اليوم الثّاني: أسعد لحظة في حياتي
لا أدري على ما سأستند في دعواي بأن هناك لحظةً هي أسعد لحظةٍ في حياتي؟ ما هي الأسس التي سأقوم عليها في توطيد دعائم المفاضلة بين لحظةٍ وأختها فيمن هي سنام هرم السعادة عندي . وقد خلصت إلى أن الأمر أعسر ممّا يُظن. فحين أعود بذاكرتي إلى أعوامي التي عشتها بلحظاتها الكثيرة التي لا أشعر أني أحصيها، أجد المسألة كأنني في متاهة، تماماً كما وجد كوبر في فيلم Interstellar نفسه وسط مكانٍ كأنّه مكتبةٌ قد حوت أصونةً رُصّت بالكتب والقماطر، وكانت هذه الكتب هي صورةٌ مصغّرةٌ عن زمانه الذي عاشه، وعن كل دقيقةٍ من دقائقه التي قضاها، وساعتها التي شهدها، وكيف كان بإمكانه التّنقّل بين اللّحظة وصاحبتها. أجدني في بعض أحياني كما شهد كوبر، إلا أنني أراني أتمايز عنه أنه شهد مشاهده كلّها على سعادتها وحزنها وفرحها وبأسها، أمّا أنا فأتصّورها على جوانبها السّعيدة فحسب.
ولعلّني أوسط الأمور أن أسرد ثلّةً منها عليكم، فيترآى لكم الحكم، وحين أذكر أول ما أذكر لحظة مولد أخي عبد المجيد، وهو الذي يصغرني بستّة أعوام. إذ عشت وقتاً وحيداً لاختين وأبوين شعرتُ أنّه ربى على ستين عاماً، كنت دوماً حينها ينتابني الحزن والأسى لحظة رؤيتي للأطفال من حولي ولهم إخوةٌ يلاعبونهم الكرة والقهقهور، ولكم تمنّيت على والداي أن ينجا لي أخاً، ألاعبه ويلاعبني. ثم جاءت اللحظة تلك، فوضعت أمي طفلاً، فنظرت في وجهه وخفتُ للحظةٍ لحجمه الصغير. غير أنني ما عرفت كيف أفرح بالطريقة اللّازمة، وجدتني قد فرحت بسرّي!
ثم مضت السّنون متتابعات وتذكّرت اللحظة التي خرج بها الإذن للسّفر إلىٰ بلدتنا أم ولد، لحضور عرس ابنة عمّي الكبرىٰ ندىٰ، وكان غالب عمومتي وأولادهم قد عادوا جميعهم، وبقينا نحن في الكويت، وكنّا حينذاك نشهد الحلقات الأخيرة من مسلسل باب الحارة الجزء الثّالث، حتَّىٰ جاء أبي اتّصالاً، ينبؤه بخروج الإذن من الحدود، حينها استشطنا فرحاً، ولا أذكرني جلستُ في مكاني إلَّا بعد ربع ساعة من اللّعب مع إخوتي. ومثلها لمّا خرجت فيزة العمرة، وكانت كما سابقتها، مساءً علمنا، ونحن نشاهد باب الحارة كذلك، ولا أظنّني نمتُ إلَّا بعد الواحد من شدّة الفرح -وكان ذلك في عرف أمي ودستورها من المحرّمات المنكرات-!
ثمّ تذكّرتُ يوم ظهرت نتيجة درجة الثّانويّة العامّة، كانت قد سُرّبت النتائج قبل موعدها، وعلمتُ أنا درجتي الَّتي كانت 76%، ولكنّني سكتُّ، وكأنّ الفرحة قصد صعقتني، وكأنّني تعودتُ علىٰ الفرح، وما عاد شيءٌ يطربني، وعائلتي حينها لا يعرفون، وهم ينتظرون السّاعة التّاسعة مساءً حتَّىٰ تصدر بالجرائد. وحينها قرأت أمّ خبر التّسريب، فأخبرتني أن أنظر كم النتيجة، فضحكتُ حينها، وأخذوا يبتهجون، وأنا حالي ساكتٌ لا حراك! أحسبني ممّن يتحمّس للفرحة، ويسكت عند لحظتها، أو كأنّ البرودة علامة فرحتي التي أبديها. تماماً حين ظهرت مفاضلتي علىٰ تخصصي الجامعي في تركيا، تماماً حين علمت بسقوط النّظام، تماماً حينما علمت ما تضمر لي في قلبها، تماماً حين لحظة تخرجي القادمة، والتي لم أعشها بعد، غير أنني أستشرفها بعين الواقع والماضي، هذا ديدني الَّذي طُبِعتُ عليه.
أسعد الله قادم أيامك
ردحذف