اليوم الثّالث: أصعب قرار اتّخذتُه

 

الأمر أحبّ تعريفه علىٰ نحو ما أجده في كتب الأدب، وفي الواقع، إذ إنّي مولعٌ بالكتب والقراءة، أجدني ميّال أكثر إلىٰ بيان أيّ حالٍ في نفسي من جانب الأدب وآثار العرب علىٰ وجه التّحديد. وممّا وعيته فيها: الأمر أشبه بأن تكون بين خيارين أحلاهما مر. لكنّك تمضي فيه علىٰ أيّة حال. فلستَ مخيّراً في ترك الأمرّين، وأنت محكومٌ علىٰ التّرجيح بينهما وفق مقتضيات الحال، وحساب عوامل النّفع فيها والضّرر، ولعلّ بعض الضّرر الّذي تظنّه مفتاح باطنه خيرٌ تجهله، والأيّام كفيلةٌ ببيان ذلك وإجلائه:
ستبدي لك الأيّام ما كنتَ جاهلاً
وتأتيك بالأخبارِ من لم تزوّدِ

وقد تذكّرتني يوم رماني الدّهر بالأرزاء، وخيّرت غير مُتركِ بين اغترابٍ فيها من لوعة فراق الأهل، والبُعد عن الأم والأب، والأخت والأخ، وتحمّل مضّان الحياة بعيشة الأعزب الَّذي لا أهل له، إذ كأنّك قد استخلصت زرعةً من أرضها، واشتللت جدورها من ترابها، وأنا الَّذي عشتُ دوماً تحت كنفي والداي، فما أستفيق إلَّا علىٰ صوت أحدهما يوقظانني للفجر وللمدرسة أو العمل، ولا أعود إلَّا وقد رأيتُ الطّعام علىٰ السّفرة قد أنضجته أمّي بما تصنعه من غذاءٍ ما تدري أهو للعين أشبع أم للمعدة! ولا أسير إلىٰ عزيمةٍ أو فرحٍ إلَّا وكنتُ حذاء أبي يُسايرني ويجاذبني بالنّقاشات وحواشي الموضوعات، ويلقي عليّ من حكمٍ اختمرها سنين عدّةً. ولا لعبت الكرة أو الغميضة إلَّا وإخوتي يرافقوني فيها بأجزل ما عليّ من لحظات السّعادة.

هٰذا ممّا علىٰ الاغتراب الَّذي لازمني من الشّرّ، أمّا خيره إن ضنّينا علىٰ الحقّ إلَّا أن يُنطق، فقد ترآىٰ لي عظم الشّأن الَّذي أصبو إليه كما يرومه ابن حرّةٍ، من مناصب الدّنيا، ورفعة المراتب، وعلوّ المنازل، وممّا يُدرك من العلوم والمعارف، ومن فساحة الفكر، وتنشيط العقل، وتوسيع المدارك، واستجلاب الحظوظ، ومعرفة الوجوه والأصحاب. وإن في الغربة مساحةٌ لو علمها المرء، تغيّره من أصله وجذوره، وتبدله إنساناً غير الَّذي خرج من جلباب أهله. فلأزعمنّ أنّ محمّداً خرج من عند أهله قليل البضاعة في العلم والتّجربة والدّراية، متقوقعٌ علىٰ نفسه، متحجّرٌ علىٰ قدراته الَّتي كمنها دهراً، ولو أطلق لها العنان، وصبّ لها المناهل، وعبّد لها الطرقات من قبل كما صنع بعد اغترابه لزهد بسفره إلىٰ مكوثه.

وكانت اللّحظة الَّتي أزمعتُ الخروج فيها من جزيرة العرب، شادّاً رحالي إلىٰ الأناضول، شعرتُ في تلك اللّحظة الَّتي استدرتُ فيها لألقي السّلام علىٰ أهلي مودّعاً إيّاهم، ملقياً نظرةً أخيرةً عليهم، نظرةً عمّرتُ بعدها ستّ سنين لم أرهم فيها، ولم يكن يدر في خلدي حينها أنّي أطاول كلّ ذلك البعد، شعرتُ أنّها ليست إلَّا أشهراً معدودة وأعود فيها إلىٰ الدّيار مرّة أخرىٰ، كانت نظرتي قد شملتهم بأسرهم، أتمايزهم واحداً تلو الآخر، أرافع نظراتي من علٍ إلىٰ الأسفل، لأحفظ من هيآتهم ما أحفظه الآن، ولو كان علىٰ قدرٍ من الفنّ، وأعلمُ أنّ الدّن يحلّ رسم الأرواح؛ لرسمتهم كما أراهم في ذاكرتي. بريب أن شعوراً خالجني بالحزن، لأنّني سأسير في طريقي لأوّل مرّةٍ لوحدي، أسير وحيداً، نعم وحدي! أتركهم إلَّا مسعىًٰ آخر، وكم وددتُ حينها أن لو أعدل عن قراري إلَّا ترك المضي، والبقاء في المنزل.. لكنّي ما علمته أنّ الرّاكب أشّر ما عليه أن يرجع وقد سلك الطّريق. فإنّك إن سريت في الدّرب كان الرّجوع نكوصاً، ولا أحسبكَ تخرج من هٰذه العقدة بعد.

ولكنّه مضىٰ، واعتادت النّفس ما استغربته.

تعليقات

  1. جميل جدا دخلت في تفاصيل المواقف إذ يرجع بي الحنين للأهل وقد ذرفت دموعي عند كلامك عن والدتك ووالدك حفظهم الله وحفظ الله آبائنا

    ردحذف
  2. هذا حالنا جميعاً..

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١