أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ٢
حين يكون سلاحك موجَّهٌ بادئ ذي بدءٍ نحو شعبك، فهٰذه أمارة خيانة، لا أعني بهٰذه الخيانة أنَّه تحالف مع عدوِّه (الأمريكي والصُّهيوني) لقتل شعبه، فهٰذه خيانةٌ لا ريب؛ غير أنَّني قصدتُ ذاك الَّذي ما قدر بسلاحه الَّذي كدَّسه أعواماً إلَّا علىٰ شعبه، أي خسر مراراً وتكراراً في كلِّ حربٍ دخلها، وكلِّ معركة شارك فيها، فليس له بعدها من بدٍّ سوىٰ توجيه سلاحه علىٰ مستضعفٍ ما وجد لنفسه حيلةٍ بغير سلاحٍ خفيفٍ، وهٰذا السِّلاح لا يكفي إلَّا لصيد طائرٍ في كبد السَّماء. فما هي أحداث حماة الَّتي تسامع بها البعض؟ والَّتي ما تسامع البعض الآخر بها لأنَّه شاء أن يضع قطناً علىٰ أذنيه فلا يقوم بهما بعد بعقلٍ أو رأي، فأصبح كالببَّغاء يردِّد ولا يفقه!
كان منذ ظهور دعوة جماعة الإخوان المسلمين بقيادة الشَّيخ حسن البنا الضَّوء النَّاصع في جبين هٰذه الأمَّة، إذ قد توالت كتائبه نحو فلسطين، دفعةً إثر دفعة، حتَّىٰ علا صيت الجماعة في كلِّ ميادين المسلمين، فتجذَّرت في نفوس أهل الشَّام نحو الجهاد والإسلام، ما خرج من نفوس أهل مصر وجماعة الإخوان المسلمين، فانبرىٰ الشَّيخ مصطفىٰ السِّباعي لافتتاح فرعٍ للجماعة في سوريا. غير أنَّ الفرع هٰذا كان ميَّالاً للسِّياسة أكثر منه لعمل العسكر. فكان حزب الإخوان المسلمين مثله كمثل أي حزبٍ آخر في سوريا إثر جلاء الاستعمار عن بلادنا. فدخل معترك السِّياسة، وتحالف مع حزبٍ ضدَّ آخر، دون إعطاء اعتبارٍ لتوجِّه ذاك الحزب الحليف في الانتخابات المعنيَّة. وحين أقول توجُّهات الحزب الحليف، فأنت ترىٰ في تلكم الفترة اشتعال سمعة الحركات القوميَّة والأشتراكيَّة، وهٰذه الحركات لا تعدُّ للدِّين والتَّديُّن أي معنىًٰ أو قيمة، بل تجهد أيَّما جهد في محاربتها واستئصال شأفتها من مناحي الحياة. وهو ما ولَّد عداءً بين حزب البعث، الَّذي كان حزباً نتاج اندماج حزبين، هما؛ الحزب العربي الإشتراكي بقيادة أكرم الحوراني، وحزب البعث العربي بقيادة صلاح بيطار وميشيل عفلق وزكي الأرزوسوي من جهة، وحزب الإخوان المسلمين من جهةٍ أخرىٰ. وكما ترىٰ أشذاذٌ من القوميِّين، المنافرين للدِّين تجامعوا علىٰ رايةٍ قد تحسبها قوميَّةً وطنيَّة، ولٰكنَّك إذ تتتبَّع سير تلك الرُّموز لاستبان لك أنَّها تسير نحو غاياتٍ شخصيَّةٍ، ومنافع ذاتيَّةٍ، لا رابط بينها وبين قضايا أمِّيَّةٍ مصيريَّة.
وبعد أن استطاع أمين الحافط ومعاونيه تنحية مؤسسي الحزب، ومن ثم قام صلاح جديد وحافظ الأسد بتنحية أمين الحافظ. عمد أخيراً حافظ الأسد النُّصيري علىٰ الانقلاب علىٰ صلاح جديد، واستفراده بزعامة الحزب ورئاسة سوريا وذلك في حركةٍ أسماها: الحركة التَّصحيحيَّة. وصار حزب البعث العربي الاشتراكي حكراً ليس علىٰ الأقلِّيات فحسب، وليس علىٰ النُّصيريَّة فحسب، بل علىٰ عائلة الأسد برمَّتها. وصار أقارب حافظ النُّصيري هم قادة الحزب بمختلف أطيافه المدنيَّة والعسكريَّة. في حين كان سرايا الدِّفاع بقيادة رفعت الأسد أخي حافظ، كانت معابر الدَّولة وموانيها بقيادة أخيه الآخر جميل الأسد.
عمَّ الفاسد الأخلاقي والمالي في أصقاع الدَّولة، فناهيك عن مشاركة أفراد عائلة الأسد النُّصيريَّة رؤوس أموال التُّجار، فقد استفحل أمر جنودهم النُّصيريَّة وصاروا يهاجمون المتديِّنين والمحجَّبات، ويتخطَّفون فتيات دمشق وحلب السُّنِّيَّات. ما دفع ذلك لاحقاً بالشُّبَّان المسلمون من أطياف الشَّعب المتديَّن وعلىٰ رأسهم أفرادٌ من الجماعة لمحاولة اغتيال حافظ سنة ١٩٨٠م، ولَّدت هٰذه المحاولة الفاشلة حقداً عند رفعت فأقدم علىٰ ارتكاب مجزرةٍ في معتقلي سجن تدمر أودت بحياة زهاء ٣٠٠٠ شهيد، والَّذي غالبيَّته وإن كانت من الإخوان المسلمين، إلَّا أنَّ فيه عددٌ لا بأس به من غيرهم، وحتَّىٰ من غير المسلمين، وقصَّة كاتب رواية القوقعة النَّصراني مصطفى خليفة، شاهدة علىٰ ذٰلك، إذ قد اعتُقُل لمدَّة ١٣ عاماً في سجن تدمر، بأي تهمة؟ بتهمة الانتماء لجماعة الإخوان المسلمين! تخيَّل! مسيحي، متَّهم بالانتماء لجماعة إسلاميَّة.. والله إن شرَّ البليَّة ما يُضحك.
ولَّدت هٰذه المحاولة قرار قانون رقم ٤٩، بإعدام كل من ينتمي للجماعة. الَّذين حدثت فيهم تغييرات جذريَّة قبل ذٰلك، أودت إلىٰ انفصال الجناح الحلبي بقيادة الشَّيخ مروان حديد الميَّال للقتال، عن الجناح الشَّامي الميَّال للمسالمة. فأسَّس الشَّيخ رحمه الطَّليعة المقاتلة، وشنَّ بها غاراتٍ علىٰ قوَّات النِّظام، وكان قاصمة ظهر الغارات تلك، قيامه بعملية علىٰ مدرسة المدفعيَّة بحلب بقيادة النَّقيب المُنشق إبراهيم اليوسف عام ١٩٧٩م وقد نفق في ذٰلك الهجوم ٣٢ شخص من الطلاب النُّصيريِّين العسكريِّين. أتبع ذٰلك قصفٌ عنيف لمعاقل جنود الطَّليعة رضوان الله عليهم والمدنيِّين في جسر الشغور وأرياف حلب والمدينة، ومن ثم ختمها النِّظام المجرم في مدينة حماة سنة ١٩٨٢م، إذا أقدم علىٰ محاصرتها، وقصفها واقتحامها، بتهمة وجود ٣٠٠ مقاتل من الطَّليعة فيها. حتَّىٰ أسفر ذٰلك عن ٤٠ ألف شهيد من المدنيِّين. بهٰذه المجزرة انتهىٰ الكفاح المسلِّح المعارض ضد نظام حافظ النُّصيري. وبدأ عهد المشاكل الداخليَّة، إذا استغل رفعت مرض أخيه حافظ حين دخل في غيبوبة سنة ١٩٨٤م، وحاول الانقلاب عليه. حُلَّت المسألة لاحقاً بخروج رفعت من سوريا، مع مبلغٍ مالي؛ أفرغ خزينة الدَّولة لولا هرع الرَّئيس اللِّيبي معمَّر القذَّافي لمدِّ خزينة سوريا بأموالٍ تفي.
استمرَّ حافظ الأسد بسياسته المزعومة في مقاومة الصَّهاينة، وهو من جانبٍ يدكُّ معاقل منظَّمة التَّحرير الفلسطينيَّة في لبنان، ويدَّعي العروبة والقوميَّة وهو الَّذي لم يكفهِ فقط عداء حزب البعث في العراق، بل حذا به الأمر أن مدَّ يد العون لإيران الفارسيَّة في حربها ضد العراق العربيَّة. بل وحرَّض القذَّافي علىٰ دعم إيران ضد العراق! بالرَّغم من أنهم يتبعون لنفس الحزب ونفس اللُّغة ورُبَّما العرق! وكلُّ هٰذه الشَّنائع لم تصدُّ دول الخليج العربي عن دعم حافظ النُّصيري.
بقي حافظ في السُّلطة، وصار يجهِّز ولده المجرم باسل الأسد ليعتلي الحكم من بعده، غير أن الأجل قد وافىٰ باسلاً، فنفق في حادث سيرٍ كما زعموا عن نواحي دمشق، سنة ١٩٩٤م. قصمت هٰذه الحادث ضهره، واستدعىٰ بعدها ابنه الآخر بشَّار، الَّذي كان يدرس طب العيون في إنجلترا كما زعموا، وبدأ بتجهيزه ليحلَّ محلَّ أخيه في دولة جمهوريَّةٍ تقتضي انتقال الحكم بالانتخابات لا بالوراثة. ولم يمنع ذلك مجلس برلمان الأسد المسمَّىٰ زوراً "مجلس الشَّعب" لتعديل المادة رقم ٨٣، بضرور أن يكون عمر المرشَّح الرِّئاسي ٤٠، ليصير ٣٤.. وهو نفس عمر بشَّار الأسد.
لتبدأ حينها حقبة الأسد الإبن.. ألحقه الله بالأب والجد.
تعليقات
إرسال تعليق