زيدٌ التَّائه ٢: بواكير المسألة

 


كفِّي الملاَم وعلِّليني
فالشَّكُّ أودىٰ باليقينِ

إنَّ الحياة لا تطيبُ لإمرئ علىٰ الجُملة، وأمره فيها في تقلُّبٍ وتذبذبٍ، لا تعطيه إلَّا كما تُعطيه الفلاةُ سراباً في وسطها، لا ماء فيها يسدُّ ظمأه، ولا يروي عطشه، ولعمري إن أجهل الناس من وثق بها واطمأن إليها، وركن إلىٰ عهدها وذمَّتها. كائنٌ هو لا ريب في مغبَّة المخادعة، ومستودع السَّذاجة إن أقدم عليها بتلابيب روحه، وبكلِّ نفسه، وبكامل عقله وقلبه، ولٰكنَّه بني البشر يقدمون علىٰ هلاكهم بأيديهم.. فمن يعتبر

عادَ حسن لتوِّه من الجامعة، وقد كان يوماً علىٰ حمله، وشدَّة قيظه أهون ممَّا لاقىٰ في الجامعة من فجأة الاختبار، وفاجعته الَّتي مرَّ بها كثيراً، غير أنَّهُ مازال لم يعتدها، وحين ألفىٰ نفسه عند حضرة الامتحان الَّذي عنده يُكرمُ المرءُ أو يُهان؛ فكأنُّه يشهده لأوَّل مرَّةٍ. وقال يُحدِّثُ نفسه: حتَّىٰ لو كنتُ فيها علىٰ أهبَّة الاستعداد، وأعلىٰ درجات الجاهزيَّة، وأقرب إلىٰ المحضِّر منها عن المتغافل عن أمرها؛ أراني علىٰ ذٰلك مستصعبٌ لتلك اللَّحظة. وعلىٰ كلِّ حال، مضىٰ أشُدَّه، وانطوىٰ أثره، وعفىٰ أوانه، أفلتُ إلىٰ المنزل، وقد ابتعتُ في طريقي حاجيَّات المقلوبة، قد مضىٰ عهدٌ عليَّ منذ مقدم اسبوع الاختبارات لم أخطو في المطبخ خطوات طبخةٍ، اكتفيت فقط بالشَّطائر والفطائر لا أكثر، وعند مدخل العمارة، فقتحتُ دُرْجَ البريد علىٰ مدار العادة، لأرىٰ هل أرسل زيدٌ رسالةً، وقد مضىٰ اسبوعين ولم يُرسل شيئاً، وقد تقولون لمَ لا تُراسله هاتفياً ونحوه، وقد أُنصفكم علىٰ قولكم هذا، أنتم لا تعلمون أنَّه منذ أن خرج من عندي ترك الهواتف، وصارت حياته أشبه بحياة أجدادنا، إمَّا عبر البريد، أو رسالةً يُعطيها لأحدٍ يقدم إلىٰ المدينة، من الحيد أنَّه لا يستعمل الزَّاجل، ولعلَّه بحث وما وجد غير الغربان! الغريب، أنِّي فتحتُ الدُّرجَ فوجدتُ رسالتين، والواضح من الظَّرفين كِبَرُ حجمهما علىٰ غير العادة، وقد تساءلت وأنا أُمسكُ بهما هل يا تُرىٰ كتبَ كلَّ حكايته، يُريد أن ينتهي من سردها بهٰذه السُّرعة، رُبَّما أصابه من التَّعب لشدَّة كِتمان حدَّاً حذا به أن يبوح بكل ما يعتريه صدره من ألم حكايته. إن كان قد وصل إلىٰ هٰذه الدَّرجة من أمره، وبلغ به هٰذا الجهد، وأدركه العناء والعنتُ؛ فالأمر إذن أكبر ممَّا ظننتُ، وأشدُّ ممَّا تخيَّلتُ، ولعمري إنِّي لأراني الآن أحوج ما أكون إلىٰ الذَّهاب إليه، والنَّظر في أمره، أحسبُ إن تركته قليلاً بعد أن يسوء أمره، ويعتري الخطب الجليل وجهه فنُبْهَتُ به مصيبةً وبليَّةً نحن في غنىًٰ عنها!

صعدتُ من فوري، وتوجَّهتُ إلىٰ المطبخ، وفتحتُ الدَّجاج، وقطَّعتهُ، ثمَّ غسلته، ووضعتُ الماء في طنجرةٍ، ثم فوق النَّار ركنتُها. عمدتُ إلىٰ الكنبة المجاورة للمطبخ، استللتُ الرِّسالة الأولىٰ، فتحتُ الظَّرف، وإذ أمامي ثمانية أوراق!

«إلىٰ حسن
كيف حالك يا صاحبي
وصلني مكتوبك المُقتضب، وشعرتُ أن قولك صحيحُ بصورةٍ ما، وقد تقول مالني أوافقك الرَّأي، إذ هٰذا ليس من عادتي، ولا هو من دأبي، وليس طريقتي في موافقة أيِّ أحدٍ، أيَّاً كان. ولٰكنَّها الأيام يا صاحبي، تُنبيكَ بكلِّ جديد، وتدلي بدلوها عليكَ بحملٍ ليس كالَّذي حملته يوماً، وبثقلٍ لا تحسبُ الخنفساء تحمل مثله:
ستُبدي لكَ الأيَّام ما كنتَ جاهلاً
وتأتيكَ بالأخبارِ من لم تزوِّدِ

وتأتيكَ بالأنباء من لم تبِع له
بتاتاً ولم تضرب له وقتَ موعدِ

سأُبدي لك الآن ما كنتَ جاهلاً يا صاحبي، وأطلعك علىٰ الحوادث الَّذي ألمَّت بصاحبك التَّائه هٰذا، فأعِرني انتباهك، واصرف نظرك إلىٰ ما أقول:
لمَّا رأيتُها خلتُها لحظةً عابرةً، لا تلبث أن تنقضي، وتأتي بعدها لحظاتٌ تصير في ذاكرتي كحدثٍ عابرٍ، كأن تذهب إلىٰ بقَّالةٍ في مدينةٍ مررت بها إلىٰ أخرىٰ، فرأيتَ بائعاً فيها، أتُراك تحفظ شكله واسمه وصوته؟ لا تفعل عادةً، ولا أحسبُ أحداً يفعل. سألَتْ سؤالاً، واجتزأتُ الجواب علىٰ غير عادتي، إذ كما تعرف أحبُّ أن أمهِّد الإجابة علىٰ رويَّةٍ، وأحبُّ أن أُقدِّم للمقدِّمة، ثم أنتقل إلىٰ المقدِّمة ذاتها، ولو استطعتُ لقدَّمتُ لمقدِّمة المُقدِّمة، أراني بذٰلك مُضطرَّاً حتَّىٰ لا يُفهم كلامي بغير ما أردتُ، وألَّا يُجتزأ من صُلب موضوعه ويُوضعَ في غير مكانه المعهود. ولكنَّي أمامها وجدتُ نفسي مختلفاً، غير الَّذي أنا علىٰ حقيقته، وقد أعزو هٰذا لبُعدي عن محادثة النِّساء علىٰ الجُملة، هٰذا طبعي الَّذي جُبِلتُ عليه، فما أصنع؟

مضىٰ ذٰلك ولا أريدُ الحديثَ عنه كثيراً. ليس الأمر أنِّي لا أريد، المسألة أنِّي لا أذكر شيئاً كثيراً عن تلكم الدقيقة الَّتي هي بحجم ساعة.. أتدري لكأنَّ مفهوم النِّسبيَّة يترآىٰ للمرء معناها الحقيقي بتلك الصُّورة.

انشغلتُ كما تعلم بأحاديث الجامعة، والدِّراسة، والكُتُب، أنت ترىٰ أنِّي لرُبَّما أنسىٰ طعامي أن آكله ولا أنشغلُ عن الكتاب أقرأه، أو حتَّىٰ أن آكله كما كانت تمُنُّي نفسها بذلك أمُّي. وهٰذا الانشغال التَّام بين تثقيف الجامعة وتثقيف النَّفس هو ما كان يُصدُّني بحقيقة الأمر يا صاحبي، وما كان في بالي هدفٌ طِوال الثلاث سنين الَّتي خلت منذ دخولي الجامعة إلَّا هٰذا الأمر من الانشغال، ما كان يطرا عليَّ أمرٌ آخر، وقد كنتُ أذكر كثيراً من أصحابي الآخرين -قبل أن أعرفك- يتنادون في الذَّهاب إلىٰ صالة البلياردو أو ألعاب الڤيديو أو إلىٰ المقاهي وغيرها. ولم يكُن هذا من هوايتي، وما كنتُ أستسيغه، لا أقول لك اعراضي عن تلك الهويات من مبدأٍ دينيٍّ، لا؛ فإنَّ بعضها ما كان يُعارضه، غير أنَّها النَّفس تهوىٰ أشياءً، وتُعرضُ عن أشياء، وإنَّما أنت بعزيمتك تُطبِّعها علىٰ ما تُريد:
فقلتُ لها يا عزَّ كلُّ مصيبةٍ
إذا وُطِّنت يوماً لها النَّفسُ ذلَّتِ

فصرفتُ نفسي عن المُغريات، وحملتُها علىٰ المكاره حملاً، ودفعتها دفعاً، وجُلتُ في مرمىٰ العلم شوطاً، أمالي الشَّيطان والنَّفس فأغلبهم تارةً، ويغلبوني طوراً. والحرب بيننا سجالٌ، لا يغلِبُ فيها طرفٌ إلَّا ويُغلَب. وبتُّ علىٰ هٰذا ما شاء الله كان، حتَّىٰ..

حتَّىٰ رأيتُها مرَّةً بعد عهدٍ عند قارعة الطَّريق إلىٰ ممشىٰ المدينة، فأحسبني رأيتُها من قبل -إذ نسيتُ صورتها، وأنت تعلم أن أسرُع النَّاس نسياناً-، ولم أذكُر أين، ولا متىٰ وقد خُيِّل إليَّ وقتها أنَّها ليست بعربيَّة. لذا ما جعلتُ للمسألة نصيباً في فكري، فأردفتها إلىٰ طيِّ النِّسيان. ومضيتُ في طريقي إلىٰ صاحبي (حميد)، وقد كنتُ مسرع الخطىٰ إليه إذ عاد لتوِّه من عند أهله خارج المدينة. بعد السَّلام والتَّأهيل والتَّرحيب، وعيبه عليَّ أنِّي ما ذهبتُ البارحة معهم إلىٰ صالة البلياردو، ثم أَعذَرَني إذ كرَّرتُ له سريرة طبعي، ثم قدَّم لي كيلاً من عجوة المدينة المنوَّرة، وهو العالِمُ بحبِّي لها مُفضِّلاً إيَّاها علىٰ أكثر أنواع التُّمور. فشكرتُ له هديَّته، وحمدتُ له ذوقه. ثمَّ قدم في تلك اللَّحظة (ابراهيم)، وقد مضىٰ وقتٌ ما رأيته فيه، حتَّىٰ خلتُهُ مُسافراً، وقد تقول لي أمَا كان لك هاتفاً، فتهاتفه تسأل عن حاله؟ علىٰ حقٍّ أنتَ، كنتُ أهاتفه بالطَّبع، ولٰكن طبعي -الغريب- أنِّي ما لدي فضولٌ لأعرف مكان المرء الَّذي أحادثه، ولا ما يصنع أو ما لا يصنع، أكتفي بالسُّؤال عن الحال فقط، وهٰذا أيضاً لرُبَّما ليس سوىٰ علىٰ مجرىٰ الحديث فقط لا أكثر، أي ليس لفضول معرفة حاله.. أعلم أعلم، ستتَّهمني بشوفة الحال الكبيرة، أو إذا ما أحسنت الظَّن ستراني عَيِيِّ الفهم بأساليب التَّواصل مع المخلوقات البشريَّة. رُبَّما في ظنونكَ هٰذه وجهٌ من الصَّواب لا ريب، علىٰ أنَّي لا أجهدُ في تغييره، أي لستُ معجباً بهٰذا الطَّبع ولا كارهٌ له، كليهما سيَّانٌ عندي.

جلسَ (ابراهيم) وقد وجدتهُ نحل قليلاً جسده، وازورَّ عن حاله الَّذي كان عليه، فسألته مستفهماً فقال لي لقد دخلتُ في العمل الطُّلَّابي، وكان له من الأثر عليَّ ما له، فاستنكرتُ كيف للمرء أن يدخل فيما هو مهلكٌ لبدنه، مُسقمٌ لجسده، ورُبَّما مضيعاً لوقته. تفهَّم استنكاري ذاك إذ عرفني وما أنا فيه من حبِّ الانطواء، والتَّخفِّي عن النَّاس إلىٰ كتابي وقلمي. ثم أخذ يُسهب في شرح فوائد العمل الطُّلَّابي، والتَّعرُّف علىٰ أكبر قدرٍ منهم، فهٰذا لا ريب يزع في داخل المرءِ زيادة الثِّقة بالنَّفس، ويقوِّي من الشَّكيمة، ويبعث علىٰ تعدُّد المعارف، وفيه زايدةً في العلاقات، فلعلَّ بعضهم يكون له في مقتبل أيَّامه من الفائدة والخير من حيث لا يحتسب.

أشرتُ برأسي حينها، إشارة متقبِّل لما يُقال، غيرَ أنِّي في قرارة نفسي غيرُ آبه لكلامه، ولا مقتنعٍ برأيه، فكلُّ شيءٍ لرُبَّما يُباع ويُشترىٰ، فيكون بعضه بخس الثَّمن، زهيد القيمة، والآخر باهضاً عظيماً.. كلُّ شيءٍ، كلُّ شيء؛ إلَّا الوقت، لا أرىٰ ما يعدله قيمةً ولا ثمناً. لذلك أجعل لوقتي ما يستحقُّ من التَّقدير، فلا أصرفه لما لا ينفع.

الآن يا صاحبي، عرفتُ أنَّ تركي لرأيي حول الوقت أنذاك، وانصرافي إلىٰ ما كنتُ أحذِّرُ منه جَلَبَ عليَّ ليس مصيبة إهداره فحسب، بل حتَّىٰ هي، حتَّىٰ هي، حتَّىٰ هي.»

أغلق (حسن) الرِّسالة الأولىٰ، وهو لا يدري لمَ يُسهبُ (زيدٌ) في كتابة تفاصيل لا يراها تستحقُّ الذِّكر! وقال بصوتٍ مسموع: أما كان خيراً له لو شرع في الموضوع، بدلاً من هذا الأسلوب الرِّوائي! من أخبره أنِّي مولعٌ بالرِّوايات، لاسيَّما الطويلة منها، ألم يعلم -وهو يعلم لا ريب- أنِّي لا أحبُّ الأدب الرُّوسي إلَّا بسبب التَّفاصيل الزَّائدة الَّتي لا معنىٰ لها كثيراً! لون السِّجادة، شكل فنجال القهوة، رائحة بيت جارة بطل الرِّواية، مالي ولجارته ولرائحة بيتها! لولا الأثر المعلوم للرُّوس علىٰ الأدب الرِّوائي في العالم بأسره، وما صنعوا من ثورةٍ أدبيَّة لا تُنكر؛ لَمَا قرأتُ لهم شيئاً، اللَّهُمَّ سوىٰ لليو تولستوي وأنطون تشيخوف فهم مستثنون عن هٰذا التَّوصيف. ولٰكن ما العجب، هذا دأبُ زيد، قد غرق في روايات الرِّوس حتَّىٰ انتهج أثرهم، لو تعلَّم شيئاً من كافكا وزفايغ وأدباء الألمان، باختصارهم للأحداث، وجعلهم للفكرة فوق التَّفاصيل لكان خيراً له، أو علىٰ الأقل خيراً لي.

فرغ (حسن) من بَوْحِهِ لنفسه، وعتبه علىٰ صاحبه، ثم أعاد الرِّسالة إلىٰ ظرفها، وحرَّك يده تجاه الظَّرف الآخر، يُريد فتحه، وفجأة رنَّ هاتفه، نظر فإذا بمكالمةٍ من تطبيق الواتسأب، ليس من صورةٍ علىٰ الرَّقم، ولا حتَّىٰ اسم سوىٰ هذه الإشارة (~)، أمسك بالهاتف، وفتحه:
ألو؟
لم يُجب أحد! أعاد الكرَّة..
ألو، السلام عليكم.. مين معي؟ ألو
لم يُجب أحد.. أعاد الَّذي قاله، وما أجاب أحد، ثم أُغلِقت المُكالمة! احتار قليلاً، نظر في الرَّقم فما وجد مجموعةً مُشتركة، ورمز البلد هو هو، وما استطاع تذكُّر الرَّقم بصورةٍ أو بأُخرىٰ. لم يُعر المسألة كثيراً من الاهتمام، نظر إلىٰ السَّاعة وهو متثائب، فوجدها قاربت التَّاسعة والنِّصف، أراد استكمال قراءة الرِّسالة الأخرىٰ فوجد الظَّرف أسمك من سابقه، والنِّعاس قد بلغ من مبلغاً، حان وقت النَّوم، ولعلَّه يُكمل القراءة غداً صباحاً. ثم تذكَّر الطبخة علىٰ النَّار، انصرف إليها، جهَّزها، أكل ثمَّ خلد إلىٰ نومه..

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١