قصَّة قصيرة: الموت مرتين
(١)
- هٰذه المناقشات كانت لتجدي نفعاً يا شباب لو كان لها من التأثير علىٰ الحكومة ما لأصغر جنديٍّ في سرايا الدِّفاع، أرىٰ أن أمراً واحداً من جنود رفعت أعلىٰ قيمةً من رأي محاضرٍ في جامعة دمشق، فكيف بنا ونحن أغرارٌ لا رأي لنا ولا مسمع.
- كفاك خوفاً يا عامر، تشجَّع وابدي برأيك، ولا تخفهِ، اذكر قول الرَّسول: ❞السَّاكت عن الحق شيطانٌ أخرس❝، ولا تسكت عن الضَّيم. ثمَّ إنَّك تقول أن رأينا غير مسموع ونحن مجرد طُلَّابٍ في الجامعة؟ ألم تعلم بأنَّ حافظاً الأسد قد ترأَّس أول اجتماعٍ نقابيٍّ طُلَّابيٍّ في سوريا، إذ كان ذٰلك في اللَّاذقيَّة. لِمَ تراه كان بهٰذا التَّوجه برأيك؟ أليس إنَّما ذٰلك لشعوره بأنَّ من يُغيِّر واقع البلد هم الشَّباب فحسب. ليس الشِّيَّاب، فلا القوَّتلي بتاريخه النِّضالي، ولا الأتاسي، ولا الأطرش كان لهم من الحظوة في تغيير سياسات هٰذا البلد إلىٰ الأفضل بعد الجلاء، الأمر احتاج عزيمة الشَّباب، وقوَّة العسكر. لا ننتصر إلَّا بالجنديَّة. ولولا الرَّئيس الأسد وعزيمته في وجوب اختراق الجيش لتوسَّع الشُّيوعيِّون في أرجاء البلد، ولأحكموا السَّيطرة علىٰ مقدَّراتها لصالح السُّوفييت، تماماً كما كان الأمر في اليمن الجنوبي، أو في مِصر بعهد عبد النَّاصر، حتَّىٰ أتىٰ السَّادات -علىٰ خيانته وتوقيعه للصلح مع العدوِّ الصُّهيوني- ونظَّف مِصر من بقايا الماركسيَّة والشُّيوعيَّة.
- تقول يا باسل أنَّ لنا مطلق الحريَّة؟ فما الَّذي صنعه في رفاقه من حزب البعث؟ أولم تتناهىٰ إليك أخبار الوقائع في حماة وجسر الشُّغور وريف حلب؟ ألم تسمع عن الأهوال الَّتي تدور هناك، وكيف أن جيشنا بدلاً من قتال العدو الصُّهيوني ذهب يُقاتل شعبه هناك، وانتقل كذٰلك إلىٰ لبنان، يتعاون مع قوَّات الكتائب لمحاربة الفصائل الفلسطينيَّة؟ أين المقاومة المزعومة.. أو دعكَ دعكَ من كلِّ ذلك، لا نريد للحيطان أن تسمع، فلها آذان.
- لماذا تخاف يا عامر؟ ليس من أحدٍ هنا إلَّا أنا وأنت وشجاع وسعيد، فلا يسمعنا شخصٌ آخر. ألا تثق بنا!
- أثق، أثق لا ريب، فأنتم أصحابي منذ زمن.
- إذن تحدَّث وأكمل..
- عموماً ليس عندي ما أضيفه، الحريَّة المزعومة الَّتي أعلن عنها حافظ ليست بتلك الصُّورة الَّتي نحسبها، وحتَّىٰ إصلاحاته الَّتي يعمل عليها في جوانب الاقتصاد وغيرها ليست بذاك القدر، فهو لولا الدَّعم الخليجي له للسَّطيرة علىٰ سوريا حتَّىٰ لا يتوسَّع الشُّيوعيُّون أو حتَّىٰ الإخوان المسلمين لما كانت اللَّيرة لتصمد أمام الدُّولار، ناهيك عن ملفَّات الفساد الَّتي يُديرها رفعت الأسد، كذلك سيطرة جميل الأسد علىٰ المعابر والموانئ دون أن يدفع الجمارك للدَّولة. فأخبرني أين التَّطوير الَّذي يتحدَّث عنه؟ إن كان يعلم عن هٰذا فهي مصيبةٌ، وإن كان لا يعلم فهي مصيبةٌ أكبر.
- أنت تُدرك يا عامر أنَّ إدارة دولة بهٰذا الحجم، مع تاريخٍ حافلٍ بالانقلابات ليس بالأمر الهيِّن. انظر أنَّا لا أدافع عن حافظ الأسد، أنا فقط أتحدَّث بانصافٍ وموضوعيَّة لا أكثر، فلا تخلط، بين الأمرين.
- أكيد أكيد يا باسل.
- ألم يتناهىٰ إليك أن هناك مشاكل بين الأخوين، ورُبَّما يقوم حافظ باعتقال رفعت بسبب قضايا الفساد، هٰذا يعني أنَّه لا تأخذه بالحقِّ لومة لائم، فحتَّىٰ لو كان أخو الرئيس فسوف يحاسب، لا أحد فوق القانون، لا أحد، لا أحد.
- حتَّىٰ لو كان يا باسل.. المصائب الَّتي يقترفها حافظ أكبر من قضايا فساد بحقِّ بعض أفراد عائلته، هناك أيضاً (ولا تحسبوا أن هٰذه طائفيَّة) أقاويل أن حافظ قد حوَّل الجيش والحزب والدَّولة إلىٰ سلطة الطائفة العلويَّة، بعد أن تحالف مع طائفة الدُّروز، ومن ثم نحَّاهم عن هٰذه الشَّراكة بعد طرد السُّنَّة طبعاً، واستولىٰ هو علىٰ الجيش بأسره.
- غير صحيح يا عامر، لا تبالغ، ما زال كثيرٌ من السُّنَّة في عداد الجُند والجيش، ولم يخرج أحد. ثمَّ إنَّ الرئيس يكره الطَّائفيَّة ويمقتها، وكثيرٌ من أعوانه هم من السُّنَّة، فدعك من هٰذه الأراجيف المغرضة. ثم ألم ترىٰ أن الرَّئيس يُكثر من ذكر أمجاد بني أميَّة وتاريخهم في دمشق؟ هٰذا يعني أنَّه فكره ليس محصورٌ بتعصُّبٍ ديني، بل هو وطنيٌّ قوميٌّ بامتياز، يحبُّ بني أميَّة لأنَّهم عربٌ ولأنَّهم قد صاروا من تاريخ سوريا.
- هٰذا تزييفٌ!
- بل هي الحقيقة صدَّقني.
- دعنا من هٰذا يا باسل، ولنقم إلىٰ المحاضرة قبل أن يقدم الدَّكتور.
(٢)
- موضوعنا اليوم يا شباب عن أحوال المجتمع الأوروبي قُبيل الثَّورة الفرنسيَّة. لقد رأيتم كيف أنَّ المجتمع الأوروبِّي كان منغلقاً علىٰ نفسه، محصوراً علىٰ فكره بسبب رجال الدِّين، إذ كانوا يحاربون التَّقدُّم والتَّطوُّر بحجة الشَّعوذة والسِّحر، وكيف كان هؤلاء يحاربون العلم والإصلاح بسبب تمسُّكهم بعلاقتهم بطبقة النُّبلاء والارستقراطيِّين، بدلاً من دعم العوام من النَّاس، والوقوف إلىٰ جانبهم، وكانوا هم أحرص الفئات علىٰ مناهضة أيَّة ثورةٍ يقودها الفلَّاح لنزع الظُّلم، وقهر الفساد. تماماً كا رأينا هنا في سوريا، هٰذا البلد الحبيب، الَّذي كان قاب قوسين من سيطرة الشُّيوعيِّين والإخوان عليه، أحدهم مدعومٌ بالجهل في إدارة الدَّولة، والآخر مدعومٌ من الغرب الإمبريالي الصُّهيوني الأمريكي. وهؤلاء اجتمعوا علىٰ مناهضة ثورة الزَّعيم القائد حافظ الأسد حفظه الله، وثورته التَّصحيحيَّة العظيمة، الَّتي تمهِّد لهذا البلد أن يقوم من سباته، ومن اندحار تاريخه، واندثار خيراته تحت مستنقع الجهل والتَّخلُّف والانحطاط، برغم مرضه الَّذي يوافيه بين الفينة والأخرىٰ، ورغم التَّعب الَّذي يُصيبه علىٰ مرَّ السَّنين، أضيفوا إلىٰ ذلك العناء الَّذي يُلاقيه من الأمريكان والناتو والكيان الصُّهيوني من الجنوب، وتركيا الأتاتوركيَّة من الشَّمال و..
- عذراً دكتور أسعد.
- قل يا بني.
- ألا ترىٰ أن هناك أموراً لم يُصب بها الرئيس، أعني أنا أحترمه، ولٰكنَّه يحثُّ علىٰ النَّقد أليس كذٰلك؟
- نعم بكلِّ تأكيد، هٰكذا أخبرني حين التقىٰ معنا نحن الكادر التَّعليمي في جامعة دمشق.
- جميل جداً، ألا ترىٰ يا دكتور أنَّه أجدىٰ للرَّئيس بأن يحدَّ من سيطرة أفراد عائلته علىٰ مقدَّرات البلد، ومحاربة الفساد عند الأقربين قبل أن يتقدَّم نحوه خصومه في الدَّاخل..
- تقصد خصوم البلد في الدَّاخل.
- نعم، خصوم البلد في الدَّاخل، ثم ينتقل إلىٰ خصوم البلد في الخارج وهٰكذا، ينُظِّف الدوائر من الصُّغرىٰ الأقرب إلىٰ الكُبرىٰ الأبعد؟
- هٰذا ما يفعل أساساً، ولٰكنَّك تعلم أن الأمر يحتاج وقتاً، أنت لا يمكنك حتَّىٰ السَّيطرة علىٰ بيتك وحركات أهل بيتك فكيف تظُّنه سيصنع مع دولةٍ بحجم سوريا تعدادها يقرب من ١٥ مليوناً!
- الأمر عندي ليس بالصُّعوبة، يمكنني أن أسطير علىٰ بيتي المكوَّن من ابنتي إيناس وزوجتي (يتبسَّم ضاحكاً)
- يا بني أحيِّيك علىٰ جرأتك في طرح المواضيع، والَّتي أثقُ أنَّها لخدمة البلد وفي سبيل تحرِّره وتقدُّمه.
- بالطَّبع بالطَّبع يا دكتور، لأجل ذٰلك فحسب. وأنا أجلُّ الرئيس القائد لا ريب وما يصنعه بكلٍّ كدٍّ وجدٍّ واجتهاد لنهضة البلد، والقيام برفعته وشؤونه.
(٣)
- ألم أقل لك يا عامر أن تترك الرَّاد وشأنه، وألَّا تُشغِّل إذاعة البي بي سي، يكفينا من السِّياسة كلَّ ذٰلك القدر، أنت تعلم أن المُخابرات يمكنها معرفة ماذا تشاهد وماذا تصنع.
- كفىٰ خوفاً يا وعد، لن يحدث أيُّ خطبٍ، ثمَّ إنِّي ماذا أصنع؟ لا شيء، فقط أستمع، ولم أشترك في أي شيءٍ يُحيق بي خطراً أو أمراً من قبيل هذا.
- ولٰكنَّك تعلم ماذا حدث لابن عمِّي نبيل، لقد أخذوه من عقر داره في منتصف اللَّيل، ولا نعلم حتَّىٰ الآن ماذا حدث له.
- ابن عمِّك ذاك وضعه مختلفٌ، فقد كان منضماً للطَّليعة المقاتلة، وله علاقاتٌ قويَّة مع تنظيم الإخوان المسلمين.
- غير صحيح، لقد كان بعيداً كلَّ البعد عنهم، حتَّىٰ أنَّي أذكر أن مكتبته الشَّخصية لا يوجد فيها كتابٌ واحدٌ ديني، كلَّها كتبٌ لماركس وإنجلز وغيرهم من رؤوس الشِّيعيَّة.
- تقصدين الشِّيوعيَّة (يضحك)
- لا فرق بينهما.
- استمع لكلام زوجتك يا عامر وكفاك سخرية. (تدخَّلت والدته)
- ألن تقولي حينها يا أمُّي أنِّي محكوم (يضحك)
وفجأة، وإذ بطرق شديدٍ علىٰ الباب، ثم وكأنَّ الباب انخلع، ودخل ملثَّمون، وضربوا عامراً، ولكموا زوجته وعد، حاولت أمُّه أن تتدخَّل وهي تصيح بهم، فضُرِبت هي الأُخرىٰ، وصراخ ابنته إيناس يعلو. واقتادوه إلىٰ الخارج.
(٤)
- لا أعلم يا خالة، لم نصل بعد إلىٰ أيِّ خبرٍ عنه، راجعنا شعبة الأمن السِّياسي، والجنائي، والمخابرات الجويَّة والأرضيَّة والبحريَّة والفضائيَّة، ولم يخبرنا أحدٌ عن مكانه، لا أحد، وليس عليه أيِّ قضيَّة في محكمة أمن الدَّولة أو المحاكم المدنيَّة أو حتَّىٰ العسكريَّة.
- يا بُني يا باسل لم تظنُّهم أخذوه؟
- لا أعلم، ولٰكنَّني قد قلتُ له مراراً أن يكفَّ عن التَّحدُّث في السِّياسة ولم يستمع لي.
- يا ويلي، يا ويل أمِّه.
- هل تظنُّ أنَّ أحداً كتب فيه تقريراً؟
- رُبَّما يا عم أبو عامر، فقد جادل الدَّكتور أسعد في المحاضرة مرَّة، وكان ذٰلك أمام جمعٍ من الطُّلاب. فلا ريب أنَّ أحدهم كتب فيه تقريراً.. لا ريب لا ريب.
- إنَّا وإنَّا إليه لراجعون.
وإذ بالهاتف يرن.. يَتوجَّه أبو عامر نحوه، يُمسك السَّمَّاعة: ألو مين معي؟
- عمر الحَلوَجي؟
- إي نعم تفضَّل.
- نحن شعبة الأمن السِّياسي، رجاعنا اليوم المسا بسرعة.
- أي تمام، حاضر حاضر. (وأغلق السَّمَّاعة)
- من المتَّصل يا أبو عامر؟
- الأمن السِّياسي يا أم عامر طالبيني لعندهم المسا.
- لا تروح لا تروح.
- انهبلتي يا امرأة، إذا ما رحت سيأتون ليأخذوني شحطاً!
(٥)
ما كان يعلم أبا عامراً أنَّه ما ذهب إلَّا ليأخذ هُويَّة ابنه عامراً، بعد قرابة ٦ أشهرٍ من فقدانه. وتسليم الهُويَّة له لا يعني سوىٰ شيءٍ واحد: أنَّ عامراً مات، وانتهىٰ أمره. أمَّا الجُثمان فلن يُسلَّم إليه كعادة الأمن السِّياسي في التَّعامل مع هٰكذا مسائل. إذ كان مع مطلع الثمانينيَّات يُجابه الأمن بانتقامات من جماعة الإخوان المسلمين فخشيَ النِّظام إن سلَّم المُعتقلين أو أفصح عن السَّجَّانين أن يتعرَّضوا لحالات انتقامٍ مُباشرة.
عاد أبو عامر كئيباً محزوناً، وأخبر أهل بيته بالخبر، فصُرِعت وعد زوجة عامر من هول الصَّدمة، وأخذت أم عامر تولول وتنوحُ علىٰ ابنها عامر. وابنها الآخر عمير يهدِّئ من روعها دون جدوىٰ.
أقيم عزاءٌ مُصغَّر كما أتت التَّعليمات من الأمن، فلم يحضر سوىٰ الأهل والأقارب وبعض الجيران، الَّذين أتىٰ جلُّهم خفيةً وخرجوا بسرعة كي لا يلحقهم أذىٰ أو مصيبةً تودي بهم.
بعد مرور أشهرٍ، أخبر والد وعدٍ أبا عامر أنَّه سيأخذ ابنته إلىٰ جواره، فما زالت صغيرة وأمامها مشوارٌ طويلٌ في حياتها. فسيزوِّجها. وأمَّا الطفلة إيناس سيأخذها حتَّىٰ تكبر مع والدتها، وحين تبلغ سيُعيدها لهم.
لم يحتمل أبو عامرٍ ذاك الأمر، وحار فيه، ثم أجابه بإن شاء الله، وانصرف إلىٰ زوجته أم عامر يخبرها الخبر، فحرنت حزناً شديداً علىٰ أنَّها ستُفارق ما تبقىٰ من رائحة ولدها، فسألته عن الحل، ولم تحر جواباً منه، ثم أعادت السُّوال، وهو صامتٌ لا يُجيب، ثم صرخت به: أبو عامر، لن أُعطيهم ابنتي وعد ولا إيناس.
- حقُّها يا امرأة أن تذهب وتعيش حياتها، ولا يمكننا منعها من ابنتها.
- لن أفارقهم ما حييت! أبداً أبداً..
- هناك طريقةٌ لتجاوز الأمر.
- وما هي؟ بالله عليك أيَّا كانت سأقبل.
- أن.. أن نزوِّجها من عمير، فتبقىٰ هي وابنتها معنا، ولا تذهبان للغريب.
وقع الرأي هٰذا علىٰ أم عامر كوقع الجلمود علىٰ الرَّأس، ولم تحركه شفتيها إلَّا رجفة! ثم قالت بعد صمتٍ استمرَّ دقائق: نعم، أوافق.
(٦)
مضىٰ ١٠ أعوامٍ علىٰ زواج عميرٍ من أرملة أخيه وعد، وخلال ذلك أنجبا ابناً سمَّاه علىٰ اسم أخيه: عامر. وبنتاً سمَّاها عادلة علىٰ اسم أمِّه. وقد صاروا يذهبون كلِّ أشهرٍ إلىٰ قبره بعد أن وصلهم خبرٌ من الأمن السِّياسي بمكانه، وما ذلك إلَّا بمبلغٍ تجاوز الخمسين ألف ليرة لأجل الافصاح عن مدفنه.
كان أعسر ما علىٰ عمير في بداية زواجه أن يتقبَّل فكرة زواجه من زوجة أخيه، الَّتي لم ينظر إليها طوال حياته إلَّا كما نظر إلىٰ أختيه سعاد وملاك، وما احتمل فكرة الزَّواج منها حينما أطلعه أبوه علىٰ رأيه، بل وعارض بشدِّة رغم إصرار أمِّه وحتَّىٰ والد وعدٍ ووالدتها. لٰكنَّه لمَّا نظر يوماً إلىٰ ابنة أخيه إيناس، وقد عادت مع أمِّها من عند أخوالها، ورآه تحتضنه باكيةً لأنه بعدت عنه ليومين، رقَّ لها، وبدا يلين لفكرة الزَّواج، حتَّىٰ أنَّه اشترط في بادئ الأمر أن لا يقربها، ويكون الزَّواج علىٰ ورق، غير أن جارهم شيخ الجامع أخبره أنَّه لا يوجد هٰكذا أمرٌ في الإسلام زواج بورقٍ وغيره. ثمَّ إنَّه لا بأس بأن يتزوج الرجل أرملة كخيه، ليحفظ له عهده في ابنته وذمَّته، وألا تضيع حياتها وتبعد عن أهلها. رضي أخيراً عمير، وعاش مع وعد فترةً بعد تجاوز جملةً من الإحراجات والمصاعب.
جلست العائلة علىٰ سفرة العشاء، سأل أبو عامرٍ ابنه:
- أذهبتُم اليوم لزيارة أخيك يا عمير؟
- نعم يا أبي، وأخذتُ معي إيناس، وقد كانت فرحة مسرورةً بذلك لمَّا أخبرتها أنَّا ذاهبون بعد المدرسة مباشرةً.
- الله يرضىٰ عليك يا ولدي.
- آمين.
- حكت لك شي وعد لما زرت أخوك؟
- لأ، ما قالت شي، ولا حتَّىٰ لمَّحت.
- الله يديم عليكم السُّرور والمحبَّة.
- آمين آمين يا أمِّي.
مع دخول وعد، وقد وضعت ابريق الشَّاي، وأخذت تسكب للجميع، ناب الجوُّ بهجةً كان قد خفيت مدَّة من الزَّمن علىٰ عائلة أبي عامر، حتَّىٰ حسبوا أنَّ البهجة نسيت عنوان دارهم. يُعتقل الرجل فتحسب أنَّ أهله كلَّهم معتقلون، ويُقتل فيلحقون به وهم ما زالوا يتنفَّسون، أمر المعتقلين ليس عدداً فحسب، لا يُعتقل فرد، بل تُعتقل العائلة كلُّها، ولا يقتل واحدٌ بل جماعة، وأشرُّ ما في المسألة أنَّ من بقي يتجرُّع من العذاب أكثر ممَّن رحل. وأشدُّ من هذا وأمضىٰ.. ما سترون حين قُرِع الباب فجأة، فانتابهم خوفٌ وذعر، وتذكَّروا تلك اللَّحظة حين قدم الأمن السِّياسي عليهم، وطرقرا الباب بقوَّةٍ، ثم خلعوه ودخلوا!
توجَّه عمير نحو الباب، ونادىٰ:
- مين؟
- أنا أنا!
أحسَّ بأنَّه سمع هٰذه الأنا قبل مرَّةٍ، ولٰكنَّه لم يذكر علىٰ وجه التَّحديد، وكأنَّ الأمر أشبه بالخيال منه من الواقع، وكأنَّ تصورات الذِّهن تُغلق في حينها ذاك، والذاكرة الَّتي تذكر كلَّ لحظةٍ مرَّ بها؛ كأنَّها اختلطت، وما عادت تستبين الأمر علىٰ حقيقته.
نادىٰ أبو عامر ابنه عميراً: من في الباب يا عُمير؟
- لا أعرف يا أبي، سأفتح له
- انتظر لا تفتح تأكَّد من الباب (هتفت به وعد)
فتح الباب، ورأىٰ أمامه شابٌ حليق اللِّحية والشارب والشَّعر والحاجب، كأنَّه مصابٌ بالسَّرطان والعياذ بالله، وعند عينه كدماتٌ طال عهدها فليست جديدة والحروق واللَّسعات وقد امتدَّت من ذراعه إلىٰ كفِّه، وعند أصابعه لا تجد أثراً للأظافر، بل زرقةً لا تخفىٰ، واصبع الإبهام في يده اليُمنىٰ ملفوفٌ بشاشٍ من القطن، وقدمه مجبَّرةٌ عند الكاهل. تمعَّن فيه فما عرفه. تقدَّم أبو عامرٍ إلىٰ الباب، ومن ورائه أم عامر ووعد ترقبانه.
سأله: من أنت؟
فابتسم له، وبدأ يضحك بصوتٍ مرتفعٍ صاخب، وعيناه قد اغرورقتا بالدُّموع، وبعضها سال علىٰ خدِّه، ثم هدأ قليلاً، وضحك ثانيةً، ثم هدأ أخرىٰ وضحك ثالثَّة وقد رأىٰ أبا عامراً: ألم تعرفني يا آخي، ألم تعرفني يا أبي.
- عامر!!
تعليقات
إرسال تعليق