زيدٌ التَّائه ٣: صدفةٌ تتلوها صدفة

 

ما كنتِ للقلبِ إلَّا فتنةً عرضت
يا حبذا أنتِ من معروضة الفتنِ

«في ربيع ذاك العام يا صاحبي، كنتُ مشغولاً إلىٰ ذٰلك القدر في كتابة روايتي الَّتي تعرف: الغفران. وقد كان من صلب المشاكل الَّتي واجهتُها أن أجد دار نشرٍ لها من الإنصاف ما يُحسن لي طبع الرِّواية والاستفادة منها، لا أن يشرعوا كما دأبهم في استغلال عملي الأوَّل، وقد أحاطوا علماً بأنَّها عملي الأوَّل، ولستُ بذي شهرةٍ، فأبوا إلَّا أن يعطوني فقط ٧٪ من حقوق الرِّواية، زاعمين -كما هي حجَّتهم الدَّائمة- أنَّهم سيحتملون الخسائر إن فشلت! ولا أعلم من أخبرهم أنَّها ستفشل! حتَّىٰ ثقتي بنفسي الَّتي أبديتها أمامهم بذاك القول لم تُعِر انتباههم، بل سخروا، وهمزوا ولمزوا، وقالوا: كان مثلك الكثير، وانظر إلىٰ هٰذه القائمة خلفك من الأسماء، أترىٰ؟ لن تعرف أحداً منهم، لأنَّهم اقتنعوا بأن الكتابة أمر مختلفٌ، فرضوا من الغنيمة بالقناعة، وعادوا من حيث أتوا. ولٰكن ما العمل وقد يأستُ من البحث، فقبلتُ مُرغماً، ووقَّعتُ العقد، وانصرفتُ عائداً إلىٰ البيت. وكان من دأبي المعتاد أن أمرَّ علىٰ المكتبة العموميَّة الكائنة عند مبنىٰ البلديَّة، أكتب فيها مقالةً وخاطرةً، وأقرأ فيها ما تيسَّر لي من كتابٍ لعبد الوهَّاب المسيري. أحياناً أجدُ نفسي فيها مُنعَّما بعيداً عن الأجواء الاعتياديَّة الرتيبة الَّتي أعايشها، كأنَّ هذا خروجٌ عن الواقع المُستمر، وتنحيةٌ عن الوقت المتسلسل، الَّذي لا ينقطع لراحةٍ، ولا ينفكُّ لسكون.

طلبتُ استكانة شايٍ كعادتي، وشرعتُ أكتب، أتركُ العنوان إلىٰ أن أفرغ من المقالة لأفكِّر فيه. أطرقتُ رأسي، واستمرَّيت في الكتابة، ثم رفعته قليلاً وقد وصل النادل ليضع الاستكانة، فشربة رشفةً لعلَّها أحرقت لساني، وداومت من حيث انقطعت لبرهةٍ سلسلة أفكاري، أعدتُ رفع رأسي لأشرب الشَّاي فلمحتها تنظر إليَّ، هي نفسها! ثالثةً! لم أدرِ ما أصنع، أطرقت رأسي أعاود الكتابة فما استطعتُ إلىٰ ذلك سبيلاً، كأنَّ الأفكار تبخَّرت، وكأنَّ الكلمات تطايرت، وكأنَّ الحروف مبعثرةً، فما تجتمع لتكوِّن كلمةً أسيلها حبراً علىٰ القرطاس، لكأنَّك تُبصر الحروف كما باللُّغة الفارسيَّة، عربيةٌ حروفها، أعجميَّةٌ معانيها! علىٰ أنَّني حاولت الكتابة ما استطعت، وجهدتُ في صرف تفكيري لما أردت وما قدرت، أحياناً صرف الفكر إلىٰ ما ليس إليه منتبهاً فيه جهدٌ خاوٍ.
تمثَّلتُ بنفسي حينها أنِّي أكتب وأفكِّر، ومكثتُ علىٰ ذلك بُرهةً، ثمَّ وقفت قياماً وقد أنهيتُ شرب الاستكانة، وتوجَّهتُ نحو المُحاسب، وخرجت من المكتبة. أقصدُ الجامعة من لحظتي وعلىٰ أنَّه ليس لي من دروسٍ لأحضرها واليوم الأربعاء، غير أنِّي أردتـ بذلك الخروج من تلك اللَّحظة، ولرُبَّما وجدتُ أحداً من أصحابي هناك فأصرف وقتي معهم شيئاً قليلاً.

في الجامعة ترىٰ مختلف التَّيارات والمشارب الفكريَّة، وترىٰ النَّاس اتَّفقوا علىٰ الاختلاف، وتميَّز بعضهم عن بعض. فإنَّ ثلَّةً منهم وإن اتَّفقوا بالغاية، فقد تباينوا بالوسيلة، وإن اجتمعوا علىٰ الوسيلة، فقد تمايزوا بالغاية. وتراها علىٰ صغر حجمها -إن قُورِنت بدولة- فقد تفرَّعت أجناساً وألوان هاهنا بالغربة. ولرُبَّما أبصرتَ الواحد يحنُّ إلىٰ بني قومه وإن تباعد، وما ذٰلك إلَّا أنَّه اغترب. ومن سبيل نبذ هٰذه الغربة، كان قد وصِل إلىٰ مسامعي جلسةً أنَّ هناك تحمُّعاً، كان قد حدَّثني ابراهيم عنه، يقوم عليه أناسٌ من بني وطننا، فعزمتُ علىٰ الذَّهاب والمشاركة في نهاية الاسبوع علِّي أخرج من دور الرَّتابة هٰذه. وعلىٰ أنَّني كارهٌ لمثل هٰذه المشاركات إلَّا أنَّها فرصةٌ للتَّعرُّف أكثر فأكثر. وهناك قابلتُ ابراهيم، وهو مشاركٌ في التَّجمُّع الطُّلَّابي، عضوٌ مؤسِّسٌ فيه، فأخذ يشرح لي عن الدَّور المنوط بهم في تهيئة السُّبل للطُّلَّاب الجامعيِّين في الغربة، وجمعهم تحت سقف واحدٍ ومِظلَّةٍ جامعة واحدة.
أجزمُ لك يا صاحبي أنِّي مُحجمٌ عن الدُّخول في هٰكذا أمور، وأنَّي منشغلٌ بحياتي الخاصَّة، منطوٍ علىٰ نفسي وشؤونها كما تعلم، ولٰكن لا أعلم سبب إبدائي الرَّغبة حينها بالانضمام إليهم، حتَّىٰ أنَّ ابراهيم استغرب عرضي ذاك ومبادرتي، وحسبَ أنِّي أمازحه، ولم يصدِّق حتَّىٰ أقسمتُ له بجدِّيتي. لا أعلم، أشعر أنَّ من نطق بذاك العرض ليس أنا، إنَّما هو شيءٌ مُقدَّر، قد جُبِلتُ علىٰ شيءٍ في تلكم اللَّحظة، علىٰ غير ما أريد أنا، ولو تُرِك لي الأمر بمحض إرادتي، ورأيي الخاص، لقلت له: بارك الله جهودكم، وزادكم قوَّة وعزماً، وسهَّل لكم طريقكم إلىٰ الخير. ثم انصرفتُ عائداً إلىٰ مقهىٰ لوحدي، أو إلىٰ منزلي، أفتح كتاباً أو أكتب مقالةً، وأشغل نفسي فيما أحبُّ ولا يأخذ مني الحهد والتَّعب، وعناء مخالطة النَّاس وشقاء مجالستهم.

تذكُرُ أنت ذٰلك لا ريب، فقد عدتُ حينها للمنزل وأخذتَ تزغردُ كما تفعل النِّساء تماماً لمَّا سمعتَ الخبر منِّي. الأمر كان عجباً علىٰ الجميع ليس عليكما فحسب. وغاية أملي حينها أن لا أملَّ من رتابة حياتي، وأن يخرج الإنسان عن بعض طور عادته ألا يسأمها، فالاعتياد يورثُ الملالة، والملالة تورثُ النَّكد.
كان شكل التَّجمُّع الطُّلَّابي يقوم علىٰ توزيع المهام بين الأعضاء المتطوِّعين إلىٰ لجان، وأنا بحكم اشتغالي في الإعلام كما تعلم، قد رُهِن إليَّ أمر اللَّجنة الإعلاميَّة، وأوكل إليَّ إدارة حسابات التَّجمُّع وأمور التَّصوير والتَّوثيق.

مضت الأيَّامُ تتبعها أيَّامٌ حتَّىٰ أن كان في أحد الاجتماعات المقرَّرة وجدتها متواجدة. نعم هي بذاتها مرَّةً أخرىٰ، ولم أعلم حينها هل انضمَّت حديثاً، أم أنَّها كانت منضمَّة سابقاً، أم لسببٍ آخر هي متواجدة، أو لعلَّها مجرَّد متطوِّعةٍ لا أكثر. استمرَّ الاجتماع كما هو عليه، وأحسبُني صرتُ أُخالسها النَّظر بين الفينة والأخرىٰ، أرفع طرفي لحظةً إليها وأرمي به بعيداً عنها. مضىٰ الاجتماع، وما تكلَّمت شيئاً، وقد أُنيط إليَّ المشاركة في رحلةٍ قُرِّر تنظيمها لأجل التَّصوير وخلافه. فرغتُ، ثم انطلقت عائداً إلىٰ الحديقة.. أحياناً تجعلكَ الحياة في أمرٍ أنت في غنىًٰ عنه، أو لعلَّك تحسب نفسك كما تظُن، ومن ثم تودي بك هٰذه الحياة إلىٰ قراراتٍ وأمورٍ لو صرفت نفسك إلىٰ غيرها بمحض إرادتك لما قدرت، ولما استطعت، الأمر أكبر من مجرَّد إرادة، الأمر وكأنَّه حكمٌ مجبولٌ أنت عليه، تسير إليه دون اعتراض، وتسعىٰ إليه وأنت غير مريدٍ له ولا مُشيء، ولو تبصَّرتَ في هٰذا المعنىٰ بمثال عبورك الطَّريق، ترىٰ السَّيارة قادمة، فتُسرعُ أنت في العبور رغم أنَّ بإمكانك التَّوقُّف مكانك، والسَّيَّارة تزيد في سرعتها، وأنت تزيدـ كذلك، لا تستيطع أن توقف تفسك، وتعلم في يقينك أنَّك ذاهبٌ إلىٰ حتفك..»

قاطع قراءة حسن المكتوب صوت الهاتف يرن، فترك الرِّسالة متأفِّفاً، وتوجَّه نحو الهاتف، أمسك به: ألو، مين معي؟
ولم يُجب أحد
كرَّر القول: ألو.. ألو.. ألوووو؟
ولم يجب أحد، ثم أُغلِق الهاتف لوحده، حار في هذا الأمر، ثمَّ قال في نفسه: لعلَّ أحد أصحابي المستفزُّين يكرِّرون أفعال الطفولة والصِّبا.
توجَّه نحو الموضأة، توضَّأ، وصلىٰ الفجر، ثم ذهب إلىٰ المطبخ يُحضِّر فنجال قهوته المرَّة المعتاد، الَّذي لا يستقيم له يومه دونه، ولا يعيش بهناءٍ بغيره، ولا يقوىٰ علىٰ مواصلته دون رشفاتٍ ثلاث، يُذهبُ معها بريق النَّوم، ونُعاساً يستفردُ به إن جلس علىٰ الأريكة يريد القراءة أو أمراً يشغله.

ثم نحىٰ إلىٰ مكتبه، وأخرج الورقة يُكمل من حيث انتهىٰ:
«أخرجتُ من حقيبتي الورقة والقلم، وشرعت أكتب يوميَّتي الفائتة، وإذ بها تقدم وتجلس أمامي. دون إستئذانٍ، ودون قول أي شيء، قالت: لا تمانع جلوسي هاهنا صحيح؟
لا.
أي تمام، أراكَ منشغلاً بالكتابة أو القراءة كعادتك، أو كما اعتدتُ رؤيتك!
ليس كثيراً إلىٰ هٰذا الحد، أحياناً أجدني في فراغٍ فأصرفُ نفسي إلىٰ ما فيه نفع، وأيضاً تسليةٌ لي.
ظننتُك من آكلي الكتب، النَّاهمين من الصَّحائف!
وهل يضرُّ ذلك؟
رُبَّما.. رُبَّما كانت كثرة ذلك فيه من المضرَّة ما فيه.
وأين البأس من نهم المعرفة؟ إلَّا أن تقصدين قول المًتنبِّي:
ذُو العَقْلِ يَشْقَى فِيْ النَّعيم بِعَقْلِهِ وأَخُو الجَهَالَةِ فِيْ الشَّقَاوةِ يَنْعَمُ
لعلَّي قصدتُ ما تقول، ولعلِّي لم أقصد ذلك.
هل تقولين أن العلم فيه مضرَّةٌ بحق؟
لا، ليس هٰذا ما عنيته، قصدتُ أنَّه.. لا عليك.
أنتِ ما تشائين.
ماذا تكتب إذن؟
مقالةً.
يتَّضح هذا، أعني عن ماذا؟
فلنقل عن يوميَّاتي.
هل لي أن أقرأ؟
يوميَّاتي ليست للقراءة العامَّة، هنالك ما أنشره في مدوَّنة المرصد ومدوَّنة العرب، لكِ الاطِّلاع عليها إن شئتِ (مع ابتسامةٍ ترفع حرج قولي ذاك).
فهمت، وا.. ستأتي إلىٰ الرَّحلة كما أحسب أليس كذلك؟
نعم، يا …
حَوراء، اسمي حَوراء
سررتُ بمعرفتك يا حَوراء وأنا …
زيد، أعرف.. إذن ألقاك يوم السَّبت، طاب يومك.
طاب يومكِ.

علىٰ هٰذه الشَّاكلة أنهيتُ جلستي معها، أتذكُّر فيها ما قيل لأوَّل مرَّةٍ، دون أن أخطأ بحرفٍ في سردها، أو أزلَّ بكلمةٍ، أو أضع مفردةً في غير موضعها. وقد رأيتني يا صديقي في تلك اللَّحظة أعاين الأثر الَّذي ألحقته بي، وأـبصر الضَّرر الَّذي جلبته عليَّ في خلوتي تلك، في صدر الحديقة، تحت غرزٍ الشَّمس، وظِلال السَّحاب تارةً، وهفيف الرِّياح مرَّةً، ونسيم الهواء أخرىٰ، ال
جو متقلِّبٌ وهي أكثر، وأنا منهما أشدُّ وأزود.»


تعليقات

إرسال تعليق

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

أنا الذي ما نظر إليّ أحد

شكوىٰ عن الفكر؛ فراغهُ، وتراكمهُ، ومللهُ ويأسهُ

أوَما تدري ما هي ثورتنا السُّوريَّة المباركة؟ ١