اليوم الرابع: الشخص الذي غير مجرى حياتك
أسرد لك الكثير منهم إن شئت أن أسرد، ممّن لقيت منهم في الشوارع والحارات، ومن حاورتهم بحديثٍ أخذ منّي شيئاً، واجتزأ من بعضي حالاً أزعم أنه بقي فيّ طويلاً. لكنّني أعلم علم اليقين ممّا وعيته في سنين عمري التي خلت، وممّا أمضيته بين ورقات الكتب، وفهمته من أقوال من سبقت فيهم التجارب، واختمرت في عقولهم الأفهام الجلية الوضّاحة: أن التأثير لا يُقاس بما يُحاط حول المادّيّات من شواغل الدنيا وصوارف النّفس، إنّما بما أُحدث في الروح من عوالق الإيمان، ومِن اشتعالها بحماسة الدين، ومحادثة النفس بالجهاد ونصرة الأمّة. وأنّ الدنيا إن طرقت بابك بكلّ متعها، وبزينتها التي أغوت الكثير والكثير من بني البشر، وحالت بيننا وبين التي عرضها السماوات والأرض، وأغوت من سعة باله من عرفنا، ومن زهدت نفسه بالأمور، ومن ظنّ بعلمه، وسعة فقهه قد نجى، ومن استأسد على الأمم بكلماته وحروفه، وزمجر بأعلى صوته، يخفق بارق وجهه حتى يُرى فيُشار له بالبنان، ثم حين يؤذّن داعي الجهاد وحيّ عليه يا عباد الله؛ نكص على عقبيه.. فكيف يؤثّر بالمرء شخصٌ ويغيّر مجرى حياته؟ حتى لكأنّه بدّاه على نفسه يقدّمه، ويعليه مكانةً حتى أنكر عليه أعزّ الناس، وجهر بذلك قبل سنين، واستهجنه البعيد والقريب، أفلا أخبرتنا يا إمامنا؟
يا إمامنا، إنّ الناس ما عاد تدرك صديقها من عدوّها، وما عادت هذه الأمّة التي تتغنّى بمجّادها وأبطالها، وصناديدها وأفذاذها، وشجعانها وآسادها لتسعد بقصصهم التي لعلّهم يروونها على الأسرّة لأبناءهم، لا بالخير الذي يُحمد، بل بالشرّ الذي يُنبذ. بل وامتهنت الطعن بهم، واقتبست ترّهات الغرب، وأعلتها، وصارت تصم الذي باع نفسه وماله لله، لإعزاز دين الله، وإعلاء كلمة الله، ورفعة هذه الأمّة التي هي كغثاء السّيل، تصمه بالإرهاب، وتلاحقه في أصقاع الأرض وتضيّق عليه وأهله، ويخشى واحدهم الذي يعلّق صور تشي جيفارا وكاسترو أن يتلفّظ اسمه خشية الغرب أن يغضب، فإن المناضل عندهم من لبس القبعة، فإن نزعها واعتمّ العمامة؛ استوحشت أعينهم مرآه، وأنفت أسماعه ذكره، ونفوسهم شأنه. وصار مثال الشرور جنباً إلى جنبٍ مع هتلر وموسوليني وستالين، يُشار إليه بأصابع الاتّهام، وكأنّه لا يكفي خذلانهم حتى أرادوا الإمعان في المذلّة والمهانة!
يا إمامنا، لم يكفهم ذلك، بل شاءت لهم نفوسهم أن يقولوا: ما توحّش الغرب، وما احتلّت أمريكا أفغانستان والعراق إلا بسبب فعلته، وما أوداه على أمّتنا من دمارٍ وانتشار الإسلاموفوبيا! وكأن الغرب يحتاج مع ما يفعل إلى حجّةٍ يحتجّ بها ليهدم ويدمّر، ويضرب ويشرّد، ويغتصب ويقتل. وصار الذي يدافع عن إخوانه، فينتقم من طاغوت العصر الذي ما اكتفت بالإمعان بالقتل حتى هوت التنكيل، وارتأت نشر الرذائل. وما صارت هي الملام وقد فعلت في العراق قبل أن تأخذ غزوتك حجّةً لاحتلاله الأفاعيل. وما اكتفت في أفغانستان إلا أن تهلكها بالقذائف حتى قبل أن تحتلّها بمعيّة الناتو ومباركة العرب. وما تركت السودان لوحده يتجرّع الفقر بمفرده، حتى حلي في نفسها أن تذيق أهلها بعض ويلات الدمار. وعلى خطوطٍ متوازية، تمدّ يد السّلام للرّوس يستبيحون الشيشان، وللهندوس يقضمون كشمير، ولليهود يتفرّسون فلسطين، وللأنظمة الخؤونة تستعبد الأمة.. ثم تبيت أنت علّة هذا التدمير يا إمامنا تخيّل! تخيّل يا إمامنا تخيّل!
فأنبئني بحق الله.. ما الداعي لك وأنت ابن عزٍّ وغنى، أن تترك ما أنت فيه، وترتحل إلى فلاة مكفهرّة، وصحارٍ مستعرّة، وجبالٍ مزمهرّة، وتودي بنفسك المهالك، وبأموالك وبساتينك وأراضيك وضياعك تبيعها لقاء سلاحٍ وعتاد؟ ما الداعي لأن تحتمل كلّ تلك الصّعاب، وتترك ما كنت فيه من رغد العيش، وهناء المأكل والمشرب والملبس والمنام؟ ولكان ليكفيك لو اكتفيت ببعض أموالك ترسلها بين الفينة والأخرى، فترفع عنك بها بعض الحرج الذي لربما تلقاه من بعض الوجوه الذي تعذلك لثراءك وتقصيرك عن البذل. فتصير إذ بذلت بعضه أجود الناس إيثاراً، وأكرمهم جهاداً، وأشجعهم إقداماً. وأنبئني يا إمامنا، ما الداعي لأن تثأر من عدوّنا لشهدائنا وجرحانا ومكلومينا، وما لك ولليتامى تنتقم لآبائهم، والثكالى ﻷبنائهم، والأرامل ﻷزواجهم؟ ما لك وإياهم، أما كان الأخير لو أدرت لعدوّك خدّك الأيمن إذ ضرب اﻷيسر؟ ولو أنّك أصدرت بيانات التنديد، والشجب والاستنكار، وتوعّدتهم بسيف الله وأسد الله، وبعقاب الذي سيأتي لا ريب في الآخرة، ثم تستكين إلى فراشك وقد أخذتك الحميّة لدقيقتين، ثم انطفأت إلى متع الدنيا قد التفتّ..
يا إمامنا، يا شيخنا، يا أسامة، إن كانت حياتك ما أثّرت فيّ فمن عساه يفعل؟
رحمه الله وأسكنه بديع جنانه، وبارك ونفع بك
ردحذف