حديثُ روحٍ عن قرَّة العين
تدقُّ السَّاعة الرَّابعة، معلنةً دخول وقت العصر، يشرع المؤذِّن في أذانه، ويمضي الوقت قريباً. عشرون دقيقةً ثم يعود ليقيم الصَّلاة، وقبل أن يُتمَّ نصف أذان الإقامة، أكون قد قُمتُ لحظتئذٍ إلىٰ الجامع، أهمُّ بفتح الباب، فيتناهىٰ إلىٰ مسامعي قول أبي من ورائي: يلا (بتفخيم اللَّام) أنت وإياه عالصَّلاة!
أردُّ: يابا أني راحي للصَّلاة أساساً، هل لازم عليك قولها رغم فتحي الباب؟
لَكَم كنتُ أكره تلك اللَّحظة حينها، تكرار تلك الكلمة: يلا عالصَّلاة، حتَّىٰ ولو كنتَ ذاهباً إلىٰ الصَّلاة، يُقال لك: يلَّا عالصَّلاة! حتَّىٰ لو كنتَ أساساً في الجامع تصلِّي يُقال لك: يلَّا عالصَّلاة! حتَّىٰ لو كنتَ إمام الجماعة حتَّىٰ، يُقال لكَ: يلَّا عالصَّلاة! يلَّا عالصَّلاة أوَّلاً وثانياً وثالثاً ورابعاً وأخيراً.
وقد كنتُ حينها بعقلي الطُّفولي أروِّي الأمر في داخلي، فأقول: لا ريب أن أبي لا يأمرني بالصَّلاة إلَّا لِما لها من الأمر العظيم، والمكانة الرَّفيعة، وما في تركها من إثمٍ أعظم، وذنبٍ لا يُغتفر، ولٰكن كيف تُرانب أفعل وأنا الآن أذهب إلىٰ الجامع مُكرهاً، وأصلِّي مكرهاً، فأسهو في صلاتي عن الخشوع إلىٰ تذكُّر أهداف ريال مدريد في نصف نهائي دوري أبطال أوروبا ضد بايرن ميونخ، أو لمَّا مرَّرْتُ الكرة يوم لعبنا في الخميس الماضي ضد الشَّباب الفلسطينيِّين لخالي خالد الَّذي هو بالمناسبة قرينٌ لي في العمر، أو تخيُّل أن لي هاتفاً من جيل الآيفون 5 الَّذي صدر حديثاً وقتها كهاتف زميلي الَّذي اشتراه له والده، أو تراني حتَّىٰ أتذكُّر أسخف الأشياء، ورُبَّما أسفه التَّخيُّلات فقط كي لا أنشغل بالصَّلاة؟ وظللتُ حينها أقول في نفسي: أتراني أصير منافقاً كابن أُبيِّ بن سلول، الَّذي كان الصِّدِّيقُ عن يمينه، والفاروق عن شماله، والرَّسول ﷺ أمامه.. وهو بينهم المنافق! أتراني أكبر يوماً، ثم أخرجُ شيئاً من جلباب أبي، بعيداً عنه، فلا يكون بعد رقيباً عليَّ، ولا حتَّىٰ أمِّي، فكيف أصنع حينها؟ أتراني أترك الصَّلاة علىٰ الجُملة! إذاً ما الفائدة من الصَّلاة الآن، وهٰذه الطَّريقة الَّتي يمتثلها أبي في توجيهنا للصَّلاة، الَّتي لا ريب ورثها عن والده، وهو عن والده، عن أبيه عن جدِّه، عن أبي جدِّه عن جدِّ جدِّه.. وهٰكذا، سلسلةٌ غير منقطعةٍ من التَّأديب علىٰ القيام بفرض الصَّلاة، غير أنِّي ازددتُ تفكُّراً حينها، هل كلُّهم كانوا يصلُّون وهم غير خاشعين؟ كيف يخشع المرء للصَّلاة؟ كيف يذهب إلىٰ الجامع طواعيةً، ويصلِّي لربِّه طواعيةً؟ رأيتُ أبي في منطقتي الفروانيَّة والفنطاس في الكويت، وجدِّي في بلدتي أم ولد في أرض حوران في سوريا، فلم يكن إذن هو بالرَّقيب عليه، ومع ذٰلك أبي يُصلِّي! عجباً
قد قلتُ قبل قليل أنِّي كنتُ أسهو بالصَّلاة حينها بتذكُّري للعب مباراة كرة القدم مع ثُلَّةٌ من الشَّباب الفلسطينيِّين، كنَّا نلعب في حديقة الفروانيَّة قطعة ٤، كان فيها ملعباً، لكنَّنا تركناه للصَّعايدة (من أهل جنوب مصر) والدِّيريَّة (من أهل شرق الشَّام)، ونذهب إلىٰ العشب الطَّبيعي، مساحةٌ خضراء مزدهرة، يتخلَّلها بعض الصَّفار لشدَّة الحر، وعوائل جالسةٌ علىٰ أطراف المساحاة هذه، يستظلُّون تحت الأشجار والنَّخيل. فنأتي بالحجارة، نضع اثنين منها بشكل مرمىٰ عند جهةٍ، ومثلهما عند الأخرىٰ. نُقسِّم أنفسنا، ونكون بالغالب أنا وخالي خالد بفريقٍ واحد مع ثلَّةٍ من السِّوريِّين، وعلىٰ الجانب الآخر الفلسطينيِّين، ومنهم ثلاثة إخوةٍ؛ لا أذكر اسم الأكبر ولكنِّي أذكرُ أنَّه أسمنُهُم صحَّةً، وأضعفهم في لعب الكرة. والثَّاني وهو في عمري اسمه «جهاد» وهو أطولهم وأشدُّهم قوَّة، والثَّالث وهو أصغرهم، وأمهرهم في لعب الكرة يصغرني بعامٍ ونصف أو نحوه، هو سميِّي. نعم أسهبتُ في وصف الأحداث اعذروني، وأدري أنَّها لا تهمُّ أحداً، غير أنِّي أُحبُّ ذكرها علىٰ أيَّة حال. كنَّا نلعب كلَّ يوم خميسٍ ورُبَّما الجمعة من العصر إلىٰ المغرب.. نعم، تماماً كتلك الأغنية. فإذا ما شارفت الشَّمس علىٰ الغروب، وصدع المؤذِّن بالنِّداء للصَّلاة، توقَّف أولئك الإخوة عن اللَّعب، وأخذ بعضهم يُنادي صاحبه، يذهبون إلىٰ الجامع القريب من الحديقة. أنظرُ أنا مكاني، ولم ألحق بهم، إذ لم يكن أبي بجاوري ليأمرني بمرافقتهم إلىٰ بيت الله! ولكنِّي كنتُ أعاينهم من بعيدٍ، وأقول في نفسي: ليتني مثلهم!
كانوا ينادوننا أحياناً إلىٰ الصَّلاة معهم، فلعلَّ بعضنا ذهب، وأحسبني ذهبتَ مرَّة معهم ولا أذكر ذلك علىٰ الحقيقة، كأنَّني يُتهيَّأُ لي ذلك. وقد قالوا لي قبل هٰذا أنَّ أباهم إمام جامعٍ، وشيخٌ له وزنه. فقال صاحبٌ لي يُبرِّرُ تركنا الصَّلاة: لعلَّ سبب التزامهم الصَّلاة هو عمل أبيهم! وكنتُ أدفع هذا الظَّنَّ بأن أبي يحثُّني علىٰ الصَّلاة ولا آبه، وأيضاً فقد عرفتُ غير واحدٍ أبوه إمامُ مسجدٍ، وخطيبٌ مفوَّهٌ ذا رأيِّ وعلمٍ وعمل، وعلىٰ ذلك ترىٰ ابنه أفسد النَّاس خُلُقاً، وأحطُّهم صفةً، وأسوأهم معايشةً!
مضت الأيَّام، وأنا والصَّلاة بين شدٍّ وإفلات، وجذبٍ وترك، وقربٍ وبُعد، وخشوعٍ وهروب، وإيمانٍ ونفاق، وحبٍّ وكره.. إلىٰ أن جاءت تلك اللَّحظة، يوم صدرت الفيزا من السَّفارة التُّركيَّة في العاصمة، بإمكانيَّة ذهابي إلىٰ تركيا، للدِّراسة في الجامعة. حزمتُ أغراضي، وأخذت مستلزماتي، وودَّعتُ أهلي وأحبابي، وانطلقتُ إلىٰ المطار.. وصار عندي حكايةٌ جديدٌ أرويها.
حططتُ في مطار اسطنبول الجديد، الَّذي كان قد بُنيَ حديثاً، ومضت أشهرٌ وأيَّامٌ، حتَّىٰ استقررتُ نهائياً في كوتاهيا، وبدأت حياةً أخرىٰ غير الَّتي حييتُها. في آخر مساءٍ من عام ٢٠١٩م، وأوِّل ليلةٍ من عام ٢٠٢٠م، عزمتُ علىٰ أن أجعلني مُحمَّداً آخر غير الَّذي كان؛ أن أقرأ ورداً كلَّ يومٍ، أن أطالع كتاباً ولو كلَّ اسبوعٍ، أن أُحَسِّنَ حياتي كلَّ لحظةٍ.. وأن أُصلُّي!
نعم، كنتُ أقول في نفسي أيَّام يزجرني أبي للصَّلاة، وحيت ضربني لأجلها: ما نفع ما يصنع إن كبرتُ وأنا تاركٌ لها! ثم علمتُ بعد ذلك بسنين، أن ما كان يصنعه أبي هو زراعةُ بذرةٍ في قلبي، تلك البذرة هي الاعتياد علىٰ وجود شيءٍ اسمه: الصَّلاة. وهٰذه البذرة نمَّاها ربِّي في داخلي، وسُقيت بماء الصَّبر، وبكثرة اعتراكها في نفسي، ومداومتي عليها ولو كنتُ في بعضها علىٰ غير خشوع.. لٰكنَّها البذرة الَّتي تنتظر اللَّحظة المناسبة لتنمو، وتُزهر في قلب العبد، وتصير ملازمةً له، يُقصِّر في حقِّها حيناً ويبقىٰ نادماً علىٰ تقصيره، يؤخِّرُ بعضها ويحزنُ لتأخيره، وقلبهُ متقلِّب لها وعليها، غير أن بذرة الصَّلاة فيها تجذَّرت، وقوي عودها، وصلب لُبُّها، فلا يقدر حتَّىٰ هو بنفسه علىٰ نزعها.
وأخذ ابليس يُنازعني إيَّاها يُريدُ إفسادها، فتارةً يقول: انظر، إنَّك وإذ أضعت صلاة الفجر في وقتها فما فائدة الظُّهر والعصر والمغرب والعشاء، ضيَّعتَ الفجر فكيف يقبل ربُّك الباقي؟ وطوراً يقول لي: صلِّ صلاتك أو لا تُصلِّي فما هي نافعةٌ لكَ وقد نظرتَ إلىٰ امرأةٍ حسناء بالطَّريق! ومرَّة يقول: كيف تُقبل صلاتك وأنتَ تسهو في بعض ركعاتها؟ ومرَّةً يقول: أتحسبُ نفسكَ تُصلِّيها كما صلَّاها رسولك ﷺ! هزلت وربُّ الكعبة، دعك من هٰذا المثال، فهو أجلُّ من أن تمتثله، أتراك تُصلِّي كما صلَّىٰ عبد الله بن الزُّبير! هزُلت وربِّ الكعبة! دعك من هٰذا المثال، فهو أجلُّ أيضاً من أن تمتثله، أتراك تُصلِّي كما يُصلِّي جارك السِّتيني الَّذي لا يعرف من دينه غير الصَّلاة، في حارتك في الفروانيَّة أيَّام عشتَ فيها؟ لا أظنُّك تفعل.. فلمَ مازلتُ أراك تهمُّ بالصَّلاة بعد!
كانت نفسي لَتعينه في بعض أقواله هٰذه.. فاللَّهُمَّ إنُّي أعوذ بكَ من الشَّيطان، وألوذُ بك من نفسي.
ومضَت الأيَّامُ وأرشدني الله إلىٰ ما هو خير. نعم، رُبَّما ما كنتُ لأُصلِّي كما صلَّىٰ عظيمنا ﷺ، ولا كأبي بكرٍ الصِّدِّيق -رضي الله عنه- الَّذي كان «رجلاً أسيفاً، رقيق القلب يغلبه البكاء عند قراءة القرآن» كما قالت عنه أمُّ المؤمنين عائشة -عليها السلام-، ولا عمر الفاروق -رضي الله عنه- الَّذي توافيه المنيَّة شهيداً بعدما طعنه المجوسي -خلَّده الله في جهنَّم-، يفيقُ من غيبوبته تلك، ليستفهم من النَّاس هل أكلوا صلاة الفجر أم لا! ولا ذي النُّورين عثمان -رضي الله عنه- الَّذي كان يتلو القرآن كلَّه في ركعةٍ واحد، وهو في السَّبعين من عمره! ولا كعليٍّ -رضي الله عنه-، ولا كابن الزُّبير الَّذي كان يقوم إلىٰ الصَّلاة فكأنَّه خشبةٌ لما فيه من السُّكون والوقار وانعدام الحركة! لن أكون رُبَّما مثلهم، ولعلِّي أُؤخِّر الصَّلاة، فلا أصلُّيها عند الأذان أو الإقامة، أو لعلِّي أسهو في بعض ركعاتها.. ولٰكنِّي أعلمُ علم اليقين: أنَّ مقابلتي للله مقصِّراً أهونُ من ألفيه مُفرِّطاً، وأن يُحاسبني لقصوري، أخفَّ من أن يُحسابني لتَركي.
يقول بعض العلماء، أنَّ تارك الصَّلاة ليس كافراً علىٰ الجُملة؛ فهناك المتكاسل عنها، والتَّاركُ لها جحوداً، ويفرِّقون بينه الحكم علىٰ هذا وذاك، ويستدلُّ البعض تهاوناً بقول محمد الغزالي، إذ سُئِل عن جزاء تارك الصَّلاة، فقال: أن تأخذ بيده إلىٰ الصَّلاة!
أقول لكم: حديثُ عظيمنا ﷺ واضحٌ جليٌّ لا تشوبه شائبة، ولا يُكفهِرهُ ضباب: ❞العهد بيننا وبينهم الصَّلاة فمن تركَها فقد كفر❝¹، وقال: ❞بين الرَّجل وبين الكُفر والشِّرك تركُ الصَّلاة❝²، وقال التَّابعي الجليل عبدُ الله بن شقيقٍ العُقيلي -رضي الله عنه-: «لم أرَ أصحاب رسول الله ﷺ يعدُّون شيئاً تركُهُ كفرُ إلَّا الصَّلاة». وقبل كلِّ هٰذا، قال الله ﷻ في كتابه الكريم: ﴿فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيَّاً﴾³، وقال: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾⁴
يقول عظيمنا ﷺ: ❞حُبِّبَ إليَّ من دُنْياكمُ النِّساءُ والطِّيبُ وجُعِلَت قُرَّةُ عَيني في الصَّلاةِ❝⁵، وكانت آخر وصاياه كما قال عليٌّ -رضي الله عنه-: ❞آخرُ كلامِ رسولِ اللهِ ﷺ الصَّلاةَ الصَّلاةَ! اتَّقوا اللهَ فيما ملكت أيمانُكم.❝⁶
اللَّهُمَّ يسَّرتَ لنا دعاءك في دوامنا علىٰ الصَّلاة، فلو أنَّك تُحبِّب إلينا الصَّلاة كما هي قُرَّة عين حبيبك وخليلك ﷺ، ويوم قال: ❞أرحنا بها يا بلال❝⁷.
ــــــــــــــــــــــــ
¹: التِّرمذي، والنَّسائي، وابن ماجه، وأحمد.
²: صحيح مسلم.
³: سورة مريم: الآية ٥٩.
⁴: سورة الرُّوم: الآية ٣١.
⁵: أخرجه النَّسائي، وأحمد باختلاف يسير، والبيهقي.
⁶: أخرجه أبي داوود، وأحمد.
⁷: صحيح أبي داوود.

تعليقات
إرسال تعليق