اليوم الأوّل: أول خطوةٍ في أم القرى
الأمر كالخيال الذي تلحظه في حلمك، فتذكر شيئاً منه، وتغيب عنك أشياء. وليست المسألة هذه المرة في نسيان بعض هذه الخيالات، إنما في نسيان كثيرٍ منها، حتى أنّ بمقدوري القول بنسياني لذلك اليوم كله! والغرابة كل الغرابة تكمن في أن صاحبكم يتذكّر يوم مولد أخته التي تصغره بأربعة أعوامٍ بشيءٍ مذهلٍ من التّفاصيل الدّقيقة، أمّا هذا الحدث الذي شهده وهو بعمر ستّة أعوام فيكاد أن لا يذكر منه شيئاً البتّة. ولعلّي أرجع علّة ذلك إلى كم الخوف المُقلِق الذي تملّكه يوم أيقظته أمه عند السّادسة صباحاً ليستحمّ من فوره، وقد شعر حينه بنغزة في أحشائه، وشاء أن يوقف نفسه عند الخلاء سويعةً قبل الاستحمام، وقد خالط طول مكوثه فيه صيحةٌ من أمه تزجره على خوفه ومماطلته في المضيّ لتجهّزه ليومه الأول في السّجن، أقصد المدرسة، التي احتجز فيها على اختلاف أبنيتها وأمكنتها زهاء إثني عشر عاماً، قبل أن يفرج عنه إلى مصحّة إعادة التّأهيل التي تسمى الجامعة -تجوّزاً-. وكان أزْوَدَ المثقلات على نفسه برودة الماء، التي تشعر بسقعتها أن للمدرسة مُقدّماتٍ شتّى؛ غرّتها الاستحمام بالمياه الباردة! ثم يلحق ذلك نوعٌ من النّعيم المعجّل، ربّما كان ذلك كالعدوء الذي يسبق العاصفة، أو كالعطلة التي قبل فترة الامتحانات، إذ يحسّ المرء فيها بالاسترخاء والنعيم الخدّاع، سرعان ما سيُفجع بالاختبار الذي سيكرم فيه المرء أو يهان. والنعيم ذاك الذي قصدته أعني به شطائر الجبنة والمربّى التي تعدها أمي، إذ كانت تجهّزها بالصمّون الصّغير الطازج الذي يقال عنه Mini، وهو إن قيس بباقي أنواع المخبوزات فهو أبهظ ثمناً من غيره، لاسيّما ونحن نتحدّث عن طفلٍ خرج من طبقة البرولتياريا الكادحة، ولم يشرب شوربة العدس بملعقة الذهب، بل (تدولقها) من الزّبديّة نفسها. فكان تخشوها بجبنة الكيري التي تفوق غيرها ثمناً تباعاً، ومسحاتٍ من مربّى المشمش أو الخوخ أو الفراولة. وتجعل ذلك لي في صندوق طعام (لانش بوكس)، وبجانبهن قرنُ موزٍ، وحبّة تفاحٍ، وعلبة حليب كاكاو، وأحياناً بعض ما في البقالة ما تشتهيه الأنفس وتسلتذه الألسن.
تبدأ المرحلة الثانية مسبقاً حين ينزل والدي إلى السيارة يريد أن يشغلها فتحمى ريثما أنزل، وحين ركبتّ في السيارة تلكم اللحظة، تذكّرت فراشي الوفير الدافئ، والنظرة التي ألقيتها على إخوتي ينعمون بسباتٍ عميق، فغبطتهم، وجعلت دموع الحسرة لتهبط لولا أن تداركتها بسيف الخجل من أبي أن يرى دوع بكره تنهمر لليوم الأول له في الجامعة، فلا يأدني خشية العار الذي سيلحق به! فتحت الباب أنذاك وركبت، فسمعت الشيء الغريب، الذي لم أسمعه منه قبل ﻷنني لم أركب معه صباحاً من قبل.. سمعت صوت إذاعة الكويت! والتي امتدّت حكياتها معي طوال الفترات التي كان أبي يوصلني فيها إلى البيت، لكنها ليست كالبي بي سي.. منشورات عسكرية ثم قرآن، ثم مرسي بن المعلم الزناتي اتهزم يا رجالة بالانجليزي. وصلنا إلى المدرسة، ثم أصعدني والدي إلى الصّف، فجلستُ حيث انتهت بي المقاعد، إلى جوار فتاتين ما كنت أستطيع أن أرى الآنسة لأسباب لو سردتها لاعتبرت تنمّراً ومن أبواب ما يخلّ بالمروءة.
صدقاً قد احْتَلتُ قدر جهيداً على ذاكرتي أن تسعفني بشيءٍ مما شهدته، أشهر اﻷن حيّزاً فارغاً من تلكم الفترة، تماماً عندي كما نتحدّث عن حوال العرب قبل قدوم هاجر وابنها إسماعيل إلى أم القرى.. ليست المدرسة من أعني. ولكنني أذكرني يوم انصرفتُ منها، وقد دقّت الساعة الواحدة، أنطر أبي، وأناظر السيارات واحدةً تلو الأخرى، ﻷلمح سيارة نيسان من نوع الباتفاندر الزرقاء. فأجد أبي في نهاية المطاف، راكناً السيارة على بُعيدٍ من المدرسة. لأجدني مسرعاً أقفز إليها كما يلتهف الظمآن إلى الواحة. وينتهي اليوم الأول من فترة الضياع الابتدائية.. هذا فحسب كان اليوم الأول!
.jpeg)
تعليقات
إرسال تعليق