خانقاً لا يفلتُ منه، فتثور ثائرته، يعود أقوىٰ بغيّة الثأر والانتقام، أو باعتماده الكلي علىٰ نفسه في تدبير أمره بعيداً عن سلطتك. وفي هذا المقام لعلّي أضرب أمثلةً متنوّعةً متباينة حول أنواعٍ من الدول ممّن علا ذكرها في السياسة والقوّة، فلقد رأيتُ في الآونة الأخيرة، أمثلةً من التاريخ يذهب فكر المرء من هول الفطنة التي تملّكتها بعض الدول والسلطات السابقة، وإن قُورنت بعالمنا الحالي، فإنّهم بحقٍّ، أسيادٌ وأباطرة.
ومن هنا أجد أن الولايات المتحدة الأمريكية بعنجهيّتها غلّابٌ فيها طابع الدحر والتدمير، غائبٌ عن حكوماتها المتتابعة المنهجية السياسية طويلة الأمد، سرىٰ في وصفها التصرف كعملاقٍ متوحّشٍ لا يبصر أمامه، فتراه يبعثر الأوراق، ويدعس من حوله، دون أي ينظر إلىٰ عواقب أيّ مسألةٍ، ودون أن يحسب تبعات بعض الخطىٰ التي يهمّه، فلا يلقي بالاً لتأثير أيّ قرارٍ علىٰ من حوله، وأراني أُرجع ذلك إلىٰ وصول من لا يعقل في السياسة والجغرافيا أي شيء، ولنا في مقابلة تاكر كارلسون إذ استضاف تيد كروز السناتور الأمريكي، حين سأله عن تعداد سكّان إيران، فوجد أنّه لا يعرف البتّة، ورغم ذلك يصرّح مع الصقور بضرورة مهاجمة إيران، ولا يلتفت بتاتاً إلىٰ العواقب المدمّرة علىٰ المنطقة، تماماً كما حصل في العراق، حين زعم جورج بوش الإبن أنّه قادم لينقذ الشعب العراقي من سطوة صدام حسين وحزب البعث العراقي، ولينشر الديموقراطية والحرية والعدالة، ثم وجدنا أنّ التدخّل الأمريكي واحتلاله للعراق نتج عنه دمارٌ تامٌّ في البنية التحتية، ثم حربٌ أهليّةٌ تسعّرت بين السّنّة والشّيعة، ثم فسادٌ في الحكومات المتعاقبة، وسرقة لخزائن الدولة، وتحوّل العراق من بلدٍ مكتفٍ ذاتيٍّ، إلىٰ بلدٍ من ضمن أكبر خمسة احتياطيّات نفط بالعالم ولكنّها تعتاش علىٰ الكهرباء من جارتها إيران. أضف إلىٰ ذلك تحوّل البلد إلىٰ مرتعٍ للميليشيات الشيعية العابرة للحدود، وانتشار تجارة السلاح والمخدرات، ثم ظهور داعش تحت وطأة ردة الفعل علىٰ الإرهاب الرافضي، وانتشار هذا الأثر إلىٰ كلّ أصقاع العالم، فقط لأنّ جورج بوش الإبن أراد أن ينزع صدام حسين، بدلاً -في أهون الأحوال- أن يدبّر انقلاباً عسكرياً علىٰ صدام يقوده بعض رجالات حزب البعث، كما فعلت دوماً بريطانيا، حينما رأت سيطرة محمد مصدّق رئيس الوزراء الإيراني المنتخب ديموقراطياً وشعبيّته وعلوّ كعبه في عهد الشاه محمد رضا بهلوي، وأنّه اتخذ قراراً بدعمٍ من البرلمان الإيراني بتأميم القطاع النفطي، فأوعزت بريطانيا بعملية التمهيد Operation Boot إلىٰ الجنرال فضل الله زاهدي سنة 1953م بالانقلاب علىٰ حكومة محمد مصدق، وعودة محمد رضا بهلوي ليمسك زمام الأمور هذه المرة بنفسه. سيّان الأمر قبل ذلك حينما أنزلت رشيد عالي الكيلاني بانقلابٍ، وأعادت نوري السعيد إلىٰ سدّة وزارته. كان هذا دأب السياسة الخارجية البريطانية، حتَّىٰ في تحرّكاتها لدعم بعض الأحزاب والفرق علىٰ بعضها، تتلمّس قربهم بأبهىٰ عبارات التبجيل والثناء، شيءٌ من هذا ما أرسله هنري مكماهون المفوّض السامي الانجليزي في مصر للشريف حسين بن علي شريف مكة:
"من السّير هنري مكماهون إلىٰ الشّريف حسين 30 أغسطس 1915م.
إلىٰ السيد الحُسين النسيب سلالة الأشراف وتاج الفخار وفرع الشّجرة المُحمديّة والدّوحة القرشية الأحمدية صاحب المقام الرفيع والمكانة السامية السيد بن السيد والشريف بن الشريف السيد الجليل المبجل دولتل الشريف حسين سيد الجميع أمير مكة المكرمة قبلة العالمين ومحط رجال المؤمنين الطائعين عمت بركته الناس أجمعين. بعد رفع رسوم وافر التحيات العاطرة والتسليمات القلبية الخالصة من كل شائبة، نعرض أن لنا الشرف بتقديم واجب الشكر لإظهاركم عاطفة الإخلاص وشرف الشعور والاحساسات نحو الإنجليز. وقد يسرنا علاوة على ذلك أن نعلم أن سيادتكم ورجالكم على رأي واحد وأن مصالح العرب هي نفس مصالح الإنجليز والعكس بالعكس. ولهذه النسبة فنحن نؤكد لكم أقوال فخامة اللورد كتشنر التي وصلت إلى سيادتكم عن يد علي أفندي وهي التي كان موضحا بها رغبتنا في استقلال بلاد العرب وسكانها مع استصوابنا للخلافة العربية عند إعلانها. وإنّا نصرّح هنا مرّةً أخرىٰ أن جلالة ملك بريطانيا العظمىٰ يرحّب باسترداد الخلافة إلىٰ يد عربيٍّ صميمٍ من فروع تلك الدّوحة النّبويّة المباركة."
بالله عليك، أما لو أرسلها لك أكنت ستقعد عن معاونتهم؟ لا أقول هذا تبريراً لانجرار الشريف حسين وراء عهودهم، وانخداعه بقرب الانجليزي ومعاونتهم له ضد الترقّيين. لكنّك ترىٰ بأمّ أعينك الفروقات الجمّة بينهم في سياستهم ومخادعتهم للشعوب، علىٰ النقيض من حال الفرنسيين والأمريكان. وقد علمنا أن الفرنسيون والأمريكيون لا يريدون احتلال بلدٍ وسرق خيراته فحسب، بل يتوقون لفرض أجنداتهم وأيدولوجياتهم علىٰ من يحتلوهم بفرض القوة، وفرط الغلبة، يستعينون علىٰ ذلك بقاعدة تأثّر المغلوب بالغالب كما عنون ذلك ابن خلدون في الفصل الثالث والعشرين من مقدمته الشهيرة بـ: «في أن المغلوب مولعٌ أبداً بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر عوائده» ويرجع ذلك إلىٰ أنّ «النفس أبداً تعتقد الكمال في من غلبها وانقادت إليه إما لنظره بالكمال بما وقر عندها من تعظيمه أو لما تغالط به من أن انقيادها ليس لغلب طبيعي إنما هو لكمال الغالب فإذا غالطت بذلك واتصل لها اعتقاداً فانتحلت جميع مذاهب الغالب وتشبهت به، وذلك هو الاقتداء أو لما تراه، والله أعلم، من أن غلب الغالب لها ليس بعصبية ولا قوة بأس، وإنما هو بما انتحلته من العوائد والمذاهب تغالط أيضاً بذلك عن الغلب وهذا راجع للأول، ولذلك ترى المغلوب يتشبه أبداً بالغالب في ملبسه ومركبه وسلاحه في اتخاذها وأشكالها بل وفي سائر أحواله». ثم إن تحكّم السياسيّين الشعبويّين في ميدان الحكم في الدولتين المذكورتين غلّابٌ لشعورهم بالتفوق الفطري، وباعتقادهم أنهم وصلوا كمالاً حضارياً، وهم بذلك مُرسلين من قبل الرب -حتىٰ لو علا فيهم جانب الإلحاد والتعلمن- لإخراج العباد من ظلمة جهلهم إلىٰ نور حضارتهم. وهذا أبعد الأمور عن الانجليز، الَّذين تراهم مشغولين في تفرقة الشعوب، ووضع الحزازات والحدود بهدوءٍ واستكانة أرقّ من صوت ارتطام الريشة علىٰ الأرض.
إذ ترىٰ بريطانيا تحتوي فرنسا بُعيد إنزال نابليون عن عرشه 1815م لجعل حالة توازن مع الدولتين الألمانيّتين اللّتان اتحدتا فيما بعد 1871م، والدولة العثمانية وذلك بدعمها لإنشاء حالة توازن إقليمي مع روسيا القيصرية في حرب القرم 1853-1856م، في نفس الوقت الذي تمدّ فيه الامبراطورية اليابانية بالسلاح والعتاد في حربها معها سنة 1904-1905م. هذه الحالة من التوازنات الإقليمية برع فيها الانجليز أيما براعة، أزعمُ أن لو غيرها من الدول المشهورة باعتمادها سلاح القوة علىٰ الملاينة والمفاوضات، لرأيت حرباً عالمية كل سنتين.
وننزل هذا علىٰ الحالة الإيرانية، وطريقة التعامل الأمريكي معها. إذ نجد أنّه بسبب الحالة السياسية الأمريكية، بعدم استمرار كل حزبٍ لثلاث دوراتٍ رئاسية علىٰ الأقل، يتولّد عن هذا اختلاف السياسة الخارجية الأمريكية كل دورة، بل حتَّىٰ صار كل سنة أو حتَّىٰ شهر مع فترة رئاسة دونالد ترامب الثانية الَّتي بدأت هذا العام 2025م وتنتهي بعد 4 سنين. ولك أن تبصر كيف دافع ترامب في برنامجه الانتخابي عن ضرورة السلام، وأهمية المفاوضات، وترك الحروب، وعن نيته في وقف حرب غزة، وحرب أوكرانيا، والمهادنة مع كوريا الشمالية، والاتفاق مع الصين وروسيا، وانتقاده لجورج بوش الابن احتلاله العراق بحجّة أسلحة الدمار الشامل، ودخوله معمة أفغانستان، ثم انتقاده أوباما لاسقاطه القذافي في ليبيا، ودخوله سوريا، واتفاقية البرنامج النووي مع إيران، وغير ذلك من الانتقادات الَّتي تخصّ الحروب، وغير ذلك من الوعود بإنهاء تلك الحالات. لكنّنا نجده رغم ذلك يُكذّب تصريحات مديرة الاستخبارات الوطنية الأمريكية تولسي غابارد التي أشارت في شهادتها أمام الكونغرس الأمريكي إلىٰ أنّ تقييمات أجهزة الاستخبارات الأميركية لا تزال تشير إلىٰ أن طهران لا تعمل علىٰ تطوير رأس نووي. وقال أنها أخطأت! تخيّل أن رئيس أكبر دولة بالعالم لا يأخذ حتَّىٰ بتحقيقات وتقييمات استخباراته الوطنية، فممن يأخذ إذن! ويجادل بضرورة فرض السلم بعد استخدام القوة، ثم يريد بعد ذلك أن يتحصّل علىٰ جائزة نوبل للسلام، وذلك في تلميحاته المستمرة في بيانه أن وزير خارجيته مارك روبيو نسّق معاهدة بين رواندا والكونغو بعد حروبهما ومناوشاتهما المستمرة:
"لن أحصل علىٰ جائزة نوبل للسلام عن ذلك، ولن أحصل على جائزة نوبل للسلام لوقف الحرب بين الهند وباكستان، ولن أحصل على جائزة نوبل للسلام لوقف الحرب بين صربيا وكوسوفو، لن أحصل على جائزة نوبل للسلام على هذه الخطوة، ولن أحصل على جائزة نوبل للسلام على وقف الحرب بين الهند وباكستان، ولن أحصل على جائزة نوبل للسلام على وقف الحرب بين صربيا وكوسوفو، ولن أحصل على جائزة نوبل للسلام على الحفاظ على السلام بين مصر وإثيوبيا (سد إثيوبي ضخم تم بناؤه، بتمويل غبي من الولايات المتحدة الأمريكية، يقلل بشكل كبير من المياه المتدفقة إلى نهر النيل)، ولن أحصل على جائزة نوبل للسلام على القيام ببتشجيع عقد اتفاقات إبراهيم في الشرق الأوسط والتي، إذا سارت الأمور على ما يرام، ستوقعها دول إضافية، وستوحد الشرق الأوسط لأول مرة في التاريخ، لا، لن أحصل على جائزة نوبل للسلام بغض النظر عما أفعله، بما في ذلك روسيا/أوكرانيا، وإسرائيل/إيران، مهما كانت تلك النتائج، لكن الناس يعرفون، وهذا كل ما يهمني!"
هذه الشعبوية في الخطاب، والتي سرت في مفاصل الدولة الأمريكية الجديدية، لاسيما في الحزب الجمهوري الَّذي يتبنىٰ الخطاب المتطرف، والمتعالي، والداعي إلىٰ تقوقع أمريكا علىٰ نفسها، وفي نفس الوقت حماية إسرائيل، ومدّ السبل والطرق لها في هيمنتها على المنطقة، والترويج للخطابات العنصرية، وبث الدعوة الصهيونية في كلّ بقعةٍ، وتحدّي دول العالم في فرض رؤآها ولو كانت جالبةً للشرور والفساد. سياسةٌ كهذا سيكون معها الاستغراب لو لم تنتهي فترة ترامب بحربٍ عالمية طاحنة.
تعليقات
إرسال تعليق