اليوم التّاسع: صديقي الذي ما خذلني



لعلّه من المضحك بعض الشيء حين أعنون الخاطرة بهذا الشكل، ثم يتبادر إلى الذهن أنني سأتحدّث عن شخصٍ بعينه، وألقي عليه عبارات الامتنان والتبجيل على ما أثّر فيّ، فإذا بي أقصد بالصديق الكتاب. بهذا أقتدي لربما بقول المتنبي:
وخير صديقٍ في الأنام كتاب

إذ أني تفكّرت بكل شخص أطلقتُ عليه يوماً ما مفردة صديق، أو مشتقّاتها من البتروصديقيّات والأصحاب والرفقاء التشاركيّين والمكافحين، وبكل تفصيلةٍ عشتها معهم، بكافة المتع والمغامرات التي قضيناها، وبكل المعاني التي وجدتها في نفسي بقربي معهم، وبما أحرزوه في داخلي، بخيره وشره، سيّئه وحسنه، منافعه ومضارّه، وبما أورثوه في من عاداتٍ ومعايشاتٍ زرعوها في طبعي وفي جبلّتي، وبالأخلاق التي وطّنوني على بعضها، وصرفوا منها شيئاً، تفكّرت في كل ذلك؛ فرأيت ما منهم من أحدٍ بلغ مني مبلغاً أشهد له بعظيم الأثر، وجزيل الأمارات. وقد يزعم قائلٌ أنّ هذا على سبيل الكِبر واغترار النفس ببعض ما وهبه الله، وأنّ التواضع الذي يدّعيه فيه نظرٌ لا يغفله عاقلٌ متبصّرٌ فطن، وأن من التّخلّق الحسن ممّا شهدنا عليه في أخبار من سبق من الأسلاف العظام أن يعرف المرء لغيره حقّه.

وهذا لعمري صوابٌ لا لبس فيه لو كان في محلّهن وإن العرب كانت تقول في الصداقة والصحبة: مستحيلات العرب ثلاث؛ الغول والعنقاء والخل الوفي. وعلى أنّي لا أحب أن أتوسع في مضمار هذه المعاني حول الصداقة، فحسبك أن تعلم أني أجد المرء أهلاً لذلك المعنى إذا ما وضع في نفس صاحبه خلّةً غير التي يعهدها. وما وجدتُ عن نفسي من زرع فيّ خصلةً أذكرها.. اللهمّ إلا الكتاب! حقٌّ ما أقول وأقصده بكل ما يحمل مضمون اعترافي من الغاية. وقد عرفت سابقاً أن الشعر في غالبه المبالغة والمزايدة. وأن الشاعر يغلب عليه الغلو في مسألة ليوصل لك أدنى ما يريد من المعاني الرائقة، بأجل ما يمكن من الألفاظ البرّاقة. بريب أنّ هذا البيت للمتنبّي عن الكتاب، فيه شيءٌ غير معتاد، يستشعره المرء وقد أمضىٰ سنين من عمره وأيام متتابعات بين أحضان الكتب، وأرفف القماطر، ما وجد فيها تعريف الصديق الحقيقي، الذي غيّر من المرء وقلَبَه، ووسّع من مداركه، وأحال عليه من المعارف وقت فرحه، ومن التسالي وقت ترحه، ومن المتعة زمن ملله، والحماسة عنده جدّه، والمنشّط حين يأسه، والمقفي يوم أمله. 

ثم الكتاب ما كان متقلّب المزاج، متكدّر الخاطر ساعةً، وسعيده ساعة، بل سمّاعٌ لك لآلاماك لما فيه من العِبر، بوّاحٌ لك بما في خلده من الحكم، رجّاعٌ لنفسك أن خفت بريقها بما حواه من الآمال المشرقة والقصص المزهية. وإنّه الَّذي جعل فيك الخصال الحميدة من هدوء البال، وسعة البال، وراحة النفس، بل وحتىٰ الزّهد بالأمور علىٰ اختلافها أطيافها، والطمع بالقراءة كلّها علىٰ تمايز أشتالها. فأذكرني يوم شرعتُ أقرأ بمنهجيّةٍ في القراءة، استدراكاً لأيامٍ كانت فارغةً وكنتُ فيها فارغاً، وما عجنت نفسي بما يشفي غليل المرء من المعارف بلقيا الناس والأصحاب، كان الكتاب فقط من وطّد فيّ تلك الروح السامية، الروح التي تستجد في طلب العلا بكلّ ما قدر، وبنيل أوطار النفس من مناهل العلوم والحكم، واستجلاب الأخلاق الحميدة المجزية للطبائع التي وُجِدَ الإنسان ليقتفيها، ويتخلّق بها، فيمتاز عن حياة البهائم. فيجعله الكتاب بعدئذٍ، وقد أُشير إليه بالبنان، ولو عقلوا أنّها استسقىٰ مكانته منه، لنازعوه إياه، ولكنّ البشر تأنف الآجل الطالع، وتميل إلىٰ العاجل اللّامع.


تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١