قصَّة قصيرة: عودة سيف الله

 


- حالم: مضىٰ علىٰ هٰذه الحرب الشَّؤوم شهوراً عدَّة، وأحسب أن الخذلان الَّذي مَنيَ به إخواننا في غزَّة أضعافاً، وقبلهم في إدلب وغروزني وصنعاء والموصل وقندهار، لا أجد من حال هٰذه الأمَّة عزاءً إلَّا أنَّنا في آخر الزَّمن ورُبَّما تنقضي آجالنا بنفخ إسرافيل بالبوق، فيعلن نهاية العالم، وفروغنا من الدُّنيا وكبدها وعنتها، ثم ننتقل إلىٰ حسابٍ فإمَّا جنَّةٌ أو نار.
- سلام: لا، لا تنسىٰ أن قبل النَّفخة سيقدم الدَّجال أخزاه الله، والمهدي والمسيح -عليه السلام-، ومن ثمّ! يأجوج ومأجوج والدَّابة، ثم تعود الأرض وقد مُلِئت كفراً كما أخبرنا شيخ الجامع.
- حالم: لا ريب، ومن ثم ستأتي ريحٌ نَسِمةٌ تأخذ روح كلَّ امرئٍ فيه مثقال ذرَّةٍ من إيمان. ولٰكنك وقد رأيت ما نرىٰ من هٰذه الحرب، ألا تجد في نفسك مرارة الخسارة، بل وأكثر من ذٰلك، ألا تُبصر في نفسك الموت وأنت تتنفس رغماً عنك؟
- سلام: نعم، أجد في نفسي ذٰلك، وهٰذا العجز الَّذي يُصيبنا لا أعرف متىٰ سيفرغ! متىٰ سنقدر علىٰ القتال وصدِّ العدوان؟ ومتىٰ نرىٰ أنفسنا قادرين علىٰ دحر الظُّلم والطُّغيان؟ ونحن نرىٰ تكالب الأمم علينا!
- حالم: لا ينبغي لنا رغم ذٰلك أن نقاتل لوحدنا، بل يجب أن يُعلن ولي الأمر الجهاد، ويفتح باب التَّجنيد والقتال، فهم أدرىٰ قدَّس الله أسرارهم بما يحوج الأمَّة وما يلزمها، وهم أعلم بخفايا الحروب، وخبايا السِّياسة، ودهاليز المطبخ الدبلوماسي.
- سلام: علىٰ ذكر المطبخ ماذا ستأكل علىٰ العشاء؟
- حالم: لا أعلم، دعك الآن من هٰذا، فلنأكل ما نأكل. ألا تريد الذَّهاب إلىٰ الجامع، فقد قرب وقت العشاء، وما المؤذِّن إلَّا قليلاً سيُؤذِّن.
سلام: نعم، فلنذهب.

أتمَّ المصلُّون صلاتهم، وأدُّوا نوافلهم، وإذ بالإمام يلتفتُ قائماً، ويخطب فيهم:

عباد الله، انصروا الله ينصركم، واتَّقوه يزدكم، ولا تخذلوا إخوانكم المـستضعفين، ولا تنسوهم من دعائكم، واعلموا أن المسلم الحقَّ من جعل هناء الأمَّة وسعدها، ونصرها علىٰ عدوِّها غاية مُناه، وسبيل حياته أفلح دربه، وربح بيعه. واذكروا عهد أسلافكم الغابرين، وتاريخ أمجادهم، وكيف صالوا وجالوا، وفتحوا البلاد، وعمَّروا الأراضي والقرىٰ، ونشروا دين العدل والسَّماحة، حتَّىٰ وصلوا بين غرب الصِّين وجنوب فرنسا. واذكروا مجد سلفكم من صحابة رسول الله ﷺ، عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وأبي عبيدة بن الجراح، وخالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، ويزيد بن أبي سفيان. وما صنعوا بعد وفاته ﷺ، حتَّىٰ أعادوا جزيرة العرب بعد أن ارتدت سوىٰ المدينة والقريتين. واذكروا وقعة مؤتة يوم عاد سيف الله المسلول بجيشه سالماً غانماً، بعد أن واجه بثلاثة آلاف جنديٍّ قرابة الثَّمانين ألفاً! وما صنع -رضي الله عنه- في حروب الرِّدَّة، في وقعة ذي أسد والبُزاخة، وفي اليمامة وغيرها، ثم بعد أن وجَّهه خليفة رسول الله ﷺ إلىٰ العراق يُريدُها إلىٰ حضن الإسلام، ويُحارب الفرس ودولتهم العظيمة، فهزمهم شرَّ هزائم، ونكَّل بهم، وصنع فيهم الأفاعيل في ذات السَّلاسل والولجة. وما لبث وقد دخل الحيرة حتَّىٰ وجَّهه إلىٰ الشَّام يُريدُ نصرة المسلمين هنالك، فخاض اليرموك ونكَّل بالرُّوم، وفتح دمشق وحتَّىٰ قنُّسرين وجبال طوروس.
فاللَّهُمَّ أبرم لهٰذه الأمَّة أمر رُشد، يُعزُّ به أهل طاعتك، ويُذلُّ به أهل معصيتك، وأعد لهٰذه الأمَّة رجلاً كسيف الله المسلول، فيقودها نحو نصرٍ مُعظَّمٍ تُذلُّ به أعناق الجبابرة، وتُخزىٰ به رؤوس الأكاسرة، إنَّك وليُّ ذٰلك والقادر عليه. آمين

وفجأة.. وبجانب المنبر، وإذا بنورٍ يُضيءُ أركان المسجد، ويبزغ من الجدار رجلٌ بملامح عربيَّةٍ، يَعتَمُّ طليساء، يضع عليها قلنسوة حربٍ فضِّيَّةٍ، طويل القامة، عظيم الجسم والهامة، كثَّ اللَّحية، يميلُ إلىٰ البياض، وملامحه تدلُّ علىٰ غضبٍ وعبوسٍ يرتهبُ منها الرَّائي.
انبرىٰ قليلاً تجاه المنبر، فصعد درجةً وهو يدعو، ثم أخرىٰ ودعا، ثم ثالثة ومثلها دعا، ثم أمال برأسه إلىٰ الحضور، الَّذين اعترتهم الرَّهبة والخشية من هٰذا الصَّاعد إلىٰ المنبر، الخارج من صُلب الحائط الَّذي أنار لتوِّه. فسلَّم، وما ردَّ أحدٌ السَّلام، ثم ثنىٰ بالبسملة ثم قرأ: ﴿إن تنصروا اللهَ ينصركم ويُثبُّت أقدامكُم﴾، ثمَّ حمد الله، وصلىٰ علىٰ نبيه، وقال:
يا أحفاد المهاجرين والأنصار، والتَّابعين لهم بإحسان، يا أحباب رسول الله الَّذين لم يرهم، أنا أبو سليمان، خالد بن الولد بن المغيرة المخزومي القرشي. جئتكم بسيف ودرعي ورمحي وترسي، وقد كسرت غمدي، وفككتُ لجام خيلي، وعلىٰ رأسي الذي عُدِم نبته شعرات صاحبي وسيِّدي رسول الله ﷺ. جئتكم أقودكم إلىٰ قتال أهل الكفر والرِّدة، وأولئك اليهود وأهل الصَّليب الَّذين بغوا في الأرض، وعلوا فساداً وفسقاً وجبروتاً، جئتكم أستعيد أرضنا الَّتي فتحها الله علينا لمَّا كنتُ مع عمر بن الخطَّاب أمير المؤمنين، فأخذنا بيت المقدس بالسِّلم، وشهدتُ بنفسي علىٰ ذٰلك السِّلم لأهل إيلياء. حتَّىٰ أتىٰ هٰذا الزَّمان وانقلبت أحوال الأمَّة، فاغتصب اليهود الَّذي شرَّدهم رسول الله ﷺ في خيبر، وما صنع في بني قريظة وبني النَّضير وبني قنينقاع؛ أرض فلسطين وعاثوا فيها فساداً وتشريداً. أولئك الَّذين كتب الله عليهم التِّيه والخُذلان والجبن، وتكالب عليهم الأمم، فصاروا هم من يتكالبون علىٰ الأمَم! فلنستعيدن بيت المقدس من أيديهم، ولنحرِّرنَّ أرض الشَّام من أيدي أهل الصَّليب والفرس، ولنُرجِعنَّ العراق واليمن إلينا. فمن معي في هٰذه الحرب؟

صمتٌ محدق!
أعاد سيف الله نداءه: من معي في هٰذه الحرب؟
صمتُ مُطبق!
أعاد ثالثةً: من معي في هٰذه الحرب علىٰ الكفرة؟

صمتٌ أشدُّ من سابقيه، حتَّىٰ لا يُسمع إلَّا صوت المراوح! وفجأةً، وقف حالم، وقال يُخاطبه: عُذراً يا أخ.
- تفضل يا ولدي (أجاب أبو سليمان)
- تزعم أنَّك خالد بن الوليد، فكيف نصدِّقك ونحن لم نره؟
- ألا تعرف وصفه يا بُني؟
- ليس كثيراً.
- (يرتفع صوتُ آخر) لقد قيل أنَّه أصلعٌ كعمر بن الخطاب، حتَّىٰ أنَّهم كانوا يظنُّونه عمراً!
- (صوتٌ آخر من الحضور): نعم، وقيل أنَّه طويلٌ إلىٰ حدٍّ كبير.
- (وصوتٌ ثالث): نعم، ولديه شعراتاً من رأس رسول الله ﷺ الشَّريف ألصقها في قلنسوته.
- (يُقاطعهم سيف الله): أصبتم يا إخوتي، نعم، هٰذه هي صفاتي كما ترون. 
ثم نزع قلنسوته، وأراهم رأسه، وأرشدهم إلىٰ شعرات رأس رسول الله ﷺ الشَّريفة. فتأكَّد الحضور من صدق دعواه. ثم أشار سيف الله لحالم أن يكمل ما أراد قوله.
- نعم يا سيف الله، تقول لنا أن نقاتل، ولٰكن أخبرني كيف نُطيعك ولدينا ولاة الأمر، وهم أحقُّ بالطَّاعة؟
- لا أقول لك اعصهم يا بني، إنَّما جئتُكم لغايةٍ واحدة، قتال أعداء أهل الإسلام فحسب، ومن ثمَّ العودة من حيثُ أتيت. لا غاية لي أخرىٰ في حُكمٍ أو ملك.
- أيُّ أعداءٍ يا أبا سليمان؟ وجود الرُّوس والإيرانيُّين في سوريا قانوني ١٠٠٪، بحسب أعراف الأُمم المتِّحدة، والوثيقة الَّتي وقَّع عليها ولاة أمرنا، فيحقُّ لكلِّ دولةٍ أن تحمي أرضها وشعبها بالاستعانة بغيرها من الدُّول. الأمر مثله في العراق. أمَّا في اليمن، فقد تصالح الطَّرفان هناك علىٰ وضع الحرب، وإنشاء حكومةٍ وطنيَّةٍ، لا تعترف باختلاف المذاهب والأديان، وبعيدةً كلَّ البُعد عن الطَّائفيَّة. فمن ستُقاتل؟
- أيَّا يكن مسمَّىٰ هؤلاء، فهم كُفارٌ، أعداءٌ للدِّين. وإن كان فلنقاتلنَّ اليهود في أرض فلسطين، ونحرِّرُ أرضنا وديارنا.
- ستُقاتل اليَهود؟ هل نسيت أمريكا وبريطانيا والناتو؟ أتراهم يتركونا ولما نريد! لا أستبعدُ أن يغضبوا فيقوموا بالهجوم علىٰ بقيَّة بلاد العرب.
- ألم تدعوا أيُّها النَّاس قبل سويعةٍ بأن ينصركم الله، وأن يرسل فيكم من هو بمثل خالدٍ؟ فها أنا أُتيَ بي.
- نعم، ولٰكن لن يكون الأمر بهٰذه الطَّريقة، هنالك تحالفات سياسيَّة، ومراهنات، وتجاذبات بين الدُّول يجب أن نلعب عليها، الأمور معقَّدة جداً في المطبخ السِّياسي، وولاة أمرنا أعلم النَّاس بهٰكذا أمور.
- لا أعرف إلَّا لغة السَّيف، وحقِّ ربِّ السّ!يف الَّذي سللتهُ وما أُعيده في غمده إذ انكسر، لأتركن نواصي بتَّاري في أجساد الكفرة، ولأُخضبنَّه بدمائهم أحمراً، ولأجعلَّنهم بهٰذا الرُّمح عبرةً ومثلاً لمن تسوِّل نفسه أن يعتدي علىٰ حرمات الله و..
- نعم، إرهابٌ بإرهابٍ بإرهاب، أهذا ما تقدر عليه؟ أليس لك إلَّا السَّيف؟ نحن في عصر التَّطور والحضارة والرُّقي. والحضارة تقوم علىٰ التَّفاوض والمحادثات الدِّبلوماسيَّة، بين السُّفراء والمفاوضين الَّذي يعرفون لغة السِّياسة، أما الرَّديكاليِّين والآيدولوجيِّين ليس لهم مكانٌ في هٰذا العالم.
- هل تحسبُ يا بُني أنِّي فتحتُ الشَّام والعراق بالقلم؟ أو بالأحاديث الفارغة مع حاشية قيصر وكسرىٰ؟ وهل تظنُّ أن نهاوند انتصرنا بها بخطبٍ رنَّانة؟! عجباً لك، وما لنا بعد الله غير السَّيف؟ وقد قال رسول الله ﷺ: «الجنَّة تحت ظِلال السُّيوف».

- عجباً لك! هل تظنُّ أنَّ العالم سيرضىٰ بمثل ما فعلت ببني جذيمة، حين قتلت طائفةً منهم، وأسرت آخرين؟ أو كالَّذي صنعته بمالك بن نويرة؟ أو كالَّذي فعلت به ببعض العرب والفرس في العراق، إذ أقسمتَ علىٰ أن تحوِّل النَّهر أحمراً بدمائهم؟ فهٰذا إرهابٌ والله لا يُسكتُ عنه.

(تعالت الأصوات تأييداً لكلام لحالم، وهم يهتفون ضد الظُّلم، والبعض يصوِّر المشهد، وواحدٌ يضع سماعةً علىٰ أذنه ويُتمتم)

- (يردُّ سيف الله المسلول): أمَّا الأولىٰ فغفر الله لي إذ حسبتهم لمَّا قالوا: صبئنا؛ أي كفرنا. وليس أنَّهم يريدوا قول أسلمنا، وما لبث رسول الله ﷺ أن ولَّاني. وأمَّا الثَّانية والثَّالثة فقد استحقَّ كلٌّ بحسب جرمه. فمالكٌ ارتدَّ يوم ما امتنع عن دفع الزَّكاة، وقتله لمسلمي الرَّباب. وأما أولئك الَّذين حوَّلتُ النَّهر من دمائهم فقد خان بعضهم، وقاتل مع الفرس ولقينا منهم جهداً شديداً، وهٰذه حربٌ كذلك، أن ترهب أعداء الله فلا يقاتلوك بعد حين، بل يُسلِّمون لك طائعين.

- هٰذا إرهابٌ لا نريده، يكفينا ما جلب بعض المتشدِّدون والمتزمِّتون والمتطرِّفون من سمعةٍ سيئةٍ في الغرب عن الإسلام وسماحته، فهل تريدُ أن تثبِّتَ علينا تهمة الإرهاب، وأن الإسلام انشر بحدِّ السَّيف؟

- ولمَ أُمرنا بالقتال إذن؟ أوليس للدِّفاع عن ديننا وأعراضنا وشرفنا وديارنا؟ فلمَ قاتل الرسول ﷺ وصحابته إذن؟ لمَ لمَ؟ ولمَ تلطمون وتبكون علىٰ حالكم إن كنتم لا تريدون القتال؟ أين مهابة المسلم؟ أنزِعت منكم؟

(وإذ بالباب من الخلف يُفتح، ورجالٌ يطوف عددهم العشرون، مكتسون بالسَّواد يدخلون الجامع، فيقول البعض بخفوت: هٰؤلاء جهاز الأمن السُّياسي. حوَّل الجميع أنظارهم نحو المنبر.. فما وجدوا غير الإمام يمسك المذياع* بجانبه!)

ــــــــــــــــــــــــ
*: المايكروفون.

تعليقات

  1. قرأت الكلمات وتخيلت الأحداث كما لو كانت حقيقة بعودة سيف الله المسلول🥲…راقت لي ❤️

    ردحذف

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

لعلَّك تميلُ إلىٰ العمل في الاتِّحاد بعد أن تقرأ هٰذا