أحاديثٌ غير مهمَّةٍ عن صاحبكم هٰذا ١

 


لستُ هاهنا أحدُّثكِ عن شيءٍ من السِّياسة، ولا عن بعض أمور اللُّغة والبيان، ولا عن فتاتٍ من التَّاريخ، ولستُ كذلك في موضعٍ أهمُّ به بالتَّفلسُف عليكِ، ولا أرصُّ عندكِ الكلمات تحذو الكلمات، والمفردات تتلو بعضها، لا أصيغها لكِ علىٰ قالبٍ أُشبِّهُ نفسي إذ أنحتهُ بكُتَّابنا القُدامىٰ، وأدبائنا الأسلفين. ولستُ الآن لأضع أمامكِ عباراتٍ أسوِّد ورقها لأجعلها مثلاً وعبرةً، وما أنا في آنكِ هٰذه لأبرهن علىٰ حسنِ تعبيري، ولا جميل بياني، ولا بلاغة قولي، ولا حتَّىٰ ثقافةٍ قيل أنِّي أمتلك ناصيتها، إنَّما ذكرتُ منذ حينٍ شيئاً عالقٌ فيَّ رغم غربتي الطويلة هٰذه أحببتُ أن أسردها عليكِ، فهلَّا أنصتِّ؟

منذ مطلع مقدمي إلىٰ تركيا، بعيداً عن أهلي، كان لم يزل فيَّ أثرٌ من ذلك الاعتياد علىٰ رتابةٍ متأصِّلةٍ في حياتي عند أسرتي، أنَّ أفعالي وأقوالي محسوبةٌ بالملِّي، وأنا غدُوِّي ورواحي معدودٌ، وموزونٌ بطريقةٍ أو بأخرىٰ، وأنَّ فعائلي وصنائعي معلومةٌ غير مجهولةٍ عند الجميع، وأنَّ الخصوصيَّة هنالك ترفٌ، وأنَّ الاشتراكية هي أساس البيت حينها، والشِّيوعيَّة محور ذاتها، وعنوان مسكنها، وأنَّ الرَّأسماليَّة هنالك مُعدمةٌ لا حول لها ولا قوَّة، وأنَّها مستهجنةٌ في عيون سكِّان البيت، فلا الشَّاحن ملككِ، ولا الهاتف خاصٌ بكِ، وما الرَّائي إلَّا سلعةُ البقاء للأقوىٰ، والأقوىٰ أنذاك كان أصغر من في المنزل، ثم يليه إناث البيت لأنَّهن لا يخرجنَ كثيراً كما تدَّعي أمِّي ذٰلك، ويوافقها أبي علىٰ ما تقول مقتنعاً، وكأس الماء إن طلبتهِ من إخوانكِ فلا ترينهم إلَّا سائلوكِ هم عن سنين مضت طلبوا منكِ ذات الكأس وما أعطيتهِم، وتحجَّجوا بأمورٍ مترعاتٍ واهيةٍ سردوها عليك لحاقاً متتابعات، فكأن البلاغة انقادت لهم، أو كأنَّهم تخرَّجوا من مدرسة ابراهيم -عليه السلام- في المناظرة.

والوالدة؟ نعم هٰذا أمرٌ آخر، العلاقة العامَّة بين الطفل وأمِّه فقط علاقة أمٍّ وطفل، أمَّا في شرعي أنا الأمر فيه فارقٌ كبير، لا تنتهي علاقتي بأمِّي بمبدأ الأمومة والبنوَّة فقط؛ لا، يصل الحدُّ إلىٰ الصَّداقة تارَّةً، والمنافسة تارَّةً أخرىٰ، ورُبَّما إن أغضبتني قليلاً، ثم هاتفتُ أبي بعدها، أقول له: شلون مرتك؟! نعم الأمر كان ولا يزال علىٰ هٰذا النَّحو، وليس أبي ببعيدٍ عن أمِّي في ذات المسألة. تظنُّ أمُّي أنَّها لأنَّها أمِّي ليست إذن سوىٰ والدتي! وأين حقُّ الصُّحبة يا أمَّ مُحمَّد؟

وقد أعجبُ أنِّي أخدعُ من أمِّي في كلِّ كرَّةٍ وفي كلِّ مرَّة، توقظني للمدرسة أو العمل فتقول: تأخرت يا مُحمَّد، الساعة ٠٨:٣٥، يلَّا قوم لحِّق شغلك أو دراستك. لأقوم مسرعاً فأغسل وجهي وشعري، وأمشِّطه، وألبس وأتعطَّر، وآخذ حقيبتي، أتوجَّهُ للباب وإحدىٰ قدميَّ لم يأخذ الجورب حيزَّها بالكامل، لأنظر إلىٰ السَّاعة فأجدها لم تتجاوز بعد السادسة والنُّصف! يا للعجب! المؤمن لا يُلدغ من الجُحر مرَّتين، وأنا تركتُ العدَّ بعد المرَّة العشرين. نفس الأمر وذاته حين تطلب غرضاً من البقَّال، فأتأفأفُ (سامحني الله كنتُ غرَّاً)، وكلِّي يقينٌ بأنَّ كبري عن أخواني يخوِّلني بأن أرفض هٰكذا طلبات، وأن توكل إلىٰ من يصغرني، أمَّا أنا فليُترك لي الانشغال بهموم الأمَّةِ، ومصائب وطننا الإسلامي، وإصابات لاعبي ريال مدريد. فما يكون من أمِّي إلَّا وقد اكتوت من صمتي المطبق، ومن رفضي المتكرِّر، لتُنادي علىٰ أختي وتقول: جيبي لي عبايتي يا ملاك! جيبي لي عبايتي يا مها! خلُّوا أمكم تنزل وتفاصل الزُّلم علىٰ الأغراض وأنتم اقعدوا العبوا بس تا يجي أبوكم!

أنا أعلم، وأنتِ تعلمين، وأمِّي تعلم، وأبي يعلم، وأختَيَّ مها وملاك، والجيران، والأمَّة العربيَّة والإسلاميَّة، والأُمم المتَّحدة، ولاعبي ريال مدريد، وبائع الفول المدمَّس عند زاوية مقهىٰ الفروانيَّة قطعة ٤ يعلم: أن أمِّي لن تنزل! ورغم ذٰلك، أنزل وقد رضختُ لهذا الابتزاز (عيني عينك). كيف الخلاص؟ ألا يا ليت لي بمثل ذٰلك الموقف مرَّة أخرىٰ، فتأمرني أمِّي، وأرفض بدوري، لتقول لي كما كانت تقول: جيبي لي عبايتي يا ملاك! جيبي لي عبايتي يا مها! خلُّوا أمكم تنزل وتفاصل الزُّلم علىٰ الأغراض وأنتم اقعدوا العبوا بس تا يجي أبوكم! وأذكرُ أنِّي ما ذهبتُ لابتياع ملابسٍ لي بعد أن يكون قد جفَّ حلقها لكثر ما تُسمعني قولاً أن أذهب لشراء ملابس، فلا أستطيع شراء قطعةٍ دون أن آخذ برأيها فيه. رأيُ أمِّي في اختيار الملابس مقدَّمٌ علىٰ رأيي، وأحسبُ أن قُدِّر لها المشاركة في فيكتوريا سيكريت، لما كان لأمثال كوكو شانيل أو كالفن كلاين أن يتربَّعوا علىٰ المرتبة الَّتي حازوها، غير أنَّ الحظوظ أقدار، ولحسن الحظِّ أنِّي وأبي وإخوتي حزنا هٰذا الحظَّ لوحدنا. 

كما قلتُ في مطلع هٰذه الخاطرة، أنِّي كنتُ دائماً ما رهنتُ أموالي تحت تصرُّف أمِّي، فما إن قدمتُ إلىٰ تركيا حتَّىٰ وجدتُ أنَّ هناك معضلةٌ عير معضلة الغربة والوحدة الَّتي سأعيش فيها، وأنا بعيدٌ عن أهلي وأصحابي وأناسي؛ أن كيف سأشتري ملابس تليق بي؟ كيف سأتصرَّفُ بأموالي؟ كيف سأذهب إلىٰ البقَّال دون أن أحفظ قائمة المشتريات الَّتي كانت أمِّي تكتبها لي، كما تكتب شركة قرطاسيَّةٍ فاتورةً للسُّوق الَّذي ستعرِضُ منتجاتها فيه، قائمة تتجاوز طولي إن قيست. كنتُ أجهل كيف سأتعامل مع موضوع التَّفرقة بين الكزبرة والبقدونس، ولكن لحسن الحظِّ أن أهل كوتاهيا لا يعرفون الكزبرة، لذٰلك حللنا معضلةً، بقي غيرها. وبالنِّسبة لموضوع شراء أفضل نوع جبنة، كيف سأتعامل معه؟ ناهيكِ عن أنواع الرُّز الكثيرة، وأشكال الزيوت الَّتي قد حفظتُ الشَّركات الَّتي تبيعها الموجودة في الكويت، فعلمتُ بفضل أمِّي الفرق بينها، وأيُّها أفضل. وقد كان ما يُثير عجبي أنَّي لا أذكر أمِّي قد ذهبت إلىٰ فرع الجمعيَّة¹ في الفروانيَّة، ورغم ذٰلك تعرف أسعار أغلب المنتجات!

أكتفي إلىٰ هٰذا القدر، علَّني أكمل الحديثَ عن أمِّي لاحقاً، كذلك عن أبي.. وهٰذه حكاية أخرىٰ أكبر!

ــــــــــــــــــــــــ
¹: وهو مركز تسوُّق قائم في الكويت، يكون تساهمي بين المواطنين مدعوماً من الحكومة، فتجد الأسعار أرخض.

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

لعلَّك تميلُ إلىٰ العمل في الاتِّحاد بعد أن تقرأ هٰذا

قصَّة قصيرة: عودة سيف الله