نَفَس الشّرع: إحاطة ونظرة على الحوادث السّوريّة
كان مما أُخبرتُ أنّ الدول بطبيعتها وإن تشابهت في نشأتها وعيشها ثم اندثارها بشيء من خلقة البشر في معاشهم ومماتهم، كما أورد ذلك ابن خلدون، فإن لها مع ذلك أموراً غير التي نعرفها عن طبيعتنا. فإنك لترى أنّ للبشر أفعالاً مناطها العواطف والأحاسيس، وفي جِبلّتهم الظاهرة فيهم أن ما يُسيّس أفعالهم وتحركاتهم؛ أهواؤهم المحضة، وترى تحرّكاتهم تنبع عن ردود أفعال، وإنما هي صدىً لذلك. هذا على غير ما في الدّول، التي تضع في حسبانها منهجيّةً واضحةً في أيّة استراتيجيّةٍ تهمّ بها، ويكون اتّخاذ القرار وفق منظومةٍ تراعي عوامل عدّة، وأمورٍ شتّى، على سبلٍ سياسيّةٍ داخليّةٍ وخارجيّةٍ على سواء، مع مراعة الجوانب الاقتصاديّة، التي نحن وإذ في زمنٍ تداخلت فيها الدول، واشتبكت ببعضها، بعولمةٍ أحالت العالم إلى قرية، فصارت هزّةً اقتصاديّةً في أوروبا أو شرق آسيا تأثر على العالم بأسره.
وفي سوريا، أقف عن نفسي -وقد خُيِّل إليّ العكس- وقفة احترامٍ وتحيّةٍ للدبلوماسيّة السّوريّة النّاشئة، التي أذهلت القريب قبل الغريب، وجعلت من السّوري الذي أثقل بمرارة الأسر الأسدي زهاء ٦ عقودٍ ونحوها، ليس من جانب البطش والطّغيان فحسب، بل من تكبيل العقل السّوري الّذي شهد العالم له بما هو أهله بعد موجات الهجرة واللّجوء، فجعله النّظام البائد حبيساً طوال تلكم المدّة. فنرى الآن بعد أن قد انجلت تلك الحقبة السّوداء، بما فيها من أوجاع، أوّل الاختبارات الحقيقيّة؛ إذ نبصر سياسة النّفس الطويل التي انتهجتها الإدارة السّوريّة منذ إحكامها السّيطرة على دمشق قد أتت أُكلها، بما أحرزته أوّلاً مع بداية التّحرير من تحييد الدّول المجاورة عن الولوغ مرّةً أخرى في دعم النّظام البائد، وذلك بطمأنتهم عن ابتعادهم عن تصدير الثّورة، بخطواتٍ رآها البعض انقلاباً على الفكر الذي ادّعته هيئة تحرير الشّام بقيادة أحمد الشّرع طوال فترة الثّورة السّوريّة؛ من دعم للفكر الجهادي الذي يقتضي محاربة الأنظمة العميلة، المطبّعة مع الصّهاينة، والمتماشية مع العدوان الغربي السّافر على الأصقاع الإسلاميّة، كإسكات أحمد منصور، المهاجر المجاهد المصري، ثم لملمة تحرّكات بعض فصائل المقاومة الفلسطينيّة كجبهة التّحرير الفلسطينيّة ولواء القدس، وإخفاء راية التّوحيد التي علت زمناً فوق أركان فصائل المعارضة.. وغيرها من القرارات التي أثارت الجدل.
غير أنّني أرى أن علّة أصحاب تلكم الرّؤية تكمن في أنّهم لم يتتبّعوا منهجيّة القيادة الحالية للفاتحين، أعني أنّهم لم يتعرّفوا عليهم إلّا بعد الثّامن من كانون الأوّل، وبذلك حصروا فكرهم في أفقٍ ضيّقٍ، تحت وطأةٍ خياليّةٍ، وصورةٍ روائيّةٍ منفصلةٍ عن الواقع، يتصّورون فيها أن العالم سينصاع بعد تحرير دمشق، أو أنّ الفاتحين حقّاً على تلك القوّة والمنعة التي تخوّلهم أن يحيدوا عن قواعد عالميّةٍ أسّستها الولايات المتّحدة الأمريكيّة وفق رؤيتها الشّموليّة لما يجب أن يكون عليه النّظام العالمي الجديد. وهذه النّظرة الطوباويّة التي تُتخيّل إن كان كثيرة الثّمار فتُحصد فإنما ذلك يكون في الرّوايات أو المسلسلات التّركيّة والهنديّة، وليس تنفع في عالم تقوم فيها الدّول وتنشأ على مبدأ السّياسة الواقعيّة؛ والّتي بها تقدّم الدولة بعض التّنازلات ولو على حساب مبادئ قياداتها مقابل مكتسباتٍ تعود على شعبها وأرضها بالنّعماء. وهو الواقع الحالي الّذي لا مفرّ منه، والضّرورة الحتميّة الخارجة عن إرادة العاجز الضّعيف، في زمنٍ يحكم فيه من يحصد غذاءه، ويصنع دواءه، وينتج سلاحه، ومن اقتصاده يصمد أمام تقلّبات العالم من كوارث وأوبئة، وليس هذا بمتحصّلٍ مع أناس ما لبثوا بعد نصف عامٍ في الحكم. ولا أقول هذا دفاعاً وتجميلاً لهم كما دأب كثيرٍ من المتقوقعين على الحدود التي أحيطت بهم، إنّما من باب الإنصاف الّذي يُهدى إليه بعد كمٍّ من القراءة والبحث والاطّلاع، فالقارئ في التّاريخ لا يعوزه بعدئذٍ أن يُمعن في الحاضر، فعجلة التّاريخ وإن لم تدور كما يُزعم، فإنّ النّاس كما خبرنا لا تعقل دروسه، وإن عقلوه ما حفظوه، وحتّى لو حفظوه فإنّ الأهواء غلّابة، والطباع كرارة، والجِبِلّة الّتي وزِعت بهم تدفعهم إلى الوقوع في ذات الزّلّات.
وممّا نرى في صحائف التّاريخ وقماطره، أنّ نور الدّين محمود ما أخذته الحميّة الجيّاشة لنصرة أهل عسقلان إذ جابهوا حصاراً خنّاقاً على الرّغم من أنّ دعائم القوة عنده حينئذٍ متقاربةٌ بل حتى تزيد عن خصومه من الصليبيين، وعلى ذلك ما جرّأه ذلك على خوض خطوةٍ كتلك تكبّده خسائر فادحةٍ تدمر كل المكتسبات التي سعى في تحقيقها طوال فترة عهد إمارته على الشام في توحيد ديار الإسلام تحت راية سلطانٍ واحد، وإنما سعى بقدر ما يقدر في دعم إخوانه المسلمين المحاصرين، مع البقاء على قدرٍ وافرٍ من البعد عن الاشتباك المباشر، والاكتفاء بالدعم غير المباشر. ولم يأخذ عليه مع ذلك العلماء والفقهاء لانكفافه عن نصرتهم. وكذا الأمر في صلاح الدين يوسف بن نجم الدين أيوب الذي قضى ثلثي حياته الجهادية في مقاتلة المسلمين، والثلث الآخر في قتال الصليبين. كان علّة ذلك القتال هو توحيده للجبهة الداخلية، والقضاء على الخونة والمتربّصين، واللّاهثين خلف متعهم الشخصية، وأهوائهم الفاسدة، وكانوا عوناً دوماً على الجبهة الإسلامية الواحدة؛ أولاً إبان حكم نور الدين، ثم أيام حكم صلاح الدين. ولو كان صلاح الدين مثلاً ليُصغي إلى أقوال حالمي عصرنا، لسكت عن تجهيز نفسه بالعدّة وما يلزم، وانطوى يهاجم الصليبيّين في معاقلهم، ويودي بنفسه إلى التّهلكة، فالعدو الظاهر كفره من أمامه، وخونة البيت الزّنكي ومن خلفهم السلاجقة من خلفه. فدعونا نعد للواقع ونتحدث قليلاً، ونسرد ما لنا وما علينا. كيف لدولةٍ ناشئةٍ انكفأت في أرضٍ عاثت فيها الاحتلالات الغربية والشرقية زمناً وسيطرت أقلّيّة حاقدة، مدعومةً بدولٍ وكيانات، وبعد خضمّ حربٍ استمرت لأربعة عشر عاماً أن تصبر على خوض حربٍ أخرى طاحنة في وجه كيانٍ سرطاني رأينا بأمّ أعيننا أنه لا يراعي عهوداّ ولا مواثيق، ولا يلتزم بقوانين الحروب التي تجامعت عليها مؤسسات عصرنا الحالي الدولية؟ أوليس اقتحام هكذا مسألة ولم تستوفي الدولة بعد أمرها، ولم يكتمل رشدها بخيرٍ ورأيٍ حسن؟
ومن الرأي الذي تُحمد عليه الإدارة السوريّة استجلابها لسياسة طول النفس، وتمرّسها به الحدّ الذي قرأته سلفاً في كتب السّاسة والسّياسة عن سايكولوجيا الدولة إن صحّ التعبير. فتعاملها مع ملفّ الجزيرة، الذي حسبناها أنها قد أهملته، أو فرّطت في كثيرٍ من المسائل فيه. كذا الأمر سيّان في ملف السّويداء، وتباطؤها في حسمه حتى لحظة كتابة المقال. والمتتبّع لرأس الخيوط يتّضح له أن الإدارة تسعى جاهدةً بادئ ذي بدءٍ لنيل الاعتراف الدولي، والجلوس مع مشغّلي تلك الكيانات على طاولة واحدة، بدل الانشغال بالفروع عن الأساس. والتّعامل مع تلك التّحركات الصّغيرة بصيغة التّجاهل، حتى تموت في أرضها بفعل الوقت، وتكون الدولة في تلك المرحلة قد فرغت من الملفات الخارجيّة التي في عرف بلدنا الذي وُجِد في منطقةٍ يحكم المنطق الجيوسياسي، فإن العامل الخارجي مؤثرٌ بأكثر من الداخل. لاسيّما مع بلدٍ متنوّع الأطياف والأعراق والطّوائف والمذاهب. وبرفع دونالد ترامب العقوبات الأمريكية التنفيذية عن سوريا، وانقضاء عزلتها بذلك عن محيطها العربي والإسلامي والدولي، وأُتبع ذلك برفع العقوبات الأوروبية فقد حقّقت الإدارة أولى أهدافها بعد التحرير= وهي كسر العزلة برفع العقوبات. وليس بعد هذا إلا شهرين أو ثلاثة حتى تنقضي دواعي ملفّي الجنوب والجزيرة بحلّهما تدريجيّاً.
ولقد قالت الفقهاء.. الحكم على الشّيء فرعٌ من تصوره.

تعليقات
إرسال تعليق