المقالة رقم ١٠٠: لا تُستنسخنَّ، كُن أنتَ
دع عنك أحلامك الَّتي ساورتكَ حيناً من عمرك، واقضي عن نفسك أثقال مكهلي ضهر الإنسان في زماننا هٰذا، ممَّن استستقوا حياتهم ونعيمها من أقلام الغرب، الَّذين ملأت مادَّة الحياة أنفسهم، حتَّىٰ صارت الغاية رفعةُ النَّفس بمنصبها لا بمكارمها، وبمالها لا بمروءتها. وباتت نفسك الَّتي تُصْلىٰ في قديم العهود، أيَّام الجاهليَّة بنيران المكارم الَّتي تُقسم المرء أنصافاً لحيازة مجدها، وعظيم شأنها، باتت هٰذه النَّفس معجونةٌ بخُيلاء الجاه والوجاه، وبما أردفه النَّاس عليها من شعورٍ بكبح الزُّهد إلىٰ استنشاطها عند الطَّمع، واستبرائها من أوقات الفزع، وباقتحامها آجال المغانم، وانكفائها عن المغارم. أبيتَ عزَّاً سؤدده في الحِلم، ومنقصته في السَّفاهة والحمق إن أرخيت مسامعك إلىٰ أراجيف هٰذه الفردانيَّة المعاصرة.. يا أيُّها الحاجب
دع عنك تلك الجداول المُعتَّة، الَّتي تدَّعي تنظيم الوقت والزَّمان، وتخبرك أنَّك آلةٌ متطوِّرةٌ، محدودةٌ بعامل الزَّمن وحيِّز المكان، فتجعل نفسك إنَّما مهامٌ تُقضىٰ، لا مخلوقاً وهبه خالفه الصَّنعة في نفسه، والحرِّيَّة في ذاته. فأبيتَ أراك إلَّا أن تختزل نفسك في صورةٍ هلاميَّةٍ تدَّعيها أمام غيرك، تُريد بها شأو الوجاهة في المدح، والتَّعظيم في الوصف، والتَّزلُّف الرَّائج، والتَّبجيل الَّذي في غير موضعه! أبيتَ إلَّا أن تستمرق نفسك تحت طائلة المنظر الأجوف، وصرت لمحةً عن بالونٍ نُفخَ هواءً، فكبُر حجمه، واستشاط قياسه، ثمَّ ما إن تحزُّه شعرةٌ ساقطة إلَّا وأودته نثراً غير مجموع، وسرادح غير ملمومةٍ! أنت كهٰذا إن أدنيت أذنك لأشداقهم.. يا أيُّها الحاجب
دع عنك توافه حياتك الاعتياديَّة، اسمو بنفسك إلىٰ عالمٍ غير عالمك، ومحياً غير محياك، ومعاشٍ غير معاشك الَّذي اعتدتهُ واعتادك، فلكأنِّي بك وقد سرَّك أن تتبسَّط في آمالك ومطامحك، فتقعد بها قعود المستكين إلىٰ الرَّاحة، الرَّائد للدَّعة، المُستعظم للإقدام، والمستخوف من مجاهيل الإمضاء. ولعمركَ ما امرؤ خاض في معسرات الحياة، واقتحم مجاميلها، فاستعصىٰ عليها بعض، أو كلَّها، وما لان له أمرُ عسيرٍ؛ فلهٰذا خيرٌ من صانع أفعالٍ يُشار لها بالخير، غير أنَّه قعد وتروَّىٰ. أفتشاءُ أن يُقال لك بعد اختمار السِّنين، وأفول الأيَّام: مرَّ فلانٌ العادي من هُنا؟ ومات هُنا؟ فأيُّ حياة تطيب لك وقد تنتَّن لحمك من تخدِّر الجلوس، وتثبَّط عزمك من رخاء النَّفس، وتليَّن حزمك لبرودة الرُّوح! أما تصحو يا أيُّها الحاجب؟
فإن النجاعة في عمرك القادم أن تستدركها بمواطن العلم، ومخابي المعرفة، وأن تُقبل عليها إقبال من يخشىٰ نفادها، وتصرَّ علىٰ تفنيدها إصرار من استلحق الفريسة أن تغاديه خاطفةً. وأن تهيِّأ لنفسك المقبلة علىٰ العلوم والمعارف من أنواع الطُّرق وأساليبها ما تكون أنت بها أعلم من غيرك. فلمَ تستنسخُ تجارب الغير في ذاتك؟ أوكانوا هم أعلم بكَ منكَ؟ التمس جوهر الفكرة، ودع عنك قشورها، واستنبط لعينك صورةً من معنىٰ ما أرادوه، لا أن تأخذ الرَّسم بحذافيره، فتنسخه علىٰ قماطرك وتقول: أنا راسمٌ مثل قبيلي. فإن شِئت أن تنظِّم وقتك وحياتك، فاجعلها علىٰ أنواع.
لك أن تخطِّط لذٰلك باسبوعٍ، فتضع مهامك الموعودة، فتعهد لنفسك ألَّا ينتهي اسبوعك إلَّا وقد استنفذت مهمَّتك. ولك أن تصنع صنيعك هٰذا علىٰ يومٍ، فتقول: لي واجب وردٍ قرآني، وقراءة كتابٍ، وحفظٍ آياتٍ وأشعار، لا أفرغ إلىٰ وسادتي أستريح بنومي إلَّا وقد فرغت ممَّا ذكرت. فنحِّي نظام السَّاعات المُلزِمة، والتراتيب المرهقة، واللَّوائح الضَّيقة علىٰ النَّفس.
وهكذا أنت ما أجريت نفسك علىٰ حدٍّ قاطع، ولا أرخيتَ لها عناناً رابطاً؛ إنَّما أنت بذلك تكون قد سايستها بشعرة معاوية، إن شدَّت أرخيت، وإن أرخت شددتَ. وهٰذا يرحمك الله دأبي مع الطاعات، فمتىٰ وجدتُ نفسي مقبلةً علىٰ الإيمان؛ جعلتُ لها من السُّنن الرَّواتب، والصلاوات النَّوافل، والمستحبَّات من الدِّين ما أكون به قد تقرَّبتُ من ربِّي. وحين أجدها قد تشمَّرت عن الإيمان إلَّا قليلاً؛ أسفرتُ لها باقتصاري علىٰ الفرائض الواجبات، واقتصرتُ بها ديناً وعبادةً حتَّىٰ تمرَّ العاصفة، ولا يكلِّفُ اللهُ نفساً إلَّا وسعها.
ثم تعال الآن وعامٌ آخر تصبحه ويُصبحك، فاجعل لنفسك أموراً تقيسها به تقدُّمك من وربوضك حيثُ أنت. وانصبَ لعينك أنجماً من المعالي تريد بلوغها، فاجعل لنفسك ختمات قرآنيَّة؛ ألا تقلَّ عن ٦ في العام، وقراءة كتبٍ بمعدَّل ٣ في الشَّهر، وحفظ أشعارٍ وقصائد من عيون الشِّعر والمعلَّقات.. ومثلها مثائل، ما النَّاصح بها أعلمَ من المُستنصح.
هداكَ وإياي ربِّي لأبرِّ المسالك، وأرشدنا لأحسن السُّبُل، وأجود الطَّرائق. وعصمنا من زيغَ الدَّهر، ومساءة التَّكبُّر، وكثر السُّؤال، وإضاعة الأوقات.
تعليقات
إرسال تعليق