اليوم الثّامن: الخوف، ومغالبته
كان السؤال الَّذي دائماً ما حار في ذهني عن الخوف وأحواله ودرجاته، وهل شعور الرّجل به هو نقصانٌ في رجولته، وقدحٌ فيه وذمٌّ لمكانته؟ قد علمنا أنّ مناط شجاعة المرء مغالبته للخوف ساعة أن يقدم عليه، كقول العرب: «إنّما الشّجاعة صبر ساعة». وحين يغلبه الخوف يُحال في الوصف إلىٰ الجُبن، الَّذي هو نقيضه. فحتّىٰ مجرّد الاعتراف المرء لنفسه، وحديثه في سرّه الَّذي لا يطّلع عليه غير ربّه، عن مخاوفه هو نوعٌ من الأسيلة المؤرقة لذهني. فلطالما وجدتني أكابر علىٰ نفسي أن أعترف بخوفي من شيءٍ ما، أتهيّب حتَّىٰ الاعتراف، وأن أسقط في عين نفسي ذاتها، وقد أرىٰ وقد تبعتُ قول جبران: «وعظتني نفسي؛ فعلّمتني ألَّا أطربَ لمديحٍ، ولا أجزعَ لمذمّةٍ» أنّ النّفس هي القاضي الذي أنصاعُ لحكمه، وهي الميزان الَّتي أزنُ فيها الطّبائع الَّتي أتخلّقها؛ حسنها من وجه المروءة وسيئها. وليس دوماً باعثُ الدّين ميزانٌ في كلّ الأخلاق، فنعم قد حثّ علىٰ البر والمكارم والمروءات، ولكن أخبرني هل يجب علىٰ المرء أن يكون شجاعاً؟ مثلاً أن يهرب المرء من رجلٍ مجنون، هل هذا جُبن؟ أن يتهيّب المرء صعود المرتفعات، هل هذا جُبن؟ أن يخشىٰ الموت، هل هٰذا جُبن؟ أن ينأىٰ المرء بنفسه عن الإشكالات الفلسفية مخافة أن ينجرّ إلىٰ الإلحاد، هل هذا جُبن؟ أن يكمكر الأب علىٰ ابنه يخرج إلىٰ غير بلدٍ للدراسة، هل هذا جُبن؟ أن يشاهد المرء فيلماً من أفلام الرّعب، هل هذا جُبن؟ أن تخاف الفتاة من القطة، هل هذا جُبن؟ وكيف هي الشجاعة في ذاتها؟ وما المقدار الَّذي ينتفي معه وصف امرئ بالشجاعة أو الجُبن؟
كنتُ وما زلتُ أرىٰ أنّ بعض الأخلاق فضفافةً، وحدودها وهميّة، تتداخل المفردة ونقيضها وأوسطها بعضها، فما الحد الفاصل بين البخل والاقتصاد، والجود والإسراف؟ وما الحاجز بين الحِلم والمهانة، والغضب والأنفة، والحزم والشّدة؟ وكذا ما الخط بين الشّجاعة والتّهور، والجُبن والحذر؟ والنَّاس في ذلك تضع حساباتها وفق مجتمعاتها، وتحت سياقاتٍ نفسية وروحية مختلفة، كلٌّ يرىٰ الأمر بعين طبعه الَّذي تخلّقه وورثه عن أبيه فجدّه. ولعلّ ما مُدِح فيك يُذمُّ في غيرك. فغلو المرأء في حيائه محمود، وفي كلّ الرّجل إن طغت ذُمّت. وكرم الرجال مطلوبٌ ومرغوب، وعند النسوة مكروه متروك.. ومن دواليك هذا أمثالٌ وصروف.
والخوف.. لعلّي لا أُفصح عنها، كيف وهل يضع المرء عنقه بين النَّاس، فيتشبّثون في نقطة ضعفه الَّتي بيّنها، عوضاً عن إخفائها ودحرها، واستبدال ونقيضها بها. ولكنّي أشعر أنّ هناك مخاوف أجمعت عليه النَّاس، وتواروا خلف ذلك الخوف، بل وتنسوها أحياناً: فالموت واحد. فحقيقة أنّك تتخيّل نفسك لم تكن شيئاً، ثم جاءت اللّحظة الَّتي نُفِخت فيك الرّوح، وصرت جسداً، من لحمٍ ودم، ثم تنقلب في فناءٍ دنيويٍّ أمدي، إلىٰ عيش أخرويٍ أبدي، ألا يُثير فيك الخوف؟ الخوف من الموت، والخوف من العيش الأبدي. والخوف أن تمُت قبل أن تُدرك مسعاك، وأنت الذي تضع الخطط والاستراتيجيّات، وتحبّ أن تكون في موضعٍ تُمضي هٰذه الاستراتيجيّة علىٰ القدر المأمول.. ثم قبل ذلك تموت! والخوف من ساحات الوغىٰ. نعم، نحبّ الجهاد، ولكن هل فكّرت يوماً أنّك تثبُت وسط المعارك، ولا تتولّىٰ يوم الزّحف؟ وتصمد في خضمّ اعتراك البارود، واشتداد قيظ القصف والتدمير، واحترار الأنفس من لهيب الصّواريخ؟ أتراك تصمد؟ والخوف من الحور بعد الكور، وأن تكون علىٰ الإسلام ثم تعتركك الفتن والأهواء، ونوازل النفس إذا ركنت إلىٰ متعها وشهواتها عن دينها ومعتقدها الَّذي فُطِرت عليه، ألا تشعر بالخوف؟ والخوف من أن تفشل، وأنت ترىٰ غيرك قد صنع خيراً منك، ومهما بلغت في نفسك من الجهد والمدارسة والسّعي أنّك قاصرٌ عن الإتيان بمثل ما أُتيَ به، وتشعر أن جهدك الَّذي بذلته ستّ سنين ما زال غير لائق في عينك، ثم مخافة أن لا يكون مرضياً في عين من تحب، ألا تشعر بالخوف؟ ألا تشعر بالخوف من المستقبل، فلا يتحقّق ما تصبو إليه وتسعىٰ، ولا تبلغ شأوك الَّذي منيّته، وإدراكك الَّذي نصبته لنفسك رتبةً فتجد أنّك إن لم تصله هُنتَ في نظرك، وبخُس ثمنك، وفسدت بضاعة ذاتك، ألا تشعر بالخوف؟
المخاوف كثيرة، بعضها فيها من المنطق ما لا يُذمُّ معه المرء، بل أجده دافعاً لأن يستقوي به علىٰ مضانِّ الحياة وأوكارها. والمرء تشقيه إلَّا نفسه، ولعلّ السّعي إلىٰ الكمال الَّذي يتظافر النَّاس فيه هو ما يُشقيه. وهذا علىٰ شقائه، خيرٌ ممّن أوصد علىٰ نفسه باب السّعي من أساسه، وركن إلىٰ حياةٍ كحياة تريليوناتٍ من البشر سبقوه وما عرفهم النَّاس.

تعليقات
إرسال تعليق